قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الخميس, 11 كانون1/ديسمبر 2014 07:43

أدوات الاستئصال الفكري الممهد للاستعمار: كيف يؤدي الاستشراق وظيفته التحريفية؟ 3/4

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
قيم الموضوع
(0 أصوات)

●الاستشراق و"الاستئصال" من سجايا النفس البشرية

و يلاحظ أن وسائل التحريف الاستشراقية مستمدة من أعماق النفس البشرية التي تلجأ إلى هذه الوسائل في فهم الآخرين أو إساءة فهمهم عندما يكون لها مصالح مضادة لمصالحهم، أو حتى عند مجرد المقارنة معهم، فتمارس ضدهم تحيزاً معرفياً يبرر لها اضطهادهم لسلبهم حقوقهم أو لمجرد إثبات التفوق عليهم أو الإثنين معاً، و لعل إثبات التفوق هو البوابة التي ندخل فيها تمهيداً لاضطهاد الآخرين، و كم رأينا كثيراً من الآباء الذين أنفقوا أقواتهم على تعليم أبنائهم فكان جزاؤهم هو الاستخفاف بجهلهم و الاحتقار لمستواهم و التعالي على بيئتهم المتواضعة بعدما نال هؤلاء الأبناء درجاتهم العليا و انتفت حاجتهم إلى من ينفق عليهم و أصبح ماضيهم و بيئتهم مصدراً لمعرتهم (تمركز حول الذات و تعال على الآخرين)، و دائماً ما تكون أنفسنا هي المقياس الذي نقيس به الآخرين، فما ينفعنا هو الخير و ما يضرنا هو الشر بغض النظر عن القيم الأخلاقية (تمركز أيضاً حول الذات)، فمن ذلك عندما نصف شخصاً في محيطنا بأنه لص رغم ارتكابنا لأشنع من أفعاله (استدعاء المفاهيم السلبية للذات و إسقاطها على الاخرين)، و أحياناً نختزل حياة آخر بالفشل دون ذكر ظروفه الخاصة أو نجاحاته غير المرئية (جهل و خيال)، أو عندما ننعت ثالثاً بالغباء عندما لا يحيط بما نحيط نحن به دون اهتمام بذكر اختلاف بيئته و مدى فعاليته فيها (تمركز و انتقائية)، أو عندما نستسهل الاستهزاء بشخص رابع لمجرد غربته بيننا و اختلاف لغته أو لونه أو أصله و عدم وجود من يسند إليه ظهره فينا (غطرسة القوة)، أو عندما نسرق جهد عامل لضعفه بيننا فننسبه لأنفسنا أو نبخسه أجره متطاولين عليه بالقوة و النفوذ...إلخ، كما يلاحظ أن هذه الانحرافات لا تطبق إلا حين وجود تباين في المصالح بين الطرفين فالإنسان لا يأبه بعابر السبيل و لا تظهر تحيزاته ضد أفراد لا احتكاك بينه و بينهم حتى لو كانوا بنفس المواصفات التي يبدأ بعيبها عند الاحتكاك، فمجرد الاختلاف ليس منبعاً للخلاف إلا حين تتضارب المصالح.

