قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأربعاء, 31 كانون1/ديسمبر 2014 08:11

من الدولة إلى التجديد (3): عن المجال والمكان والمدن

كتبه  الدكتورة هبة رؤوف عزت
قيم الموضوع
(0 أصوات)

مقدمة:

ربما ينبغي أن نعيد طرح سؤال : “من نحن و ماذا نريد؟” في كل مرحلة كي لا نغفل أو ننسى، و لا سيما في مسارات التجديد و مشاريعه الكبري. فما الذي كان ينشده مشروع التجديد الذي بدأ قبل الاحتلال و استمر في ظله و شارك في مقاومته، ثم سعى لاستعادة “دولة الخلافة” و إحياء الإسلام كما يذكر أنصاره؟

في النموذج الإسلامي يتداخل الاجتماعي مع السياسي تداخلاً واضحاً حيث يتشابكان في النظرية و الممارسة، و قد أقام الإسلام علاقة وثيقة بين قواعد تشريعه السياسي و بين فطرة التكوين الإنساني و الاجتماعي، و ضمن من خلال التشريع تأهيل الوحدات المختلفة للقيام بوظائف سياسية إلى جانب وظيفتها الاجتماعية و الإنسانية (بدرجة دنيا في الأحوال العادية و بدرجة قصوى في النوازل)، و كان تأسسها على الفطرة و ”السنن” الاجتماعية ضمانة لاستمرار وجودها في المجتمع، كما أن الأحكام الشرعية الفقهية و الأخلاقية التي تضبط بنيتها و قيمها قد أهلتها لتحمل هذه المسؤولية و الأدوار من ناحية أخرى، لذا فإن فلسفة الوحدات المختلفة ترتبط بطبيعتها السياسية و لا تتحقق في كمالها إلا بتأكيد مكانها على خريطة أعقد من الواجبات و الاستحقاقات. و إذا كان البعض يرى أن النظام الإسلامي له خصائص مميزة تكمن في مجموع مكوناته، فإننا نذهب إلى أن هذه الخصائص تكمن بكاملها في كل بناء من أبنية النظام الإسلامي و وحدة من وحداته حتى و إن كان يؤدي وظيفة محددة بعينها في تكامل مع الأبنية الأخرى، و هو ما يضمن عند استبداد الدولة أو تفريطها في مسؤوليتها تحول هذه الخصائص الكامنة إلى خصائص ظاهرة يمارس بها هذا البناء أو تلك الوظائف التي فرطت فيها الدولة، و هو ما يجب على الباحث السياسي فهمه و بناء تصوره عن وظيفة و إمكانات كل الوحدات سياسياً على أساسه استغلالاً في كل مرحلة تاريخيه لأقصى طاقة و قدرة لكل وحدة بما يتوافق و طبيعة النظام و حاجات الجماعة، على أن يكون معلوما و واضحا أن هذا وضع استثنائي يلزم إنهاؤه بعودة كل جزء في النسق لموازين الأدوار و الوظائف.

فما نسميه ”الدوران المؤسسي” يخلق حالة من الحياة و التجديد (الديناميكية) في المجتمع المسلم و يسبغ عليه صفة التفاعل الدائم مع الأحوال و الأحداث و المستجدات في العلاقة بين الثابت و المتغير و المطلق و النسبي. لكن فهم ذلك التقاطع بين الدوائر و التمايز بينها لم ينفك عن مركزية المكان و المساحات و التي تقترن بها حدود المجالات.

ول ا شك أن ”سننية” العقل الإسلامي السياسي المعاصرة(1)تعاني قصوراً بقدر ما تعاني المساحات الاجتهادية تقليلا من شأن تفعيل “المقاصد” و ليس فقط الحديث عنها كموضوع-و لاسيما في مساحات المكان و المدن و العمران-.و نعني بأصولية المنهج في الدراسة السياسية قيام هذا المنهج على ربط العقل بالوحي، قرآنا و سنة، أي قيامه على استيعاب الأصول التي تقوم عليها الشريعة بمعناها الأخلاقي و الحُججي و الحياتي ثم التشريعي في المعاملات و الأحكام و توليد أطروحات منبثقة عن ذلك المنهج تعيد تشكيل الواقع و تتفاعل مع مستجداته و تكون في موقع الفعل المؤسس و ليس رد الفعل، و لاسيما عند الحركات الإصلاحية التي تنتمي إلي روافد هذا المنهج.

