كان من الضروري السهر علي المقاييس الصحية من اجل تجنيب رجالي ملاقاة المصير الذي لقيه بعض من سبقونا في هذه المهمة و إن كان المصابون قلة، مثل مرض البلهارسيا، و هو مرض مقعد و ينتشر كثيرا في مصر، و خاصة في مناطق دلتا النيل التي كنا متواجدين بها. لقد كان هناك قنوات صرف تمر علي منطقتنا و تصب في الدلتا، و هذا مكان سريان المرض بنفسه. و لمقاومة هذا المرض الخطير، بدأنا بمنع الإقتراب من قنوات الصرفة"الترعة"و زودنا كل قطاع بنصف برميل يحوي 200 لتر يجبر الجنود علي غلي ملابسهم بداخله ثم تنظيفه بالماء الساخن، و قد أثمرت هذه الإجراءات لأننا أثناء عودتنا إلي الجزائر لم نسجل حالة إصابة واحدة. و كان الجنود قبل كل إجازة تمنح لهم للتوجه إلي القاهرة يصطفون امام عيادات الوحدات، و كانوا يحقنوان بحقنة بنسيلين ذات مفعول مؤخر حتي لا يكونوا عرضة لأي مرض، و كان الجنود يحترمون هذه الإحتياطات الصحية رغم كونها تعسفية، كما ان ما يرونه يصب يوميا عبر قناة"بانوراما"المصرية يدفعهم إلي الصرامة أكثر فأكثر.

و كانت الصور الدعائية للحضارة الفرعونية التي كان قطاع السياحة يتبجح بها سرعان ما تترك مكانها لصور فلاحين يغتسلون أو يغسلون أبقارهم داخل المياه المتعكرة في القناة، كما كان النساء يغسلون الملابس او الأواني، في حين كان الأطفال يقتحمون، لا مبالين الماء و هم عرايا.

موت الفريق الأول عبد المنعم رياض

لقد سلبت الحرب و البؤس، الذي هو نتيجة الحرب الطبيعية، الحياة من معناها، فالموت أضحي شيئا عاديا. و قد أخبرني قائد وحدة الدرك الخاصة بحاكم الصلح يوما انه لما رأي جثة طافية في مياه قناة الصرف ذهب ليعلم الشرطة، فتلقي جوابا مخيبا أغاظه، حيث قيل له "سيبك(دع عنك هذا الأمر)". و لأنني صدمت بدوري من هذه الحادثة، أخبرت الرائد غازي، و هو ضابط فلسطيني كان لواؤه متواجدا قرب مواقعنا الخلفية فأجابني و هو مشدوه بتفاجئي :"ألا تعلم ذلك ؟ إن هذا امر مألوف هنا. و عندما نري جثة فإننا نمسكها من الشعر و نقلبها لنري إن لم تكن لواحد من رجالنا."و إذا كان الأمر بالعكس، فإنه شرح لي ببرودة أنهم يشقون طريقا في قناة الصرف للموتي ليلقيهم الماء بعيدا. و أصابني هذا الجواب المرعب بالقشعريرة، فالشرطة كان لديها من الوقاحة ما يجعلها تجرم كل من يزعجها بتقديم هذه المعلومات المثبطة للعزيمة."

مقتطف من كتاب السيد الجنرال خالد نزار بعنوان "علي الجبهة المصرية اللواء الثاني الجزائري المحمول 1968-1969" تقديم أحمد بن بيتور صفحة 61-62 منشورات ألفا الطبعة الأولي 2010