●الاستشراق المتسلسل: عندما تمارس الضحية "الاستئصال" ضد ضحايا آخرين

و إذا انتقلنا من دائرة العلاقات الفردية إلى الانطباعات العامة عن الأمم و الشئون العامة نجد كلاً منا يمارس استشراقه الخاص على بقية الشعوب، و إذا كنا قد شكونا كثيراً من تحول اليهود ضحايا الاضطهاد الغربي إلى مجرمين، فإننا نحن أيضاً قد وقعنا في فخ هذا التحول ضد شعوب و أمم أخرى تصورناها أدنى منا، إذ كيف بنا و نحن في مؤخرة الحضارات ننعت مواطني دولة نووية كالهند بالسذاجة، أو نسخر من ضعف و فقر دول إفريقية تحدت الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة و خرقت حصاراً فرضته على أكثر من دولة عربية (ليبيا و السودان) في الوقت الذي كان فيه الأقزام العرب يتسابقون لإرضاء العمالقة الغربيين بتشديد الطوق و إحكام الحبال على أعناق إخوتهم المحاصَرين، و كثيراً ما تقمصنا التحيزات الاستشراقية التي تمارس ضدنا فمارسناها ضد غيرنا و قلنا: لسنا هنوداً حمراً، و ذلك بحجة استبعاد الهزيمة عن مصير صراعنا مع الصهاينة رغم أننا في نفس الخندق نحارب نفس العدو الذي حاربه سكان أمريكا الأصليون و الذي يحمل نفس المعتقدات التي حاربهم بها و يمارس ضدنا نفس السياسات التي مارسها ضدهم، و رغم أن تراثنا مليء بالأبطال الذين هُزموا عسكرياً و لكنهم سجلوا أروع صحائف البطولة و الصمود، و هو ما فعله هنود أمريكا و لكن المد كان كاسحاً و أقوى من إمكاناتهم المادية الضعيفة، و ليس من المعيب أن يُهزم المقاتل بعد تضحياته و صموده بل المعيب أن يتقمص الضحية ثوب جلاده فيتبرأ من رفاق طريقه متكلاً على جهله بهم و ربما استدعى الفروق الاستشراقية العنصرية الكامنة و التي لا يجرؤ على الإفصاح بها، كاللون مثلاً، ليثبت تميزه عن ضحية سبقته في درب الكفاح و التضحية، خاضعاً لسُلّم التراتبية الذي يفرضه العدو المشترك القوي، و هو ما يذكر بنفسيات العبيد الذين كانوا إذا اجتمعوا يختالون على بعضهم البعض بمقاييس التفوق التي فرضها المضطهِد مثل الغنى و الأناقة و غيرهما ، و بهذا يحرص العبد على أن يتفوق على زميله العبد و يختال عليه لا بصفاته الذاتية بل بصفات سيده المتفوقة على صفات سيد رفيقه و ينشب الشجار بين الجماعتين التابعتين لسيدين مختلفين[63] بدلاً من أن تتحدا لمقاومة الظالميْن معاً (!).

●"الاستغراب"يصدر تحريفات إيجابية لصالح المستعمِرين الأقوياء

و مما يثبت هذه الظاهرة، و هي قبولنا قواعد الاستشراق و ممارستنا إياها ضد الأدنى، قيام عقولنا "باستشراق"إيجابي، أو "استغراب" يضفي تعميمات وردية مخلة على دول الحضارة الغربية مثلما تخيلنا أن الولايات المتحدة هي أرض العسل واللبن و الفرص غير المتناهية التي توفر حياة المليونيرات الفارهة لكل من يهاجر إليها، و هي أسطورة ساعدت الدعاية الكاذبة على ترويجها و قال عنها الناقد الاجتماعي الأمريكي جورج كارلين إنها وُصفت بالحلم الأمريكي لأنه على المرء أن يكون نائماً ليصدقها[64]، و قد لمس زيفها بعد فوات الأوان كثير ممن وقعوا في فخها فاستنتجوا أن هذه الصورة استمدت ورديتها من بؤس ظروف أوطاننا أكثر من سعادة الحياة في أمريكا نفسها، أو عندما ظن كثير من شبابنا أنهم سيدخلون الجنة الموعودة عند زواجهم بالأمريكيات فنتج عن ذلك كثير من المآسي الاجتماعية التي وقعوا فيها نتيجة هذا "الاستغراب"الخاص بهم و الذي يستحق استغراب المراقب عن بعد.

و مما يؤسف له أن هذه النظرات الوردية المحرفة للعالم الغربي لم تقتصر على شباب مقهور في داره و متحمس لأي تغيير وحراك اجتماعي في حياته الخاصة بل تعدى هذا"الاستغراب" المنحرف إلى مثقفين تبنوا ما يشيعه العدو القوي عن نفسه من مديح و إطراء بلا مبرر و طافوا حول صنمه مسبحين خاشعين و هم يحرقون البخور له في الوقت الذي كانت بلادهم و أمتهم هي وقود هذا الحريق كما سيتبين عند الحديث عن الاستشراق الداخلي.

