ما إنْ مرَّت الساعات الأولى لعملية طوفان الأقصى حتى أدرك جيش الاحتلال الإسرائيلي طبيعة الهجوم الواسع الذي يتعرض له غلاف غزة. هجوم ضخم متعدد الأبعاد نفَّذه مئات المقاتلين على المواقع العسكرية و الكيبوتسات المحيطة بقطاع غزة.
طوال الفترة التي سبقت الهجوم كانت تقديرات شعبة الاستخبارات الإسرائيلية (أمان) التي وصلت إلى قيادة فرقة غزة قبل أيام من عملية "طوفان الأقصى" خلصت إلى أن الحالة الأمنية مع غزة هادئة بطبيعة الحال، و من غير المتوقَّع حدوث أعمال كبرى على السياج الفاصل، و أنه لا معلومات استخبارية موثوقة عن أي هجمات قريبة قد تحدث، و أن السيناريو الأسوأ المتوقَّع هو اختراق متزامن لنقطتين مختلفتين على طول السياج الفاصل مع قطاع غزة، و ذلك وفقاً لما نقلته صحيفة "معاريف" العبرية.
على أثر هذا الفشل المدوِّيّ للاستخبارات الإسرائيلية برز مجدداً في الإعلام الإسرائيلي النقاش حول "المفهوم" و طرق صياغة التقييمات الاستخبارية لدى شعبة "أمان"، و استذكار الفشل الذريع من التحذير حول حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 الذي كان "مفهوماً" لدى الاستخبارات العسكرية باستحالة شن الجيش المصري و السوري هجوماً ضد إسرائيل.
و بعد خمسين عاماً تكرر هذا الفشل في تقييم الاستخبارات الإسرائيلية للحالة الأمنية مع قطاع غزة، بعد أن قدّرت الاستخبارات أن "التسهيلات" التي قدمتها الحكومة الإسرائيلية لسكان القطاع بوساطة قطرية ضمنت هدوءاً يحافظ عليه قادة حماس "المردوعين" بالمال و التحسين الاقتصادي، و هو ما كان اعتباراً لا قيمة له لدى قيادة كتائب القسام يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
"المفهوم" تاريخياً
"المفهوم" هو الاسم المستعار الذي أطلقته لجنة "أغرانات" للتصور الذي صاغه قسم الأبحاث التابع لشعبة استخبارات جيش الاحتلال الإسرائيلي (أمان) خلال عام 1971 فيما يتعلق بشرط مصر و سوريا لخوض الحرب.
و قد صاغت لجنة «أغرانات» اللقب استناداً على ما يبدو إلى شهادة رئيس وحدة الاستخبارات العسكرية في الحرب الجنرال إيلي زعيرا، الذي أشار في شهادته أمام اللجنة في كثير من الأحيان إلى النظرية المقدمة إليه من الباحثين فيما يتعلق بنيَّات الحرب المصرية على أنها "مفهوم"، و في جوهر هذا المفهوم كما حددته اللجنة، كان هناك ثلاثة افتراضات أساسية:
1. لن تخوض مصر حرباً ضد إسرائيل ما لم تضمن لنفسها أولاً قدرة جوية على مهاجمة العمق الإسرائيلي، و بخاصة المطارات الإسرائيلية الرئيسية من أجل شل سلاح الجو الإسرائيلي.
2. سوريا لن تشن هجوماً كبيراً على إسرائيل إلا في نفس الوقت الذي تشن فيه مصر.
3. لن يكون العرب مستعدين للحرب إلا إذا تمكنوا من فعل شيء لمجابهة سلاح الجو الإسرائيلي و سيتطلب ذلك شراء طائرات جديدة (ميغ-23 وميغ-25) و صواريخ أرض-أرض آر-17 (سكود بي) و لونا-إم (فروغ -7).
قبل الحرب تمكنت سوريا من الحصول على صواريخ "فروغ -7"، و مصر على صواريخ "سكود بي" لكن كانت الأعداد المستلَمة لا تزال قليلة جداً لخلق تهديد خطير للقواعد الجوية الإسرائيلية، و جرى تسليم طائرات ميغ-23 فقط بعد بدء الحرب و لم يجرِ استخدامها في القتال.
و بناءً على ذلك لم يتحقق الشرط بالفقرة 3 من المفهوم، و أصبحت الفقرة 1 مستحيلة، و أي بيانات تشير إلى استعداد مصر و سوريا للحرب فسَّرتها الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) على أنها "احتمال الحرب منخفض".
نتيجة لذلك لم يكن العرب بحاجة إلى خلق تكافؤ واسع النطاق مع القوات الجوية الإسرائيلية، و للحماية من القوات الجوية على طول خط المواجهة فقد اعتمدوا على نظام دفاع جوي أرضي قوي (أنظمة الدفاع الجوي "إس-75"، و"إس-125"، و"وسام-6" ومكملة بعدد كبير من المدافع المضادة للطائرات و المدافع الرشاشة، بالإضافة إلى "ستريلا-2" و هي من منظومات الدفاع الجوي المحمولة).