ما قبل الخلافة: عن المجال و المكان و المدن (2)

كان مما شغل الحركة الإسلامية طويلا تصور الحكم و الدولة الإسلامية تصورا عاما كان فيه نقد للدولة القومية التي جاء بها الاستعمار ففرض حدودها المكانية و وسع صلاحياتها السيادية و السلطوية. لكن كتابات الدولة الإسلامية و الحكومة الإسلامية لا تدلنا على وضوح تصور المكان و المجال و الحيز و التحولات اليومية التي أصابت نسيج المجتمع جراء تغير الصيغ العمرانية و أبرزها المدينة الحديثة و خرائطها كمجال اقتصادي و إنتاجي و تجاري يتأسس على تفتيت البنية المجتمعية و الدينية لما قبل الحداثة بل و بنية العدالة و منظومات الأعراف و القيم الجماعية، فضلا عن غياب حسن الفهم لما تنتجه المدن كآلة حداثية لتمايزات طبقية و ثقافية عميقة، و تقديم رؤية معاصرة للتعامل معها ليس فقط تحت ملف العدالة الاجتماعية و التعامل مع مساحات الرأسمالية المتوحشة بل أيضاً لفهم تأثيرها على المنظومة الأخلاقية و القيمية التي يتأسس عليها بنيان الإصلاح و التحولات التي شهدها النسيج الاجتماعي و أثرت على صيغ التدين التي نشأت و درجة التجريف في الثقافة المجتمعية و في العُرف و التضامن الاجتماعي ليس لأسباب تتعلق بميل الناس للصلاح و الفساد بل لوجود بيئة مُعينة على الصلاح أو منتجة للفساد – مكانيا و مساحيا.

و السؤال هو: كيف يمكن بناء تصور لأية دولة دون فهم لطبيعة المدن التي يعيش فيها ما يقرب من 60% من السكان حسب بعض التقديرات و تتغير خرائطها المجتمعية و الاقتصادية باستمرار؟ و ما هي صيغ التمدن التي تقدمها الحركة الإسلامية للناس خلاف دعوة وعظية عن أهمية التزامهم بإسلام لا يعرفونه سوى بشكل طقوسي فغاب الفقه في الدين عن مناطق كثيرة مهمشة اقتصاديا أو مستغرِبة ثقافيا؟

و هل كانت حقوق السكن و الحق في الأرض و الدفاع عن ملكية الأمة للمساحات و تنظيم و تقييد وضع سلطات الدولة ليدها على ما تشاء بدون حسيب و حفظ حق الناس في المشترك من موارد كالمياه و الطاقة مما تضعه الحركة على الأولويات؟ و هل كان لديها تصور لتخطيط عمراني يُحجِّم توظيف السياسات الاقتصادية و التشريعات لصالح رأس المال لا للمصلحة العامة؟ و أنا لا أقصد هنا فقط استجواباً موجهاً لوزير هنا أو بياناً يلقى في برلمان هناك، بل عملاً حقوقياً نضالياً مستمراً يجعل المكان و الحيز و المساحات في قلب خرائط النهضة و رعاية مصالح الشعب، و يقوم بالتعبئة حول ذلك و يجعل  الحق في السكن و الأرض على قائمة مطالبات “تطبيق الشريعة”..و الاجتهاد.

و المطالع لتراثنا الفكري يجد عناية شديدة بتحديد المجال و الحيز و السيادة الخاصة للجماعات المعينة على مساحاتها اجتماعيا و محليا و علاقة ذلك بالسيادة العامة للسلطة على كل المساحات بشكل اعتباري، فهناك فقه كامل للعمارة الإسلامية و العمران، و لعل أقدم كتاب في هذا المجال هو مؤلف ابن عبد الحكم (توفي سنة 214 هـ) المعنون بـ “كتاب البنيان”، و كتاب ابن الرامي: “الإعلان بأحكام البنيان”، فضلا عن تراث فقهي واسع يتناول جملة المسائل الخاصة بالعمران و المدينة ضمن كتب الفتاوى و النوازل.

و هناك حُجج الوقف حيث وثّقت الوثائق كلّ ما يتعلّق بالأملاك و كيفية التصرف فيها و سائر الأحكام المتعلقة فيها، و هناك كتب تاريخ المدن و سيرتها التاريخية و الجغرافية(3).

