قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الخميس, 04 كانون1/ديسمبر 2014 06:49

أدوات الاستئصال الفكري الممهد للاستعمار: كيف يؤدي الاستشراق وظيفته التحريفية؟1/4

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
قيم الموضوع
(0 أصوات)

●"استئصال"عام لجميع السكان الأصليين وليس مجرد علم محايد عن الإنسان (أنثروبولوجيا) أو استشراق خاص بالشرق وحده

تحدث كثير من منتقدي الاستشراق عن دوره في تشويه صورة الشرق، موضع دراسته أو ضحيته، للتمهيد للسيطرة عليه و تبرير التحكم فيه، و قد وجدت في دراسات سابقة عن التاريخ الأمريكي أن ما انطبق على الشرق عموماً، انطبق أيضاً على غير الشرقيين من السكان الأصليين الذين احتك الغربيون بهم و دخلوا في صدام معهم خارج المنظومة الجغرافية التي تقع إلى الشرق من أوروبا، مثل السكان الأصليين في الأمريكتين، و هو أمر يعم إفريقيا جنوب الصحراء و أستراليا أيضاً، فعن كل تلك القارات نشأت علوم اجتماعية منها ما سمي تأدباً و تمويهاً بالأنثروبولوجيا أو علم الإنسان، و لكنها مارست على السكان الأصليين في تلك القارات ما مارسه الاستشراق علينا من تشويه و تبرير العدوان، و يقول جيرار لكلرك إن الأنثروبولوجيا نادراً ما أعادت النظر بمعطيات الاستعمار و دوافعه "بل لقد قدمت على الدوام للاستعمار حجة من الطراز الأول، فإذا امتاز الاستعمار بالعنف، و النهب، فهو عنف "معقلن" أي أنه شرعي و ضروري، و إذا كان العالم قد عرف الاستعمار منذ القدم (الفينيقيون، اليونان، إلخ)فإن ميزة الاستعمار الحديث ليس التعالي، بل إنه حدث يسوغه تفوق المجتمع العلمي خاصة في مجال العلوم الاجتماعية"[1]، و عن معاناة السكان الأصليين في الولايات المتحدة من هذا الاستعمار الثقافي يقول أحد وجوههم البارزة و هو الأكاديمي فاين ديلوريا إنه منذ حصر الهنود في المحميات كان علماء الأنثروبولوجيا وراء كل السياسات التي ابتليت بها القبائل، و ضرب مثلاً للمفارقة التي يجسدها هذا العلم الذي يستهدف حل مشاكل الصراع البشري في الظاهر في الوقت الذي يؤلف هو مشكلة جديدة في حد ذاته، فقال إن أحد العلماء قام بدراسة إحدى القبائل التي يبلغ عدد أفرادها ألف شخص، فاستغرقت دراسته عشرين عاماً و أنفق عليها عشرة ملايين دولار لو أنها أنفقت في تحسين أوضاع القبيلة بالبناء و العمل لما ظلت هنالك مشكلة للدراسة أصلاً (!)[2].

و قد عمت الممارسة الاستشراقية جميع السكان الأصليين خارج أوروبا الغربية و استهدفت العدوان عليهم حتى قبل أن تنشأ الأنثروبولوجيا رسمياً في القرن التاسع عشر، فعمليات التنميط و التشويه و التحريف ترجع زمنياً إلى الوراء أبعد من ذلك أي منذ بدايات الاحتكاك، الأمر الذي يعطيها بجدارة اسماً ذا معنى مزدوج هو"الاستئصال"، أي دراسة المواطن الأصلي على غرار ما يفعله الاستشراق بالشرق من جهة، و ذلك لنفس الغرض الذي يستهدفه الاستشراق من جهة أخرى و هو التحكم بهذا المواطن لسلبه أو اقتلاعه أو إبادته، و هو ما تؤديه كلمة الاستئصال: 1-المشتقة من كلمة أصل المتعلقة بالسكان الأصليين، 2-و المستمد معناها من العدوان.