●بين العلماء و العامة

هذه كلها نماذج مصغرة من سلوكيات النفس البشرية في الحياة اليومية يرتكبها الاستشراق خاصة و"الاستئصال" عامة ضد الضحايا من موضوعات الدرس من السكان الأصليين، أو يوفرها "الاستغراب" لصالح الأقوياء من المستعمِرين و المستعبِدين، و لكن إذا كانت هذه التجاوزات مفسرة لو صدرت من الناس العاديين الذين لا تعصمهم أخلاقهم و لا تسعفهم معلوماتهم فإنه من غير المقبول أن تصدر من علماء جامعيين يصرون على أخطائهم أجيالاً متعاقبة نتيجة الجهل و التحيز و الاختلاف الذي تفرضه طبيعة المصالح الغربية السائدة، و قد لاحظ المفكر الراحل إدوارد سعيد (1984) أن الدراسات النمطية المتعلقة بشعوب كثيرة في آسيا و إفريقيا بدأت بمواجهة تحديات في حقولها و دراسات مراجعة و تنقيحية بدءاً من ستينيات القرن العشرين تصحح النظرات التقليدية التي شابت تلك الحقول، إلا أن دراسات العالم الإسلامي لم تحظ بهذا التطور و مازالت تؤدي عملها دون تعديل[65]، و هو ما يؤكده الباحث ساردار بعد ذلك بسنوات (1999) فيقول إن "قروناً من البحث الاستشراقي لم تعمل على تحسين المعرفة إلى الحد الذي تزيل فيه أو تتغلب على العقبة التي تحول دون التوصل إلى فهم متبادل" و مازال الغرب يتخبط في ذلك بنفس الدرجة التي كان بها في أيام الاستعمار[66]، و بعد ذلك بسنوات أيضاً (2008) قال المؤرخ الأمريكي دوجلاس ليتل إن "الصور النمطية الاستشراقية مازالت حية و موجودة" و إنه من يريد أن يفهم المواجهة بين أمريكا و الشرق الأوسط بعد سنة 1945 عليه الرجوع إلى الثقافة و الصور النمطية التي حملها الأمريكيون منذ بداية ذهابهم إلى هناك حيث كانوا ينظرون إلى الشرقيين في إطار استشراقي و عدهم شعوباً متخلفة و متفسخة و غير جديرة بالثقة، و في القرن العشرين تبنى الساسة البريطانيون الرؤية الاستشراقية لخدمة أغراضهم من الشعوب الأخرى المحتاجة في نظرهم للوصاية الأنجلو ساكسونية ثم ورث الأمريكيون بعد سنة 1945 هذه النظرة التي صنعت الرأي العام و السياسة الخارجية، و قد لاحظت صحيفة نيويورك تايمز في14/7/1993 تراجع التعميمات البغيضة و الصور النمطية في أمريكا تجاه اليهودي و الصيني و الإيرلندي و الإفريقي، و مع ذلك يستمر "التعصب العرقي الأعمى" ضد العرب و يحتفظ "بقدر من التقدير" بفضل السياسة الدولية السائدة[67].

و قد طبع الجهل بالمشرق السياسات الأمريكية منذ بداية التورط في المنطقة، و يذكر المؤرخ الصهيوني أورين أن الرئيس الأمريكي ويلسون الذي تطوع بإعلان نقاطه "الإنسانية" بعد الحرب الكبرى الأولى "لم يحدد أبداً أي الشعوب العديدة في الشرق الأوسط تستحق حق تقرير المصير، و كيفية تحقيق هذا الحق، فقد كان لا يعرف عن جغرافية المنطقة و ثقافتها و تقاليدها أكثر مما قرأ في الإنجيل"، و سعياً لكسب السلام كما كسبت أمريكا الحرب أسست الحكومة الأمريكية لجنة ضمت أكثر من مائة عالم في مجالات مختلفة للتوفيق بين خطط الرئيس بشأن المشرق"و لكن و لا واحد منهم كان متخصصاً في الشرق الأوسط، بل كان خبراء "لجنة التحقيق" يراجعون الموسوعات و كتب الرحلات و منشورات المبشرين-أي كل شيء بخلاف النصوص العربية و التركية- لصياغة خططهم للمنطقة"[68].