و اعتنى الفقه بصياغة بعض المبادئ الأساسية و القواعد في التشكيل المعماري للمدينة الإسلامية و في مقدمتها: قاعدة رفع الضرر، و استقبال القبلة، و حقوق الجوار (بما فيها الستر و الشُفعة) و الإحسان (التنسيق الجمالي)، فضلا عن قواعد الاشتراك في المساحات و المنافع العامة و صونها.

و في أبواب فقه المعاملات نجد تأصيلا و تفصيلا لأحكام المعاملات المالية مثل إحياء الموات و الخراج و حق الاختصاص؛ و حق الارتفاق و الشفعة و حق التعلي و حق الجوار و حق المسيل و حق المرور و ضرر الهواء و ظاهر الطريق و باطنه و ترتيب الفناء؛  و الإجارة. و كذلك كتب الأدب و الرحالة التي تذكر مسارات الحياة الاجتماعية و تفاعلاتها المخلتفة؛ و هناك كتب التاريخ و الخطط التي تعطينا صورة عن كيفية إدارة الحياة في المدن الإسلامية.

و في الفتاوى في تراثنا الفقهي تفصيل و شرح و رؤى عميقة لجوانب هذه القضايا المختلفة. ثم هناك كتب السياسة الشرعية في حديثها عن ترتيب السلطات و إدارة الأسواق و الأوقاف، و رسم المساحات و المجالات و تحديد علاقات قوة و الاختصاصات،  ففي تفاصيل الأمكنة و تقسيمات المساحة و توزيعها تكمن فلسفة للوجود و القيم… و رمزية لمعاني الإنسانية و التساكن و الائتناس و الجمال في ثقافة ما.

و قد شهدت المائة عام الأخيرة تحولات غير مسبوقة في صيغ التمدن الإسلامي نتيجة الاجتياح الاستعماري و الاقتصاد الاستعمالي، و هي آثار امتدت ليومنا هذا و ما زالت تنتج تداعياتها. فالمدن التي نعيش فيها ترزح تحت وطأة جملة من التناقضات و الارتباكات.

كل هذا التراث لم يجد له استمرارا و تراكما في كتابات الفقه الحديثة و لا في رؤى رواد الحركات الاسلامية الذين كتبوا عن الدولة و عن الحكومة الإسلامية كتابة منفكة بالكلية عن خرائط المدن الإسلامية في زمن الاحتلال و عصر العولمة. و اكتفوا بالكلام في الحكومة الإسلامية كمعنى أو في التقنين كضابط دون إدراك للسياقات و المساحات. فلم يحدث وصل بينه و بين نظريات علم اجتماع المدن و لا كان على أجندة التغيير التطوير الحضاري و تخطيط مختلف للمدن و العواصم و لطبيعة علاقتها بالريف و البادية، و حق السًكنى و العيش فيها.

روابط المواطنة بين الأحياء المسورة والعشوائيات: (4)

المكان ليس فقط المساحة بل هناك المسافة التي تخلق روابط أو تقضي عليها، و هناك المكان المرتبط بمجال الفعل السياسي تواجداً و إقصاءً، و تتنوع المجتمعات في ظل الدولة القومية الحديثة بين مجتمعات تراحمية تقوم على لُحمة القرابة و العصب و القبيلة و تَعاضد الجماعة، أو مجتمعات تزعم أنها تعاقدية تتأسس على خيارات النفعية و المصالح و وضعية القانون و حرية الفرد. و لكل من هذه المجتمعات التي تتجاور أحيانا و تتقاطع أحيانا فلسفته في روابط الكتلة الاجتماعية و مساحات الفراغ و توزيع السلطة و المكانة. و الخصوصية مساحات معنوية و تقسيمات مكانية، و الرابط بين العمارة و العمران هو الصلة بين المبنى و المعنى. و منظومة الآداب ­­­الإسلامية و أخلاق حماية الخصوصية و الحدود بين الخاص و العام و الفردي و الجماعي تتناغم في إيقاع فريد في التشريع الإسلامي..لكن تحولات المدن أثر سلبا على منسوب التراحم و بالتالي الكثير من أبعاد تطبيق الشريعة في الأخلاق و المعاملات و الفتوى و القضاء.