و قد وضح الأثري الأمريكي ألكسندر برادفورد سنة 1841 الربط بين مختلف السكان الأصليين في المخيلة الغربية في عصر الهجمة الغربية على العالم عندما قال إن تحطيم الهنود في أمريكا ليس إلا تحطيماً لحضارة شرقية على يد الحضارة المسيحية الأنجلو-أوروبية[3]، و طالب السياسي البريطاني لورانس أوليفانت صاحب واحد من أوائل المشاريع الصهيونية في فلسطين و الأردن (1880) بوضع العرب هناك في محميات على غرار النظام "الذي تبنيناه بنجاح في كندا مع القبائل الهندية في شمال أمريكا الذين احتفظوا بمحمياتهم، و يعيشون بسلام فوق أديمها في وسط السكان (البيض) الزراعيين المستقرين"[4]، و هو الحل الذي مازال الكيان الصهيوني يعمل على تطبيقه في فلسطين بواسطة زرع الاستيطان في الضفة الغربية.

و عمم الباحثان ضياء الدين سردار و ميريل وين ديفيز ذلك بتتبع هذه الظاهرة و القول إن الأفكار التي ظهرت في أوروبا أثناء حربها المقدسة ضد الإسلام و مواقف الحط من قيمة المسلمين الناجمة عنها انتقلت فيما بعد لتصنع الأفكار التكوينية للولايات المتحدة و التي أسست طريقة التعامل مع سكانها الهنود الأصليين، و بعد الانتهاء من مواجهتهم انتقلت هذه الأفكار مرة أخرى إلى ساحة جديدة حيث أصبحت الولايات المتحدة تنظر إلى بقية سكان العالم كما نظرت في السابق إلى الهنود الحمر[5]، و هو ما يؤكده المؤرخ الأمريكي ألفن جوسيفي بالقول إن استمرار الاعتقاد الأمريكي بجاذبية الثقافة الأمريكية يؤكد أن دروس المواجهات مع الهنود لم يتم استيعابها و هو ما أدى إلى دروس أكثر إيلاماً في فيتنام و العالم الإسلامي و أماكن أخرى[6].

المصالح و أدواتها المعرفية

و أشار منتقدو الاستشراق كذلك إلى أن هذا التشويه الذي قام به نبع من كونه تلبية لحاجات غربية داخلية و لم يكن مجرد حقل اهتمام علمي محايد، فمن الحاجة إلى مرآة لتحديد الهوية الغربية الذاتية و تحديد ما يريده الغرب و ما لا يريده مروراً بتبرير العدوان على الشرق و التحكم فيه وصولاً إلى تلبية ميول و غرائز مكبوتة في أوروبا[7]، و لأجل كل ذلك استخدم الاستشراق خاصة و"الاستئصال" عامة عدة أدوات للانقضاض على الضحية و رسمها بما يناسب هذه الأهداف:

1-إسقاط الرغبات الذاتية على صور الآخرين: لم يكن تبرير العدوان هو الهدف الوحيد من الاستشراق خاصة و الاستصال عامة، و إن كان هو الهدف الأوضح في هذه العملية، و لكن للرؤية الاستشراقية-الاستئصالية أهداف أخرى ساهمت في تكوين الصور المشوهة، و في ذلك تقول المؤرخة إليزابيث هانسون ضاربة أحد الأمثلة لإسقاط الرغبات الذاتية على رؤية الآخرين إن الهندي المجازي الخيالي، و ليس الهندي الحقيقي الذي نجا من الهجرات البيضاء، هو كيان أوجده الرجل الأبيض لغاياته الذاتية، و هو كيان غذى الرجل الأبيض وجوده أيضاً لغاياته الذاتية، و هذا القول ينطبق على المفكر الأمريكي المعروف هنري ديفيد ثورو الذي لم يكن من الغريب أنه صمم تجربته مع الهنود لاستعماله الذاتي، فقد رأى في الهندي تفكيره الذاتي، و طور خياله الذاتي، و عالج مشاكله الذاتية، و حدد اهتماماته الروحية الذاتية، و أوجد وعيه الجمالي الذاتي...لقد كان هندي ثورو و مازال اختراعاً للرجل الأبيض لم يستند إلى تجربة حقيقية مع القبائل بل هو مخلوق خيالي بمجموعة من الأغراض الخطابية و العناصر الجمالية، و قد كان هذا الهندي نتاجاً ذاتياً واعياً لثورو[8].