في أبريل/نيسان 1973 حصلت إسرائيل على معلومات عن نية مصر بدء الحرب في منتصف مايو/أيار، و أعلن الجيش الإسرائيلي الجاهزية القتالية الخاصة، و استمرت تلك الجاهزية من مايو/أيار إلى أغسطس/آب 1973 و لم تبدأ الحرب مطلقاً و أُلغيت الجاهزية القتالية، التي أدت ا إلى ارتفاع التكاليف و إجهاد القوات الإسرائيلية.
لتصفية التقارير الكاذبة، تنشئ الاستخبارات مرشحات معينة تسمح بتفسير التقارير الواردة بشكل صحيح، من وجهة نظر استخباراتية، تسمى هذه المرشحات "المفهوم".
و حتى صباح السادس من أكتوبر/تشرين الأول كانت هذه المرشحات تقدَّر أن مصر و سوريا لا تنويان خوض الحرب، و ذلك حسب الرؤى التي قدمها الضابطان رفيعا المستوى في الاستخبارات الإسرائيلي؛ العميد آريه شاليف رئيس قسم الأبحاث، و رئيس الفرع السادس (مصر) المقدم يونا باندمان، اللذان تحمَّلا مسؤولية الفشل بشكل رئيسي حسب لجنة «أغرانات» التي حققت في فشل المعلومات الاستخبارية التي استند إليها رئيس شعبة الاستخبارات آنذاك إيلي زعيرا، الذي أوصت اللجنة في النهاية بإقالته بسبب مسؤوليته الشاملة.
كجزء من توصيات لجنة «أغرانات» أنشأ جيش الاحتلال قسماً جديداً في شعبة الاستخبارات أُطلِق عليه قسم المراقبة. يراقب هذا القسم التقييمات الاستخبارية للشعبة و يفحصها بطريقة مهنية، كانت فكرة إنشاء هذا القسم هي زرع نواة التفكير النقدي في نظام الاستخبارات لمنع الفشل التالي.
و يعد هذا القسم محامي الشيطان الذي يقدم تقييمات معارضة و الذي يعرفه عامة الناس من خلال قصة الرجل العاشر التي تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة خلال السنوات الماضية، و التي تقول إنه "إذا اتفق تسعة أشخاص على رأى واحد يصبح من المحتَّم على الشخص العاشر أن يخالفهم الرأي فيما أجمعوا عليه و يبحث في كل ما هو محتمل عدا ما اتفق التسعة الآخرون عليه".
المفهوم قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول
لتجنب الفشل التالي تشارك ثلاث هيئات رئيسية في تشكيل التقييمات الاستخباراتية الإسرائيلية: شعبة الاستخبارات في جيش الاحتلال (أمان)، و الشاباك (جهاز الأمن العام)، و الموساد، و كان أحد الدروس المستفادة من حرب أكتوبر/تشرين الأول هو الفصل الواضح بين تلك الهيئات و العمل بالتوازي، و هذا حتى يتمكن بعضها من انتقاد بعض، و تحدي التقييمات و دمجها في النهاية في المستوى السياسي بأكثر الطرق الممكنة موثوقية و سيطرة قدر الإمكان.
كانت الاستخبارات الإسرائيلية مجتمعةً ترى أن العدو الرئيسي لإسرائيل حالياً هي إيران و حلفاؤها في المنطقة. و كان يُنظَر إلى حركة حماس على أنها أحد وكلاء إيران، و أنه في حالة اندلاع حرب واسعة النطاق ستشارك حماس بشكل رئيسي فيها.
و مع ذلك لم تتوقع الاستخبارات الإسرائيلية عملية مستقلة من تنفيذ حماس بشكل أساسي كما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، و هذا يرجع إلى مفهوم "ردع حماس"، و يرتبط هذا المفهوم بإدراك جيش الاحتلال الإسرائيلي، و الاستخبارات بشكل أخص، أن حماس تحاول أن تهتم بمطالب السكان في قطاع غزة و أن تلبّي احتياجاتهم، و قيَّمت "أمان" أن الوضع الصعب في القطاع من النواحي المادية يوجب على الحكومة التي تديرها حماس توفير الخدمات الطبية و التعليمية و تحسين الوضع الاجتماعي.. إلخ.