و السياسة في هذا السياق لها بعد مكاني غالب، تحرك بعض الأنظمة الجموع في مساحات المدن لكن يظل “المجال العام” بالمعنى المدني و السياسي فارغا، و العصيان المدني قد يسعى لملء فراغات الفعل و فراغات المكان بنزول للشارع و تكتل حاشد أو رمزي في فراغ واسع لإرسال رسالة احتجاج تملأ العين و البصر لكن كيف يمكن إدارته بما يضمن ألا تجور و تتغول عليه سلطة و لا يؤثر هو بالمقابل على أمن الناس و دوران حركة العمران و مصالح الخلق؟ تلك الموازين الدقيقة و السياسات العامة و توزيع الموارد و تخصيص الملكية و نزعها و كَف يد دوائر القوة و الثروة عن شراء ما تشاء أو مصادرته أو اجتياحه تحت أي مبرر و صيغ التقاضي و تحقيق العدل في حال التنازع-كلها ملفات لاجتهاد غائب “فقهاً” و حاضر فقط – و بقوة – “صراعاً”.

و إذا كان هناك مشروع إسلامي للعمران نقدمه للناس و هو غاية تأسيس نظام حكم إسلامي منذ عقود فالسؤال ما هي غايات الاجتماع الإنساني كما نراها في تصورنا الإسلامي لنقدمها للعالمين كمنطلقات للإصلاح و للتعارف و المجادلة عن النفع الذي يقدمه هذا التصور ليس فقط  لشعوب الأمة بل للعالمين؟

لقد نظمت كاتبة هذه السطور عام 2010 ورشتي عمل في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، الأولى عن مخطط القاهرة 2050 مقارنة بتجارب تطوير العاصمة في بلدان مختلفة.. و الثانية عن تطوير وسط القاهرة، و جمعت بين أساتذة تخطيط عمراني و عمارة و علوم اجتماعية و إدارة و تخطيط و صناع قرار حكومي، و اتضح بجلاء أنه لا أحد يتابع تلك الملفات في الحركة الإسلامية و لا يقدم نقدا و لا نقضا للجاري من تخطيط لتغيير معالم المدينة بمنطق رأس المال و رجال الأعمال المهيمن على صانع القرار، حيث البشر مجرد كتل بشرية يمكن نقلها من مكان لآخر و لا يحق لهم سوى المطالبة بتعويض فحسب.

إن لدينا في تاريخنا نماذج مختلفة للمدن و الحواضر و عبر التاريخ الإنساني كذلك كان لكل منها منطق و تأسس على كل منها صيغة للاجتماع بعضها ظالم لنفسه و لغيره، و بعضها سابق بالخيرات. و لدينا تراث يملك التقدم على كثير من جهد الفلاسفة في حضارات أخرى، فهل كان موضع نظر و بحث و دراسة ممكن تصدروا ليسودوا.. قبل أن يتفقهوا؟

و هل يمكننا اصطفاء مفهوم للتمدن يغدو الأكثر إنسانية و يصير معيارا نموذجياً بحيث يُقاس عليه مستويات التمدن: مثاليةً.. ثم نقصاناً.. ثم هبوطا “للتوحش”-كما وصف ابن خلدون، و اعتبار ذلك معيار نجاح الإصلاح السياسي و ليس الانتخابات كما شاع؟ و كبف يمكن إعلاء معيار الإصلاح الاجتماعي، و ليس مظهرية الشعائر دون إقامة ميزان الدين: تصديقا و تكذيبا، و تفعيل الآيات التي وردت في القرآن لتؤكد اقتران إقامة الدين برعاية حقوق المستضعفين و أشد الفئات تهميشا: في المجالات وفي الأمكنة و المساحات؟

لقد انشغل الفكر الديني و كذلك الخطاب الإسلامي بالقضايا الفقهية التفصيلية أو الأبعاد الأخلاقية الدعوية، لكن أهمل السياقات المكانية لتنزيل تلك القواعد و الآداب فلم تنل الحظ الكافي من التأصيل لفهم التحول الذي أصابها في ظل اتساع السوق الرأسمالي و إعادة تشكيله للمساحة. فالاقتصاد الرأسمالي الصناعي ثم المعلوماتي العالمي قام بتغيير أمكنة الاجتماع الإنساني و منطقها، و أبرز مظاهر ذلك تحولات المدن كمراكز اقتصادية و نقاط محورية في علاقات العولمة و الهيمنة، و من أبجديات أصول الفقه الشرعي و الحضاري أن نفهم سياقاتنا المكانية قبل أن نرسم ملامح نهضتنا الإسلامية.