و يشير مؤرخون آخرون إلى أن الهندي الأحمر مثّل للأمريكي الجانب المظلم الذي يحتوي على الصفات السلبية في شخصية الأمريكي ذاته و هي صفات العنف و الكسل و الاعتداء الجنسي و التنقل و اللصوصية و الإدمان على الكحول التي يخشاها داخل نفسه، و مع ذلك فكلها سمات وجدت بكثرة بين البيض في أمريكا و خشوا منها و لذلك أسقطوها على عدوهم الذي أصبح تعريفه بهذه الصفات مرتبطاً بتعريفهم لمعنى وجودهم و هويتهم بصفة هذا الهندي هو النقيض الذي يحمل كل عيوبهم و ليس له أياً من فضائلهم و كان الحل لهذا الصراع مع سلبيات الذات و من ثم مع العدو النقيض هو الكبح و الترحيل و الإبادة[9]، و قد كانت هذه الصورة التي رسمها الأمريكي للهندي مجرد أسطورة كما كانت كذلك الصورة المثالية التي رسمت في بعض المراحل رمزية لا علاقة لها بالهندي الحقيقي[10].

2- التمركز حول الذات الأوروبيةالمولِّد تعالياً على الآخرين:ظهر الاستشراق مع ظهور الإسلام بصفته إجابة عن التحدي الذي فرضه الدين الجديد على العالم المسيحي، و من الطبيعي أن ينظر هذا العالم إلى الوافد الجديد المختلف عنه، رغم ما قدمه الإسلام من اعترافات بأهمية المسيحية، نظرة سلبية و متعالية نابعة من الاختلاف الديني و الحضاري أيضاً[11]، و لكن هذا لم يمنع الصلات الحضارية و اقتباس ما أنجزته الحضارة الإسلامية عند نقاط الاحتكاك المباشر، و عندما تحول ميزان القوة العلمية لصالح الغرب الأوروبي صار عنده سبب مادي لازدراء عالم الإسلام و غيره أيضاً، ففي القرن التاسع عشر "كان الفرنسيون و الإنكليز ينظرون إلى العثمانيين باستصغار على أنهم عرق متخلف يعمه في عاداته و تقاليده المتحجرة" و كان شعورهم مماثلاً تجاه الهنود و الصينيين[12]، و ذلك لأن القوة و الهيمنة و التوسع توجد عند الجماعة القائمة بها إحساساً بالتفوق و التميز و الاستعلاء و تصبح واضعة حدوداً فاصلة تحول بين اندماجها بالجماعات الأخرى المغلوبة التي تصبح مطيعة ممتثلة و لكن القوي يرفض ذلك و يؤصل انفصاله بالعودة إلى أساطير التقسيم العرقي القديمة مع إضفاء مسحة "علمية" عليها[13]، و بهذا يصبح النظر إلى المسلمين نظرة دونية تملي على الضعفاء تقديس صاحب التفوق التقني[14] الذي أصبح هو و عالمه معياراً لكل شيء كما يقول الدكتور نصر محمد عارف: فالأعراق الإنسانية مختزلة في ضدين، نحن وهم، و التاريخ البشري مقسم إلى قديم و وسيط و حديث وفقاً للتطور الأوروبي الذي لا يراعي تواريخ الآخرين، و علم السياسة لا يعترف إلا بالدولة و مؤسساتها و وظائفها وفقاً للتجربة الأوروبية، و تطور المجتمعات محصور في التقسيمات الأوروبية الخطية المتصاعدة على اختلاف العلماء في ذلك و الذين اتحدوا في إسقاط التجربة الاجتماعية الغربية على العالم كله، و المثل الأوروبية و أشهرها الوفرة و الاستهلاك جعلت غايات للعالم أجمع، و أصبح قياس النماذج البشرية يتم وفقاً لقربها و ابتعادها عن النموذج الأوروبي: فالمسيحية هي أوج الديانات و العلمانية هي أوج المجتمعات و ما لا يطابق المجتمع الأوروبي المعاصر يعد تخلفاً و رجعيةً و بدائية، و قد استلزم هذا نفي للثقافات و المؤسسات و الاقتصاد التقليدي و إحلال نظائرها الحديثة محلها، و ذلك رغم الحديث المتكرر و الممجوج عن التعددية "لأنهم يقصدون بالتعددية معنى يقصرها على المجتمع الداخلي في إطار ثقافة و حضارة واحدة، و ليس بمعنى التعدد على مستوى الحضارات البشرية، حيث لا ينظر إلى التنوع الثقافي و الحضاري إلا من خلال منظور فولكلوري لإشباع الرغبة في العلو و التميز، و ليس الاعتراف بشرعية وجود"الآخرين"، و حقهم في صياغة نماذج بشرية نابعة من ذواتهم"[15].