لتعزيز تقييم إسرائيل لمفهوم الأمن مقابل المال خلصت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بعد العمليات العسكرية الثلاث ضد "الجهاد الإسلامي" إلى أن حماس غير مهتمة بالعمل العسكري، و أنه خلال العمليات التي نُفِّذت بشكل مباشر على تنظيم الجهاد و هي: عملية "الحزام الأسود" في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، و عملية "بزوغ الفجر" في أغسطس/آب 2022، و عملية "درع و سهم" في ماوي/أيار 2023، لم تتدخل حماس في المواجهة المباشرة مع إسرائيل، و تظاهرت بأنها غير راضية عن "الجهاد الإسلامي"، مما أعطى انطباعاً للمؤسسة الاستخبارية الإسرائيلية بأن حماس غير معنية بدخول مواجهة مع إسرائيل، و أنها تفضل الحفاظ على حكمها و مقدراتها المالية.
الخداع أساس كل عمل عسكري
قال المفكر العسكري الصيني صن تزو: كل الحرب تعتمد على الخداع، لذا عندما تكون قادراً على الهجوم عليك أن تبدو غير قادر على ذلك، و عندما يتعين عليك إدخال قواتك في المعركة علينا أن نظهر خاملين، و عندما نكون قريبين من الهدف علينا أن نجعل العدو واثقاً بأننا بعيدون، أمّا عندما نكون بعيدين فيجب علينا أن نُقنع العدو بأننا قريبون، قريبون جداً".
كما أصبح واضحاً للجميع أن عدم مشاركة حماس في معارك الجهاد الإسلامي مع جيش الاحتلال، لم يكن سوى استعدادات حماس للتجهيز لعملية "طوفان الأقصى"، و أن كل ما سبق كان عملية خداع كبرى استمرت سنوات، و قد انطلت على شعبة "أمان" و على المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ككل.
قبل هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ورد بعض التقارير الاستخبارية لشعبة "أمان" عن خطة "سور أريحا"، (و هي الاسم الرمزي الذي أُطلق على خطة طوفان الأقصى)، و أيضاً تقارير أخرى من المراقبات الحدودية لتدريبات و أنشطة غير مألوفة على طول السياج الفاصل مع القطاع، و تقارير أخرى تحليلية لتكتيكات حماس، بالإضافة إلى اعتراض فرق التنصت موجات حماس اللا سلكية عن تدريبات تضمنت عبارة "جرى إنجاز المهمة، جرى القضاء على كل من كان في الكيبوتس".
و هذا يعيدنا إلى أحد استنتاجات حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973: لا يمكنك أن تتوقع معرفة نيّات للعدو؛ تحتاج إلى التركيز على قدراته.
تتلقى الاستخبارات الإسرائيلية باستمرار نهراً من المعلومات، تشمل تقارير العملاء البشرية من الوحدات المختلفة، و تقارير من وحدات الجمع الحربي الميدانية و المراقبات الحدودية، و بيانات الاعتراض الإلكترونية لأنظمة التجسس و استخبارات الإشارة الأرضية والجوية، و الصور الجوية التي تعمل على التقاطها المُسيرات التي لا تنقطع عن سماء القطاع، و تحليل الصحافة المفتوحة (أوسنت).
و في هذه المعلومات حقائق يمكن تفسيرها بأن «العدو (المقاومة) ينوي الهجوم في المستقبل القريب جداً"، خصوصاً إذا كانت المقاومة نفسها تريد أن يُفهم الأمر بهذه الطريقة و تطرح معلومات مضللة مناسبة.
إذا كانت المعلومات صحيحة فيجب على جيش الاحتلال أن يطلق ضربة استباقية أو على الأقل أن يركز قواته على الدفاع، و هذا الأخير يعني شلل التدريبات الجارية و عمليات صيانة المعدات العادية، و بشكل عام الكثير من النفقات غير الضرورية التي لا مبرر لها في حالة عدم حدوث الهجوم مطلقاً.
لذلك لم يتخذ الإسرائيليون أي إجراء من شأنه أن يقوض خطة "سور أريحا" التي وصلت إلى الاستخبارات الإسرائيلية قبل عام من تنفيذها، و رأت أن الخطة أكبر من أن تنفِّذها حماس.
و هذا يعود بنا إلى شرط الاستخبارات الإسرائيلية في مفهومها أن حماس لن تنفِّذ عملاً كهذا إلا في حال شنت إيران و كامل حلفائها حرباً ضد إسرائيل، و أن حماس بمقدراتها الحالية لا تستطيع خوض الأمر بمفردها إلا في ظل ظروف مُثلى لن تتحقق في الوقت الراهن، و أن حماس في الأصل مردوعة ما دام تدفق المال القطري و غيره مستمراً، و أن التحسينات الاقتصادية مستمرة.
و قد جاء السابع من أكتوبر/تشرين الأول لينسف كل هذا المفهوم الوهمي الذي آمن به قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي و استخباراته العسكرية، و وضع كُلَّ أجهزة استخبارات العالم في حيرة و دهشة من أمرهم لما رأوه واقعاً يوم العبور الثاني.. و الفشل التالي.