فما هو سبيل تنزيل الشرع و الآداب في فضاء المدن التي تخلق مساحات و مسافات و تفاعلات اجتماعية و أنماطاً سلوكية لا تتعلق بإرادة الفرد بل بهيكل و بنيان المدن و تخطيطها و عمارتها؟

و الحق أن كل هذه النقاط المبثوثة تشكل في كليتها رؤية متماسكة متكاملة لعلاقة الإنسان بالمكان و بالشريعة التي تتجاوز هنا التعريف الحديث القانوني الضيق لها لتشمل الأعراف و الآداب و دورة المجتمع المدني و تفاعلاته مع محيطه المعماري و صلته بالأرض و سكانها.

و لقد شكل المحيط العمراني رؤية الفقيه و الأدب و المؤرخ للسلطة و للحيز و المكان؛ و انعكست عليه رؤى الإنسان السائدة و عقيدة التوحيد و ما ترتبه من مفهوم للحقوق و الجماعة و النفع و الاستخلاف؛ و مع تحولات العمارة و تشكل المدن الحديثة لخدمة رأسمالية كان لزاما التساؤل عن صيغ و تحديات تنزيل الشريعة علي عمران متحول أقل ما يوصف به أنه معمار “كاذب” ظاهره لا يعكس قيم سكانه الباطنة بل و يتحداها؛ و قد يوصف في وصف أشد قسوة أنه معمار ضد الشريعة؛ يشلها و يقننها و يقتلها بمعاداته لفكرة الأمة أو الجماعة العضوية؛ و فكرة العرف و مساحات السلطة الشعبية و دوائر التفاعل الديني و طقوس الثقافة المحلية التضامنية؛ معمار يكسر بوابات الحارات كما فعل الفرنسيون عند احتلال القاهرة؛ و يتجاهل خصوصية الأمكنة؛ و ينمط فكرة “العلو في البنيان” بتثمينه للأرض بما هو خارج عن خراجها و مرتبط بحسابات رأسمالية و طبقية؛ و يكرس المركزية و يفتح كراهية و عُنوة دوائر الخصوصية بل و الشروط الدنيا للعيش الإنساني.

المدينة..و أجسادنا: (5)

و من المهم الإشارة إلى أن قضايا المكان لا تنفك عن قضايا الوجود و الجسد و الحقوق الإنسانية؛ و إعادة صياغة اللغة التي يتم بها التوجه للناس لتكون لغة دالة لها اقتران بحياتهم و مشكلاتهم الاجتماعية و ليست لغة اصطلاحية و حسب (مثل الانتقال من فقه فتنة المرأة و إدانة التحرش و الاغتصاب إلي بيان فلسفة الجسد في الإسلام و علاقة الحرمات بالمساحات و بالأخلاق و بالقيم و بإدارة الذات في التصور الإسلامي و حفظ خصوصيتها و كرامتها رجالاً و نساء). و لعل مفهوم المواطنة بما طرأ عليه من اتساع و تطوير في الفكر الغربي بمدارسه الأيديولوجية المتنوعة يمثل مفهوما صالحا للتطوير-و التطويع- من أجل حفظ  حقوق الناس في ظل تراجع دور الدولة من مساحات الضمان الاجتماعي و ضعف الشبكات الاجتماعية التقليدية الداعمة للافراد؛ أي تحويله لمفهوم دِرع لحماية الحقوق و ليس مفهوم مظلة بشكل فضفاض، بما يتجاوز الحديث عما “كفله الإسلام” من حقوق للفئات الاجتماعية المختلفة إلى تفصيل و تفعيل كيفية حماية هذه الحقوق بإصلاح السياسات العامة و الموازنات الحكومية؛ و سبل حماية الأفراد و الجماعة في توازن متناغم. و هو اجتهاد لا بد أن يشتبك مع تحولات السوق بمعناه الشامل و سياسات التكيف الهيكلي و الخصخصة للأرض  و الموارد العامة و الآثار بعيدة المدي لذلك علي توازن القوة و المكانة بين الطبقات و الشرائح الاجتماعية.

و هي قضايا تحتاج اجتهادا جماعيا و لن يفلح العقل و الخطاب الديني الحالي في الاشتباك معها دون تطوير لحالة العقل الفقهي كما سبق البيان؛ و إلا بقي يخاطب واقعاً متخيلاً و يتحدث عن حقوق تضيعها الهياكل و السياسات و التشريعات و تنتهكها الإدارة المؤسسية و تركيبة التفاعلات الاجتماعية في تفاصيل الإدارة العامة و البيروقراطية و السلطوية بشكل يومي و مستمر.