3- علمنة نسق الماضي الديني: ظلت الذات الأوروبية متمركزة حول نفسها رغم انتقالها من عصر الإيمان إلى عصر العقل و لم يغير ذلك هويتها أو مصالحها أو مواقفها من الآخرين، بل إن اكتساب القوة التقنية و انبثاق أنظمة رأسمالية باحثة عن الأرباح أعطى دفعة دنيوية قوية للعدوان الذي أصبح يستند إلى حجج عقلية و علمية دون غياب الظهير الديني، و ما حدث هو علمنة[16] للمفاهيم المعبرة عن الذات و المصالح الغربية: فالرسالة الحضارية و عبء الرجل الأبيض و القدر الجلي ثم نشر الديمقراطية و حرية التجارة بدلاً من نشر الإيمان و الدفاع عن القبر المقدس، و تحولت العنصرية إلى الانتخاب الطبيعي بدلاً من الاختيار الإلهي، و استند الخلاص إلى العمل البشري بدلاً من النعمة الإلهية (استفادت الصهيونية من ذلك)، و تحول مفهوم العالم المسيحي إلى الحضارة الغربية، و أصبح الاستيطان و الاحتلال و الإبادة قدراً جلياً و نشراً للحضارة و دفاعاً عنها ضد الهمجية و الإرهاب بدلاً من الاستناد إلى الوعد الإلهي بأرض الميعاد.

و قد وضحت مارغريت ميسيرفي مثلاً عن التحول الذي حدث في الغرب في اللغة و الفكر الدارجين في دراستها عن المؤرخين الإنسانيين الأوروبيين في عصر النهضة و نظرتهم للدول الإسلامية، فقالت إن القلق الغربي من العثمانيين استمر في القرن السادس عشر كما كان في الماضي، و كان من ضمن التغيرات التي طرأت على المفاهيم، التغير الذي حدث في هذا العصر في طرق التعبير عن هذه الهواجس إذ أصبح تناول الخطر التركي من جهة المؤسسات و الثقافة العثمانية أكثر من تناوله من جهة أصول العثمانيين التي تنبئ عن"بربريتهم" و تربطهم بنسب كريه، كما جاء في حديثها عن بعض هؤلاء المؤرخين الذين أكدت على ارتباطهم و ديْنهم لتراث العصور الوسطى المسيحية[17]، أي أن ما يسميه الدكتور المسيري رحمه الله الخريطة الإدراكية لم تتغير، و لعل ما حدث هو تغير الألوان التي ترسم بها.

و يلاحظ أن الدين ظل حاضراً في الميدان منذ ذلك الزمن إلى يومنا هذا، يدل على ذلك استمرار استخدام المبررات الدينية(في الحالتين اليهودية و المسيحية الصهيونيتين)، بالإضافة إلى التحالف الذي قام بين التبشير و الاستعمار خارج القارة الأوروبية رغم التناقض بينهما في الداخل[18]و هو ما أعطى انطباعاً بوجود بعد ديني في صراع الغرب مع ضحاياه، و لهذا كله لم يتغير موقف الغرب من العالم الإسلامي بل استمر العدوان باستمرار المصالح و جاذبيتها، و ظهرت صور استشراقية عديدة مستمدة من الروح الفرنجية الصليبية و المجازات المتعلقة بها لاسيما أثناء المواجهات المسلحة بين الغرب و الإسلام (حرب بوش الصليبية مثلاً).