و قد واجه نقد سعيد للاستشراق ردوداً دفاعية في الغرب أصرت على الطبيعة العلمية للمستشرقين و عدم ارتباطهم بالسياسة و دوافعها و انحيازهم بالمجمل إلى تخصصاتهم الأكاديمية المحايدة، و قد شرح المؤرخ الأمريكي زكاري لوكمان هذه المعضلة بالقول إن معظم المستشرقين في القرن التاسع عشر كانوا يعدون أنفسهم باحثين مكرسين للسعي نحو الحقيقة المجردة و غير متورطين في صناعة القرار السياسي، و لكنهم كانوا يشاركون مواطنيهم بالتسليم بتفوق الحضارة الغربية و بحق الأوروبيين، و الأمريكيين فيما بعد، بممارسة الوصاية على الأعراق الدنيا.

أما التسلسل المنطقي الممهد للمشاركة في المشروع الاستعماري فهو الابتداء بافتراض أن الغرب و الإسلام حضارتان مختلفتان، و أن المسلم بمعتقداته و سلوكه هو القطب المقابل للإنسان الغربي، و بما أن المسلم هو الطرف الضعيف و الغربي هو المتفوق، فإنه على المسلم ان يقلد الغرب، و من ثم يسهل على من يتبنى هذه المقدمات أن يرى في النفوذ الأوروبي قوة إيجابية تجلب التقدم و الازدهار و الحضارة لعالم الإسلام الغارق في الضعف و الانحطاط و الركود، و لما كانت السيطرة الاستعمارية في ذلك القرن هي التعبير الأوضح عن هذا النفوذ فإنه من المقبول إذن ممارسة الهيمنة على المسلمين، و هذا هو المدخل "الخيري" الذي دفع الرأي العام الغربي لتأييد المغامرة الاستعمارية بالإضافة إلى مؤسسات البحث و الدراسة التي كانت جزءاً من هذا السياق و تورطت بعمق في المشروع الاستعماري[69].

●أضرار الاستشراق الداخلي أو "استئصال" الذات:الضحية تنظر إلى نفسها بعيون ظالمها

و لم يقتصر الأمر على أن تمارس الضحية "استئصالاً" ضد من تظنهم أدنى، في محاولة لإثبات الوجود على السُّلم الذي وضعه القوي لصعود الأجناس، بل وصل استدخال الهزيمة إلى أن تنظر الضحية إلى نفسها بعيون عدوها، و كثيراً ما رأينا أن تقليد الغالب الذي يولع به المغلوب وفقاً لابن خلدون، يقود إلى تبنيه نفس الأحكام الدونية التي يصدرها ذلك الغالب ضده، و لعل مجرد ولعه بالتقليد هو قبول ضمني بالدونية التي وضعه الغالب في خانتها، و من ذلك الدعوة التغريبية إلى تقليد حتى عيوب الغرب التي تفضل في الميزان الأعوج فضائل الشرق، أو القبول بأن جهادنا و مقاومتنا ضد المعتدين إرهاب، أو القبول بالنظرة الصهيونية لقضية فلسطين و محاولة تحميل أمتنا وزر المحرقة النازية و المساومة على حق العودة الفلسطيني بل القبول بإلغائه مقابل إلغاء "حق العودة" اليهودي، و هذا قول من كان"متطرفاً" إذ هناك من يتبنى شطب حق عودتنا و يقبل "بحق" الكيان الصهيوني في الوجود كما يحلو له، و كذلك القول إن هذا الكيان وجد ليبقى و تفهم حاجته إلى البرنامج النووي في الوقت الذي يُلغى فيه بالقوة المسلحة الماحقة و الحصار القاتل حق أمتنا ببرنامج مماثل و ينكر عليها حتى النسخة النووية السلمية، و لن ننسى بالطبع الذين زايدوا على الاتهامات الغربية لبلادنا بحيازة أسلحة الدمار الشامل و باعوا الغرب أكاذيب تدغدغ مخاوفه و رقصوا على أنغام القنابل الأمريكية و هي تحرق مدينة السلام حيث رأوا في نيرانها وهجاً ديمقراطياً، أو الذين تبنوا الإطراء الأمريكي الذاتي و رأوا في الولايات المتحدة قوة ديمقراطية خيرية تصوب إليها سهام العداء و الحسد بسبب نجاحاتها، و هذه مجرد أمثلة تورط في بعضها أسماء قيادية لامعة ربما تصدى بعضها نظرياً لفكر الاستشراق و لكنها قبلت عملياً الجلوس في مقعد التلمذة مستسلمة أمام أستاذية الغرب و متقبلة كل أحكامه مهما كانت قاسية ضد أمتنا و مستغِلة لمصالحها.