قضايا السياسة وصلتها بالعمران:

للصمت و التعميم تجاه قضايا التمثيل و الحضور السياسي و تداول السلطة و الشفافية و مكافحة الفساد أثر علي أحوال الناس اليومية فادح الثمن، و هذا من أصول البلاء بحيث يصبح التعامل مع القضايا الفرعية للتفكير و الفقه و الفتوى دون تغيير أسباب المشكلات.. دورانا في حلقة مفرغة.

و المذهل أن متابعة الجدل الدائر بين التيارات الفكرية نجده رغم مظهره السياسي الصاخب متجاهلا لأبرز موضوعات القوة و التسلط السياسي في مجتمعات عديدة أخرى؛ من ذلك غياب النقاش حول القيم العامة التي يبنى عليها العقد الاجتماعي في مجتمع ما -تحديدا مدينة ما-و تحولاتها و مستقبل التعامل معها؛ أو كيفية تحديد مساحات الخصوصية و دوائر الاجتماعي العام؛ أو الفلسفة التي يقوم عليها النظام التعليمي؛ أو السياسة الإعلامية و الإعلانية و علاقتها بالمجال العام و بالثقافة و بالهندسة الاجتماعية التي تفرزها آليات السوق و التسويق و تلعب دورا أساسيا في تشكيل الوعي بعد أن سقط مفهوم الإعلام الجماهيري و أصبح المجتمع استهلاكيا يكرس الفردية و الشراهة الشرائية و تطارد لافتات و شاشات الدعاية فيه المواطنين علي الأرصفة و في المحلات التجارية بل و داخل أروقة السوبر ماركت بشكل غير إنساني. في هذه البيئة الاجتماعية و من ورائها البيئة الطبيعية التي تعاني من ذلك التحول الرأسمالي المشوه يموت الناس فيها علي الأسفلت في حوادث الطرق بمعدلات هي الأعلي في العالم؛ فيصبح الخطاب الديني في مواجهتها قدريا يؤمن بأن لحظة الموت لا فكاك منها بدلا من أن يكون أفق هذا الخطاب هو الدفاع عن الحقوق المساحية للأفراد و التأكيد على أن حق الأمن و الحياة يبدأ بضمان الحد الأدنى من نوعية الحياة الإنسانية و ليس محض العيش على هامشها المتآكل.

إن التساؤل هو: إذا كان مجال الحداثة العلمانية الأول هو المدن الصناعية، فأين الجدل حول المدن الإسلامية اليوم في ثوبها الكوزموبوليتاني؟ و كيف يمكن أنسنتها –ناهيك عن أسلمتها- كمجال حركة لاستعادة الديني الحضري و الحضاري في مساحات المدن المعادية للتجمع الإنساني و التراحم و التكافل. فهذه المدن التي يعيش فيها المسلمون اليوم تزدحم بمساحات و مسافات و مواقيت للعمل و تحديد لوقت الفراغ يتوازى مع الإنتاج المادي لا مع فلسفة العبادة و لا ينتظم حول الصلاة كخيط ناظم للكيانات الإيمانية الإسلامية (و الكتابية) التي يمكنها وحدها أن تضبط و تحفظ المحتوي الإنساني لنسيج مجتمع المواطنة في المساحات الحديثة.

كيف يمكن تصور المواطنة- أصلا و فرعا -دون إعادة تأسيس فقه لحركة الكتل البشرية و قيمها الاجتماعية و تواصلها العبر-مكاني من خلال الهجرة للعمل أو الهجرة القسرية أو حتي السياحة الطوعية بما يرفع التواصل الثقافي و الإنساني من خلال التشريع و الاستقرار العمراني-السكني ليكون إنسانياً في مدنٍ صارت بلا هوية؛ فهل يمكن أسلمة مدينة مثل دبي مثلاً –أبدًا؟ و هل يمكن الاحتفاظ  بالطبيعة الإيمانية لمكة و المدينة في ظل توحش السوق و الإعلان و النزعة الاستهلاكية المتجاوزة بل و المعادية لفلسفة “ليشهدوا منافع لهم” التي ذكرها القرآن؟

كيف يمكن إعادة صياغة الأبنية الاقتصادية الرأسمالية العابرة للقوميات كي تكون هياكلها الإدارية و تنظيم مواعيد العمل فيها و شروطه و مناخه مع الجماعية و ضد الفردية؛ محترما لرأس المال الاجتماعي و الإنساني و الأخلاقي؛ و أن يكون هذا ركنا أساسيا في تحرير المرأة بالإسلام من عبودية و أبوية الرأسمالية و مشاركتها في المجال العام و السياسي و المدني باتجاه نهضة إسلامية هي شريك فيها بلا نزاع؟