و كثيراً ما كان الحضور الغربي في بلاد المشرق الحديث يرى نفسه في أحضان الماضي المقدس و يعبر عن نفسه بمفردات ذات دلالات دينية و تاريخية مقدسة، و في ذلك يقول المؤرخ الصهيوني الأمريكي مايكل أورين في حديثه عن الرحالة :"لم يكن هناك شيء عند الأمريكيين يعادل زيارة فلسطين...كانت إثارة المسافرين و تشوقهم يزدادان كلما اقتربوا من الأرض المقدسة؛ و كان ذلك يقاس بعدد مرات إشارتهم للإنجيل؛ أما كولي، فكانت رؤية سحرة الثعابين تثير لديه ذكريات سفر الجامعة (10/11) في التوراة (إن لدغت الحية بلا رقية، فلا منفعة للراقي)، و كانت مشاركة الفلاحين طعامهم تذكره بمتى (26/23) (الذي يغمس يده معي في الصفحة هو يسلمني)، و تساءل ستيفنز:"هل يمكن أن يكون ذلك حلماً؟" و هو يقف على شاطئ البحر الأحمر"في نفس النقطة التي توقف عندها شعب الله المختار ليشهدوا انقسام البحر" أو فوق جبل سيناء "يسترجعون ذلك اللقاء العظيم بين الإنسان و خالقه"، و اختلطت الطبيعة و الكتابات الدينية في نفس اللحظة التي كان الأمريكي يطأ فيها الأرض المقدسة؛ فههنا كانت المدن التي قرأ عنها و سمع بها منذ طفولته، التي اشتقت منها المدن الأمريكية أسماءها، و صاحت هايت:"كل ذكرياتي التاريخية تعود بقوة إلى ذاكرتي، فقد رأيت في كل وجه واحداً من آباء التوراة (إبراهيم و إسحق و يعقوب)، و في كل رئيس قبيلة أحد الحواريين"، "و صوّر تايلور نفسه مثلاً على أنه صليبي يسير في معركة ضد صلاح الدين، و أخذ يفكر متأملاً:" حتى الأشجار و الحشائش تسمع أبواق العصور الوسطى، و قعقعة الدروع الأوروبية"[19].

4- الانتقائية بين التجاهل و التضخيم:إذا كان الجهل هو وسيلة الاستشراق المبكر الذي صور الإسلام ديناً وثنياً يعبد أتباعه صنماً للنبي عليه الصلاة و السلام، فإن الانتقائية طبعت الاستشراق الحديث بصورة أوضح، و هذه الانتقائية تتلازم مع التجاهل و التضخيم، لأن الذي يهمل النظر إلى مجمل الثوب و يركز نظره على بقعة ربما كانت غير مرئية ابتداء، فإنه يعمل بلا شك على تضخيم أهميتها و تجاهل بقية الثوب، و في ذلك يقول المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون إنه حتى حينما كان الغربيون يزورون الشرق فإنهم كانوا يبحثون عن صورة رسموها مسبقاً في أذهانهم، و من ثم "ينتقون ما يرونه بعناية و يتجاهلون كل ما لا ينسجم مع الصورة التي كونوها سابقاً"[20].

•أسطورة تفرد الغرب و استثنائيته: منذ القرن التاسع عشر يصوّر الغرب الأوروبي و الأمريكي نفسه نسيجاً فريداً في التاريخ بنى نفسه معتمداً على ذاته فقط في خط مستقيم و متصل منذ عهد الإغريق مروراً بالرومان و المسيحية وصولاً إلى الزمن المعاصر و ليس مديناً لأي طرف خارجي فتمكن من الـتأثير في العالم تأثيراً إيجابياً منحه كل المبادئ المعنوية (الديمقراطية و الحرية و دولة القانون و حقوق الإنسان و المساواة و الفردية و العقلانية و سيادة السوق و حرية التجارة و الأمم المتحدة)و الإنجازات المادية (العلوم و الانتصار على الأمراض و الجوع و الفقر و غزو الفضاء) و هي كلها استثنائية توجت بالحداثة.

هذه الصورة الوردية جعلت كثيراً من الباحثين يتشككون في صدقها فلاحظوا أنها تقول الشيء و نقيضه (كالتأكيد تارة على عبقرية المسيحية و تارة أخرى على عبقرية الخروج من عالم الدين) و تهمل السلبيات الكثيرة التي حفل بها التاريخ الغربي ككوارث الإبادة في قارات عديدة و الحروب الصغرى و الكبرى المتتالية و الرق و الاستعمار و الاضطهاد و الاستغلال[21]، كما أنها تتجاهل الديْن الكبير الذي يدين به الغرب لحضارات أخرى استعار منها الكثير، و إن تلك الأسطورة تضخم الجانب الذاتي و تتجاهل إنجازات الآخرين، و يلاحظ مارتن برنال أن إطراء العصر الإغريقي بصفته سلفاً وحيداً للغرب الحالي لم يكن نتيجة تقدم في البحث و كشف معلومات جديدة عن ذلك العصر يفسر هذا التغير في الرأي و إسقاط النموذج القديم الذي يؤكد المؤثرات الشرقية (المصرية و الكنعانية و الفينيقية) في اليونان، بل إن هذا الإطراء بني على تجاهل ما كتبه اليونانيون أنفسهم عن تاريخهم ليتناسب ذلك التاريخ مع النظرة العنصرية التي سادت في القرن التاسع عشر[22].