و في ذلك توحدت قيادات سياسية تقليدية كانت لا ترى الخير إلا فيما يقوله السيد الاستعماري البريطاني ثم الأمريكي، و قيادات ليبرالية مثقفة رضيت بإخضاع مصالح بلادها لمصالح الغرب الديمقراطي لأنه لا تقدم إلا بذلك وفقاً لرؤيتها رغم الجشع الغربي و القمع الاستعماري، و انطبق ذلك حتى على قيادات ثورية راهنت على كسب جانب من الدول الكبرى ضد جانب آخر ضمن الخلافات و المنافسات بين الامبراطوريات القديمة(بريطانيا و فرنسا) و بين الامبراطوريات التي خلفتها (الاتحاد السوفييتي و الولايات المتحدة)، أما القيادات الفكرية المثقفة فقد"توغل الشعور بالتفوق الغربي" لديها، فتبنت "الكثير من الطروحات الفكرية و الإشكاليات الغربية في النظر إلى تطور التاريخ الإنساني دون ممارسة النقد في الطروحات التي كانت تقدمها الثقافات الأوروبية المختلفة حول عبقريتها و تفوقها"[70]، و هذا كما يصفها الدكتور جورج قرم، أما البروفيسور إدوارد سعيد فيصف المشهد بالقول إن "الطلاب الشرقيين و الأساتذة الشرقيين، ما يزالون يريدون الحضور (إلى الولايات المتحدة)و الجلوس عند أقدام المستشرقين الأمريكيين، ثم العودة"لتكرار ما سمعوه على مسامع جمهورهم ليشعروا بالفوقية على أبناء أوطانهم بسبب هذا الحذق الاستشراقي، و لتظل علاقتهم بمن هم أسمى منهم، أي المستشرقين الغربيين، علاقة المخبر المنتمي للسكان الأصليين[71]، أما الأستاذ ساردار فيتتبع منشأ هذه الظاهرة بالقول إن الإدارات الاستعمارية عملت على إيجاد طبقة متعلمة على النهج الغربي، بعد اقتلاع مؤسسات التعليم الإسلامي، لتعمل وسيطاً بين المستعمِر و المستعمَر، فتماهى أبناء هذه الطبقة التي وصفت بالعقول الأسيرة مع الثقافة الاستعمارية و أصبحوا يمثلون نوعاً جديداً من الاستشراق المتحدر من أصل شرقي و لكنه يقتات روحياً على الغرب، و كان هدف أتباعه هو الحط من قيمة تاريخهم و ثقافتهم و يفخرون بجهلهم بكل ما يتعلق بهما، و التطابق التام مع التاريخ و الثقافة الأوروبية التي يطمحون إلى تملك زمامهما، و يسرد الباحث نفسه أسماء لامعة كثيرة دخلت ضمن هذه الزمرة من القيادات السياسية و الفكرية في العالم الثالث عموماً و العالم الإسلامي خصوصاً، و أصبح الغرب في هذا الوضع الجديد مجرد مراقب محايد أوكل مهمة تأكيد نظرياته لهؤلاء السادة الجدد ذوي البشرة الداكنة الذين حققوا له رغباته كاملة بوصولهم حدوداً لم يبلغها المستشرق الغربي نفسه[72]، و يطلق الهنود الحمر على أبناء جلدتهم الذين يتشبهون بالبيض لقب التفاح لأن ظاهرهم(أحمر) كالهندي و باطنهم كالرجل (الأبيض).