كيف يمكن بناء تحالفات إنسانية عابر للعالم مع التوجهات الإنسانية ضد هيمنة اقتصاد السوق ما وراء رفض الفائدة البنكية و باتجاه رؤية إسلامية لعلاقة النظام الاقتصادي الإسلامي بالبيئة و حماية حقوق العمال و احترام التراث المعماري و النقابية الدولي و مكافحة حرمان الأطفال من طفولتهم بالعمل المبكر و من أمهاتهم بعمل الأمهات الذي يمليه واقع الفقر المتنامي، أو بالتجار في البشر؟

كيف يمكن تفعيل شبكات الرحمة الإنسانية الإسلامية لمقاومة الكوارث و حل النزاعات المسلحة؛ و من كان أولي بأفكار أطباء بلا حدود و الرقابة الإنسانية العالمية علي أوضاع حقوق الإنسان؛ نحن أم غيرنا؛ أم كنا منشغلين أثناء تأسيس تلك الجهود بجدل فتنة المرأة و حرمة المصافحة و الدفاع عن الإسلام ضد علمانية لا نعرف خرائطها و مساحاتها و مدنها؟

كيف يمكن تحقيق تناصر إسلامي مع الأقليات دون ممارسة وصاية على أوضاعها التي تستلزم اجتهادا فقهيا و سياسيا ينبع من داخلها دورنا في دعمه و التواصل معه و تفعيله و حشد النصرة العالمية له و لإنسانيته بدلا من الانخراط في الشجب أو إظهار النصرة اللفظية دون معرفة بأوضاعهم و ظروفهم بل و أخطائهم التاريخية المدنية غير الحضارية؟

كيف يمكن توليد رؤى للجمال في زمن القبح؛ و ثقافة للسلام في مناطق النزاع تعين الناس على ألا يدخلوا في دائرة العنف المتجاوز لـ “حدود” الجهاد؛ و يرد بعضنا بعضا لتلك المعاني و القيم و الحدود بدلا من المزايدة بدماء الأبرياء منا و من غيرنا بما لا يحقق مصلحة منشودة أو منفعة مرجوة؛ و رغم ذلك لا يتم تعديل التكتيك فنوشك أن نخسر “أنفسنا” المسلمة قبل أن نخسر المعارك بارتباك العقل السياسي الواضح في مواجهة النوازل؟

ثم نقف أمام قضية أخرى مهمة: ما هو شكل الإدارة التي ننشدها للشؤون الدينية في مجتمع إسلامي؟ هل من المصلحة تأميم الإسلام في فرنسا؟ و هل من المفيد تحرير الأزهر في مصر؟

من “يدافع” عن الدين ضد أي هجوم؟ الناس أم الرقابة على المصنفات الفنية التي تجيز الأفلام السينمائية؛ أم وزارة الثقافة؟ أم يظل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية؟ أم وزارة الأوقاف؟ أم المجتمع المدني ذاته بولاء إسلامي و ديني يرى في الهجوم على الدين عدوانا على الفضائل المدنية؟

من الثقافي إلى المحلي:

“توطين” النقاشات هو مدخل فقه المكان و المواطنة.

الفريضة الغائبة اليوم هي فهم علاقتنا بالمكان بين التمدن و التوحش و العسكرة و الاجتياح و الاستلاب و الاحتلال و الاستهلاك.

فنحن نسأل و نؤصل و نتّحد بالمكان و نشتبك عبره مع القائم من سياسات و اقتصاديات عن مجالات العلمنة و مساحات الدين و الحضور المدني للناس و اختراق قيمنا الإسلامية و حدود سلطتنا كمواطنين؛ ثم نراهن على الفطرة و نسعى من أجل فضح الظلم و تأسيس أعراف العدل في المجال اليومي قبل أن ننشد التغيير البعيد و الدم المسفوح للضحايا الصامتين للرأسمالية؛ يسيل تحت أقدامنا دون أن نراه.