و على الجانب الآخر من الأطلسي ضخم الأمريكي ذاته مركزاً الضوء على إنجازاته السياسية في تاريخه و متجاهلاً استعارته المؤكدة و الموثقة من النظام السياسي لبعض قبائل السكان الأصليين التي ألهمت نموذجه الفيدرالي الذي يؤدي الاعتراف بديْنه حتى اليوم، رغم أن الكونجرس أقر بهذا الديْن الهندي سنة 1988 [23]، إلى "حالة من التعصب والغضب داخل أمريكا" وصلت إلى حد وصف هذه الفكرة بأنها "حماقة بالغة" و"إلغاء الحقائق" و قتلاً لأكثر قواعد و مبادئ الحضارة الغربية مدعاة للاحترام و الإجلال، و غير ذلك من ألفاظ الانتقاص و التشنج، و تعرّض مناصرو الفكرة "لإدانات حماسية في وسائل الإعلام الشعبية" مما يدعو للتساؤل بعد هذا كيف يمكن لبقية العالم أن يأمل بالدخول في حوار هادئ مع أمريكا؟[24] و لعل الأهم من مجرد الاعتراف اللفظي و الأصعب منه هو كيف ستعترف أمريكا بحقوق الشعوب الأخرى و هي ما زالت رافضة إدخال سكانها الأصليين في دائرة رعايتها و هم الذين زال خطرهم منذ أمد بعيد؟ و إذا كانت تتساءل ببلاهة عن سبب انتشار كراهيتها بين المسلمين فلماذا لا تسأل نفسها سؤالاً أعوص و هو لماذا ما زالت ترفض القيام بتنازل بسيط حين تمنع تطبيق جوهر المفاهيم الديمقراطية على القبائل الهندية رغم الإعلان الواضح في المعاهدات و السياسات الاتحادية عن حق الهنود في تقرير المصير و حكم أنفسهم و السوابق القضائية في ذلك[25].

و يشير مايكل أورين إلى تجاهل الأمريكيين عيوبهم في نقدهم المشرق العثماني في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فيقول إن الرحالة الأمريكيين المسافرين إلى الشرق اتفقوا على أنه يعاني من مشكلات عديدة يمكن علاجها بكل بساطة بنبذ الدين الإسلامي و تبني الثقافة الغربية، و منهم من دعا إلى حملة صليبية دولية لإذلال المسلمين و تفكيك الدولة العثمانية، و تنبأ بعضهم أن بريطانيا ستحتل مصر و أجزاء من آسيا الصغرى و ستحتل فرنسا سوريا و شمال إفريقيا ، و لكن يجب أن يختفي الإسلام من الساحة أولاً، و يعقب أورين على ذلك بالقول إنه من منظور قرننا يبدو الأمريكيون الذين انتقدوا المشرق بسبب ادعاءات عن فساده و قسوته و تعصبه بالتأكيد منافقين، إذ قاموا هم باستعباد سدس سكان بلادهم (العبيد الأفارقة)، و طردوا السكان الأصليين من بلادهم، و ازدهر الفساد السياسي عندهم، و كانت عمليات الشنق بلا محاكمة مازالت وسيلة للتسلية العامة، و مع ذلك تجاهل الأمريكيون كل هذا و لم يبدوا استعداداً لمقارنة أوجه النقص في بلادهم مقابل ما رأوه في المشرق العثماني، و كان السياح يؤكدون أن لدى الولايات المتحدة المثل الأعلى للحرية و الفضيلة و كثيراً من الدروس التي يمكن تقديمها للمشرق، و كانوا ينتظرون بشغف الذي يقوم به المبشرون و المهندسون و المعلمون و الساسة "باختراق الظلام الذي يكتنف ذلك البلد الكافر" و إعادة تكوين المنطقة وفقاً للنموذج الأمريكي، و قد "تجاهل الرحالة الأمريكيون نقص المساواة و العدل الذين كانا يلطخان مجتمعهم في موطنهم، و نظروا إلى مرآة الشرق الأوسط المكسورة بزجاجها المغبش، فكانت الصورة التي رأوها (لأنفسهم) مثالية لا غبار عليها"[26].