و من ضمن ذلك الاستلاب قبول الطبقات التغريبية المثقفة جميع الأحكام الدونية التي يطلقها الاستشراق ضد تاريخنا الإسلامي كالاستبداد و الدموية و الطائفية و غير ذلك و تجهل هذه الفئات أو تتجاهل العيوب العديدة التي تزخر بها تواريخ الأمم الغربية و منها كثير من العيوب التي عيرنا الاستشراق بها، فمثلاً يتوارى المتغربون خجلاً من ظاهرة الرق في المجتمع الإسلامي المفترض أنه من مجتمعات العصور الوسطى و يتلعثمون في الاعتذار و التبرير أمام سادتهم الغربيين و لا يثيرون إشكالاً كبيراً لظاهرة الرق الأكبر في مجتمعات غربية حديثة يفترض فيها الإنسانية و العقلانية و الحرية و الإخاء و المساواة و كل الشعارات الكثيرة التي ملئوا رءوسنا بها و مع ذلك مارس الغرب تلك العادات المعيبة و لم يتخل عنها إلا بعد قضاء وطره منها ليدخل في ممارسات مرذولة أخرى كالاستعمار قديمه و جديده، و لا يعطي هؤلاء المنبهرون لأمتهم فرصة للتطور و لا يسمحون لها بالمحاولة و الخطأ على غرار ما حدث في الغرب نفسه بل يطلقون سهامهم و رصاصهم ضد ذواتهم و يعتقدون أن النجاة في التعلق بالأجنبي، و تصل المفارقة مستوى هزلياً بحديث يُدخل الحابل بالنابل بطريقة لعل أكثر صفاتها تأدباً هي المفارقة التاريخية، و ذلك كما فعل بعض أدعياء الثورة من الأغرار الذين ظنوا أنهم جمعوا الثقافة من أطرافها بقراءة صفحتين من كتاب هزيل حين عابوا على تاريخ الإسلام إلغاءه "التعددية" الدينية التي كان يوفرها تعدد الأصنام في مكة[73] (!) ظانين بذلك أنهم يحرجون المسلم المعاصر الذي هو في رأيهم ضد التعددية المعاصرة كما يفهمونها، مع أن الإحراج سيكون من نصيبهم لو سألناهم عن الأهمية التاريخية لهذا القفز الواسع عن كل إنجازات الحضارة الإسلامية و عن مصيرنا لو ظلت الوثنية العربية "التعددية"هي السائدة و هل كنا سنسبق أوروبا في هذه الحالة (!؟)، و مع أن العمل على غرس هذه التعددية، حتى وفق منهجهم حيث لم تتقدم أوروبا إلا بالعودة إلى الأصول "بالإصلاح الديني" سواء كان بروتستانتياً أم كاثوليكياً، لا يكون مثلاً بحديث المفارقة التاريخية الذي يلوم المسلمين الأوائل لعدم استخدامهم الدبابة و من ثم هزيمتهم في معركة أُحُد، بل يكون بتعليم المسلم المعاصر كيف يصنع الدبابة و كيف يستعملها انطلاقاً من إعداد القوة المأمور به في القرآن و السنة، و في النهاية نسألهم سؤالاً محرجاً إضافياً: هل هم مستعدون لتوجيه نفس النقد لجميع حالات إلغاء التعددية بما فيها نموذجهم الغربي الأعلى الذي قضى بالإبادة، و ليس بالإصلاح الاجتماعي كالإسلام، على التعددية الحقيقية التي كانت سائدة بين السكان الأصليين في الأمريكتين؟ و هل يتساءلون لماذا مازال المجتمع الأمريكي المعاصر رغم كل دموع التماسيح التي يذرفها على ماضيه الدموي، و رغم كل أحاديث التعددية الزائفة التي لا تتعدي القشور كالطبخ و الأعياد، يضيق بقلة من السكان الأصليين الذين يعيشون في قاعه غارقين في الفقر و البؤس و المرض العضوي و الاجتماعي؟