و العلمانية ليست طائر العنقاء؛ يمكننا تنحية اللفظ جانبا و الاشتباك مع المضمون؛ طرح الأسئلة و تقديم إجاباتنا نحن والبحث عن حماية الدين من بطش الدولة بفصلها عنه؛ و من هنا نبدأ؛ بفك الارتباط القانوني بين الرئيس و دار الإفتاء؛ و بين الدولة و التعليم الديني؛ و بين الحكومة و مناهج التعليم المدني؛ و بين وزارة الشؤون و أحوال التكافل و صلة الرحم؛ و بين الحزب الحاكم و إدارة السياسة في المحليات. و فقط حين تتم خلخلة تلك المنظومة بفصل واضح الفلسفة؛ يمكن إعادة تأسيس علاقة لن تكون بالضرورة التماهي؛ هذا إذا أدركنا أن الدين أقوى من الدولة و أن الدولة أدنى من فلسفة العمران؛ و خاضعة لدورة التاريخ.

الآن نتحدث عن مدن لايمكن وصفها بأنها مدن فاضلة كي يتم إدراجها في الحديث عن صيغ التمدن،حيث إن هذه مدن اختلط فيها الفاضل بغير ذلك، مدن مساحتها هي مساحات أسواق أو بنيت بالأساس في المرحلة الرأسمالية في أوروبا و التي نقلنا عنها تخطيط المدن بشكل يعتمد على تسهيل حركة التجارة بأكثر مما يعتمد على تواصل البشر في داخل المدينة و هنا من الأهمية بمكان أن نفهم نظر فقهاء الإسلام إلى العمران من الناحية المساحية، و تحولاتها المعقدة في مرحلة العولمة، و اختصار المسافات و تعدد الجنسيات، و تقاطع الأسواق ناهيك عن “اللامكان” في العالم الافتراضي و منتجات تكنولوجيا الاتصالات القاهرة مثال صارخ على هذ التشظي العمراني و تلك التفاوتات التاريخية و الطبقية و الثقافية بين المساحات و علاقتها بالدولة.

ما الذي يمكن أن تقدمه القاهرة لفهمنا للدين و التدين و الشريعة و الحكم الصالح؟ ما علاقة الريف بالحضر و ما علاقة ترييف التنظيمات و الأحزاب رؤيتها للثقافة و الإدارة كما لاحظ حسام تمام في دراسته عن ترييف الإخوان المسلمين و سلفيتهم في الثلاثة عقود الماضية؟ كيف نفهم ملف السياحة باعتباره ملفا عمرانيا و ليس فقط ملفا أخلاقيا؟

ما حلال و حرام الأمكنة و المساحات و ما تصورنا عن بناء الذات في مساحات العولمة؟

كيف يتطلع البعض لإقامة دولة “تتمدد” دون أن يكون عنده عقل يقيس المساحات و يفهم التوازنات و يؤسس للعمران في زمن الحروب و النزاعات.

و ما مستقبل هذا الدين في أرضه مع كل ما يحدث من إعادة ترسيم لحدود الدول و حدود السلطة استشراءً و توغلاً تارة و انحسارا و انكسارا تارة أخرى؟

و ما لم يطل التجديد مساحات العقل و خرائط التفكير فلن يكون هناك “تمكين”، تمكين متين مَكين يقيم الدين :صدقا و حقا و عدلا، تمكين يكون انطلاقه من التجديد قبل أن يكون من الدولة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)        مداخلة للكاتبة في ندوة “مسارات النهضة والفقه الاستراتيجي” عن التسخير والسنن/سبتمبر2012https://www.youtube.com/watch?v=uQ54LFlDn8Y

(2)        للمزيد حول علاقة المدينة بتصورات الجسد وعلاقته بالحيز والسياسة، راجع:

Engin Isin,Being Political: Genealogies of Citizenship , Minneapolis:University of Minnesota Press,2002

Richard Sennett, Flesh and Stone:The Body and the City in Western Civilization, New York:W.W. Norton and Company,1996

(3)انظر ما كتبه ابن عساكر عن «تاريخ دمشق»، والخطيب البغدادي عن «تاريخ بغداد»، وغيرها من تواريخ البلدان، وكتاب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” للمقريزي كمثال للخطط.

(4) محاضرة للكاتبة أبريل 2013 عن المدينة والرأسمالية والمجال العام بالجامعة الأمريكية بالقاهرة https://www.youtube.com/watch?v=51Ee_3Gll94

(5) يراجع للكاتبة سلسلة مقالات تحت عنوان (أجسادنا) تم نشرها بجريدة الدستور المصرية عام 2010.

الرابط:

http://fairforum.org/?p=2632

قراءة 1827 مرات آخر تعديل على الأحد, 12 تموز/يوليو 2015 09:35

أضف تعليق


كود امني
تحديث