و لا عجب بعد ذلك أن يتوحد العثمانيون في نظر الأمريكيين مع أعدى أعداء الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، و ذلك في زمن كان السكان الأصليون من الهنود الحمر هم العدو الرئيس للأمريكي حين احتدمت الحروب الهندية بين الطرفين بعد نهاية الحرب الأهلية (1861-1865) ، و كان الشرقي العثماني يحمل نفس المعنى السلبي للهندي الأحمر، حتى أن صحيفة أمريكية قومية، هي "نيويورك هيرالد"، شبهت السلطان العثماني عبد العزيز (حكم بين 1861-1876) زمن حوادث البلقان الدموية، التي أثارها الغرب و في نفس الوقت اعترض بعين عوراء على "وحشية" العثمانيين فيها، بزعيم المقاومة الهندية Sitting Bull (1831-1890)[27] الذي كان يجسد للأمريكان، بنفس العين العوراء، مثال الإرهاب و التوحش والبدائية نتيجة دفاعه عن استقلال و حرية و حقوق قومه بالمقاومة المسلحة، و ذلك في ذروة تصاعدها.

5- الجهل المستعين بالخيال: لم تخل صورة الشرق في الذهن الغربي من الجهل الذي كان أحد المركبات الرئيسة في تكوينها، و يذكر الباحث ضياء الدين ساردار أن هذه الصورة اعتمدت على مرجعيات لم تقم بزيارة الشرق أو التعرف إليه عن كثب، بل اتصلت به بواسطة الكتب، و أصبح من غير الضروري لمن يوصف بالرحالة أن يغادر عتبة بيته[28]، و لأن فضول الإنسان يدفعه إلى ملء الفراغ بخياله، فإن خيال الأوروبيين الواسع أكمل الفراغ بصور لها بداية و ليس لها نهاية، و في ذلك يقول المؤرخ الأمريكي زاكري كارابل إن اطلاع أوروبا على الشئون العثمانية الداخلية كان محدوداً حتى بعدما تدخل الغربيون فيها في القرن التاسع عشر، و لأن الخيال هو نتاج الجهل، فقد استحضر الغربيون صورة للعثمانيين استمدت من أنصاف الحقائق و الأساطير، و أصبح هذا الخيال المحرف حقيقة واقعة استمرت أكثر من حياة الدولة العثمانية نفسها[29].

•مثال حريم السلطان: رغم كثرة الآداب و الفنون الاستشراقية المتعلقة بحريم السلاطين العثمانيين و عموم الشرقيات، فإن المراجع الحديثة تؤكد أن هذه المنتجات كانت وليدة الخيال[30]لأنه لم يكن من المسموح للرجال الغرباء، فضلاً عن الأجانب، بدخول عالم النساء المسلمات عموماً و نساء السلاطين خاصة، و كان الهدف من تصويره و الكتابة عنه بذلك الشكل المثير إشباع رغبات داخلية لرجال الطبقة البورجوازية في أوروبا و التعبير عن بعض مصادر القلق الاجتماعي فيها، و قد وثق الباحث ساردار بعض الدوافع الشخصية الخاصة لبعض المستشرقين وراء هذا الإنتاج[31]، و لقد كانت روايات القلة من النساء الأوروبيات اللواتي دخلن هذا العالم الخاص بالنساء المسلمات أكثر واقعية و اعتدالاً و تميزاً عن روايات الرجال الخيالية و كشف بعضهن أنه"كان هنالك جنس أقل بكثير مما يُظن، و كان هناك شرب شاي و أعمال خياطة أكثر من ذلك بكثير"[32]، و لكن "من فكروا بالشرق بصورة إيجابية كانوا دائماً مهمشين"[33].

و لم يكن الجهل دائماً على هذه الصورة المثيرة، فربما اتخذ شكلاً "علمياً" كالمثل الذي رواه لوكمان و هو مثل متكرر في الدراسات الاستشراقية حيث كانت الإحالة و العنعنة منتشرتين، فباحث غربي يحيل إلى باحث غربي آخر، و باحث غربي ثالث يروي عن باحث غربي رابع، و هكذا، و الشرق هو الغائب، فقد ألف ألبرت هو ليبير في سنة 1913 دراسة عن حكومة الامبراطورية العثمانية في زمن سليمان القانوني، بالرجوع إلى دراسات أوروبية سابقة و دون الرجوع إلى أية مخطوطات باللغة العثمانية رغم توافرها، و هذا ما جعل دراسته قاصرة حتى في موازين ذلك الزمن حين كان يصعب تخيل دراسة عن تاريخ فرنسا الوسيط دون الرجوع إلى المصادر الأصلية باللغات المتصلة بالموضوع، و مع ذلك فقد أصبحت دراسة ليبير مرجعاً مقبولاً و مدرساً على نطاق واسع إلى ستينيات القرن العشرين و لم يكن فشله في التعامل مع المواد الهائلة المتوفرة باللغة العثمانية مشكلة كبيرة[34].