و من الأمثلة المبكرة على عمل الاستشراق الداخلي ضد الذات و أثره السلبي في المجتمع الإسلامي ما يرويه المستشرق برنارد لويس عن مفهوم الرعية الذي أساء الرحالة و الدبلوماسيون و المؤرخون الأوروبيون فهمه و تفسيره، فقد قالوا إن كلمة الرعية تعني الماشية و إنها كانت تطلق على مسيحيي الدولة العثمانية و تعبر عن موقفها المستغِل إياهم، و يوضح لويس أن هذه الكلمة لم تكن خاصة بالمسيحيين بل بعموم الفلاحين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، و لم تكن تطلق على سكان المدن سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، و أن اشتقاقها جاء من الجذر رعى، و أن معناها يصف المثل الأعلى للحكم الراعي السائد في عالم الإسلام و العالم المسيحي معاً، ثم يعطي معلومة مثيرة عن الأثر الغربي على الدولة العثمانية و هي أنه منذ منتصف القرن الثامن عشر عبر سوء الفهم الأوروبي إلى الجانب العثماني الذي تبنى هذا التحيز فأصبح العثمانيون يستعملون كلمة الرعية وفقاً لذلك الفهم الاستشراقي المنحرف آنف الذكر[74]، و ليس وفقاً لمفهومهم الأصلي، و هي صورة مبكرة لرؤية الذات بعيون الأعداء.

و يشرح المؤرخ زين نور الدين زين ذلك بالقول إن كلمة رعية كانت تطلق في البداية على جميع رعايا السلطان، و إنها عندما كانت تطلق على أهل الذمة من غير المسلمين كانت كلمة محترمة لأنها مشتقة من رعى، و الرعية هم الذين يتعهدهم الراعي، ثم أصبحت في فترات الضعف تطلق على النصارى و تعني مركزاً اجتماعياً فيه شيء من المهانة مقارنة بمكانة المسلمين[75]، و الطريف أنه في غمرة عملية التأثر بالغرب حاول المسلمون أن يعالجوا هذه الثغرة التي جاءت من الغرب أصلاً بدواء التنظيمات المقتبس من الغرب أيضاً مما سبب كثيراً من الدمار الاجتماعي لا سيما أن الغربيين استخدموه وسيلة لتحقيق مصالحهم و التدخل في شئون العثمانيين الداخلية كما شرحت ذلك مفصلاً في دراسة (أثر التغريب الاجتماعي على المجتمع العثماني:التحدي والاستجابة).

الغريب في كل هذا أن تختار مدرسة التغريب ذم التاريخ العثماني الذي كان يضم جميع الأتباع تحت نفس الاسم، و تحاول في الوقت نفسه تحقيق المكاسب التدريجية البطيئة جداً من تبعية الغرب الذي اعترف بمجمله أننا في مرتبة دونية عنده و من أمثلة ذلك أن فرنسا بلد الحرية و الإخاء و المساواة و إعلان حقوق الإنسان و المواطن تصنف سكان مستعمرتها الجزائرية قسمين: مواطنين معظمهم من الفرنسيين مع أقلية من الإقطاعيين المحليين يتمتعون بحقوق المواطنة، و رعايا من العرب و البربر المحرومين من هذه الحقوق[76]، و عموماً لم نعرف التراتبية العرقية و الجنسية و اللونية إلا من عنصرية الاستعمار الغربي، و مع ذلك رأت مدرسة التغريب أن تحقق لبلادها المزايا و الفوز منها و لو بعد أمد طويل، و هو ما لم نحصل عليه إلى هذا اليوم رغم قبولنا بكل شروط "المجتمع الدولي"، و هي فرصة لو منحت لدورة الاجتماع الداخلي لبلادنا دون تطفل خارجي لوصلت إلى مكاسب أعظم في وقت أقصر و ربما كان التأثير الغربي عن بُعد أفضل من التدخل السافر.

قراءة 4207 مرات آخر تعديل على الأحد, 12 تموز/يوليو 2015 09:32

أضف تعليق


كود امني
تحديث