6- فصل الإنصاف عن السلوك: بالطبع لم يخل الأمر من احتكاك مباشر بين الغرب و الإسلام يعرف فيه البعض أن الصور النمطية لا تنطبق على الواقع، "هناك أناس كثيرون في العالم المسيحي يعتقدون أن الأتراك شياطين أشرار، و همجيون، و رجال بلا معتقد أو أمانة، لكن من عرفوهم و خالطوهم، لهم رأي آخر...فهم يقولون إنهم ورعون و محسنون، متمسكون بدينهم"[35]، و لكن الذين تبنوا هذا الإنصاف هُمشت آراؤهم كما تهمش الآراء "المارقة" في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة دون الحاجة إلى رقابة رسمية[36]، و ليس من الضروري أن يهمَّش حامل الرأي المنصف، فالمهم هو عزل الرأي نفسه و هو ما كان يحدث أحيانا بإبطاله برأي مناقض يدعي مثلاً أن الدين الذي يتمسك به العثماني بهوس هو دين باطل و ليس تقوى، أو يقوم المنصف نفسه بتهميش رأيه عملياً مماشاة منه للتيار السائد، مثل الشاعر البريطاني جورج غوردون بايرون (1788-1824) الذي عاد من زيارة الشرق سنة 1811 و تحدث أمام مجلس اللوردات عن العثمانيين قائلا:" هم ليسوا مخادعين، و لا جبناء، و لا يحرقون الهراطقة، و لا يغتالون الآخرين، و لا يدعون أياً كان يتقدم زاحفاً في اتجاه عاصمتهم، إنهم مخلصون للسلطان حتى يصبح غير صالح للحكم، و يتقون ربهم لا يشككون في قدرته، و لهذا فإن من الصعب التنبؤ إذا أُخرجوا من سان سافيا (مسجد آيا صوفيا كناية عن عاصمتهم اسطنبول)، و حل محلهم الفرنسيون أو الروس، فيما إذا كان ذلك سيكون انتصاراً لأوروبا أم لا، لسوف تكون إنجلترا بكل تأكيد هي الخاسر"، و رغم هذه الشهادة فقد كتب الحكايات التركية التي يصفها ساردار بقوله:"إنها قصائد في العنف المجاني، و الانتقام غير العقلاني، و البربرية التي لا رحمة فيها، التي يتسم بها الأتراك...لكن العثمانيين الذين التقاهم بايرون كانوا من نوع مختلف تماماً"[37].

إن الذي صنع هذه الفجوة بين الإدراك و السلوك هو أن الإدراك لا يحدد سلوك البشر كما قال الدكتور عبد الوهاب المسيري، فالحقيقة الواحدة يمكن أن تنتج نماذج مختلفة من ردود الأفعال، و ضرب مثلاً لذلك بردود أفعال اليهود على الحقيقة التي صدمتهم عندما اكتشفوا أن فلسطين يسكن بها شعب و ليست أرضاً بلا شعب، فمنهم من تردد في اتخاذ موقف و منهم من حاول التفاهم مع الفلسطينيين و منهم من زاد توحشه تجاههم، و يسجل التاريخ أن بعضهم رفض المشاركة في مهرجان الظلم من بدايته فحملوا رحالهم و غادروا هذه الأرض بكل إباء و كبرياء[38]، و لذلك ليس من العجيب أن يقود إدراك بايرون المنصف للعثمانيين إلى سلوك غير منصف فيروج في قصائده عكس ما رآه و شهد به و يقاتلهم و يموت أثناء حرب الاستقلال اليونانية ليصبح أيقونة عاطفية عظيمة في الغرب[39].

قراءة 2627 مرات آخر تعديل على الأحد, 12 تموز/يوليو 2015 09:30

أضف تعليق


كود امني
تحديث