قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الخميس, 29 كانون2/يناير 2015 07:23

الحوار الحضاري في التاريخ الأمريكي: هل انتقلت التنمية والحضارة والتقدم من المستعمِرين إلى السكان الأصليين؟ 1/2

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
قيم الموضوع
(0 أصوات)

عندما تلتقي أي جماعتين بشريتين على أرض واحدة ينشأ بينهما حوار حضاري إذ يتعلم كل منهما من الآخر ما يراه مفيدا لحياته، و إذا كان هذا الوصف صحيحا في العلاقات السلمية كالسياحة و التجارة و الهجرات، فإنه صحيح أيضا في مجال الصدامات إذ لا تمنع الحرب بين فريقين، و بخاصة إذا طال أمدها، عملية الاقتباس المتبادل بينهما، و إن كانت درجته تختلف حسب تفوق كل منهما، ذلك أن الطرف الأضعف مولع بتقليد الغالب كما أكد ابن خلدون، و قد عرفنا مثل هذه الحوارات في تاريخنا الإسلامي أثناء حروب الفرنجة الصليبية التي كانت مناسبة للتبادل الحضاري الذي كان نصيب الفرنجة منه أكبر بحكم التفوق الإسلامي، و الغزوات المغولية التي انتهت بإسلام الغزاة فكان ذلك ثغرة في القاعدة الخلدونية، و أيضا أثناء الفتوحات الإسلامية حين لم يتردد المسلمون في تمثل الحضارات التي دخلوا أراضيها من موقع القوة و الاقتدار.

و بحلول عصر الكشوف الجغرافية انطلقت أوروبا في القرن الخامس عشر و ما تلاه في آفاق العالم محاولة دعم مواجهتها مع عالم الإسلام فعثرت في محاولتها هذه على عوالم أخرى ما لبثت أن دخلت في مواجهات معها لاستنزاف مقدراتها، سواء لدعم دول المركز الأوروبي أو لتأسيس كيانات جديدة قائمة بنفسها في تلك الأصقاع، و كانت المواجهة في القارة الأمريكية مع سكانها الأصليين نذيرا لما سيصيب بقية أنحاء العالم بعد ذلك سواء في استرقاق إفريقيا أو استعمار آسيا أو إبادة أستراليا أو تقسيم العالم الإسلامي و كل ذلك جرى نموذجه البدئي في القارة الأمريكية لأنها شهدت أول تطبيق لرؤية عالم النهضة الغربية و الأنوار الأوروبية و العقل الحديث على العوالم غير البيضاء، و من هنا كانت أهمية دراسة هذا الموضوع في التاريخ الحديث.

●الحوار الحضاري في ظل صراع الوجود

منذ بداية اللقاء بين العنصرين الأوروبي الوافد و الهندي الأصلي في أمريكا اتضح أنه سيكون هناك صراع بين الطرفين لأن إسبانيا في البداية اهتمت بالحصول على ثروات أمريكا الوسطى والجنوبية، و اهتم مهاجرو إنجلترا بالحصول على أرض الهنود، و ربما لم يكن واضحاً لدى الجميع في بداية القرن السابع عشر أن الأوروبيين سيكتسحون القارة كلها و يستوطنوها و يطردون جميع سكانها، و لكن الواضح آنذاك أن الأوروبيين يصارعون أهل البلاد على أرضهم أينما حلوا، و عدم وجود مخطط أوروبي في ذلك الزمن للاستيلاء على القارة كلها لا يبرئ الأوروبيين من سبق الإصرار، و ذلك على عكس ما يحاول إثباته الساعون للحصول على صكوك الغفران الحضارية بأثر رجعي، فبؤس المشهد المحلي الذي صاحب جميع تجارب الاستيطان الأولي في أمريكا، و ما لازمه من نهم لا يشبع لابتلاع الأرض و لم يتوقف إلا أمام المحيط الهادي، يثبت أن مصير السكان الأصليين كان إلى زوال أينما حل القادمون الجدد، و ما حدث في القرون التالية لجميع السكان الأصليين ليس سوى إعادة مملة للفيلم الذي عرضته أولى المستعمرات في أمريكا، سواء في فرجينيا(منذ 1607) أو بلايموث (منذ 1620).

و قد لخص أحد المؤرخين حقيقة التناقض بين السكان الأصليين و المهاجرين الأوروبيين بتوضيح جانبها الاقتصادي الذي لخص المشكلة الهندية بالسؤال التالي: كيف يمكن الحصول على موارد الهنود؟ و بالقول أيضا إن جميع أوجه العلاقة بين الطرفين اشتقت من قضية جوهرية واحدة هي الصراع على الأرض، أو التمدد الأمريكي في أرض الهنود و مقاومة هؤلاء هذا التمدد، و قد ألفت العلاقة بين الهندي و الأرض مصدر هويته الشخصية و الثقافية و الاجتماعية، و كانت الرأسمالية التي يعتنقها المجتمع الأمريكي تجعل الأرض إحدى عناصر الإنتاج الرئيسة (مع رأس المال و العمل)، و لا يمكن تحقيق التراكم الرأسمالي إلا بفك قيود الروابط بين الهندي و أرضه و التي تناقض حرية السوق، و لم يكن من الممكن تحقيق ذلك إلا بأحد حلين: تغيير جذري في المجتمعات الهندية أو إزاحتها من الطريق[1]، و لكن ما هو موقف السكان الأصليين من هذا الطوفان؟

تشير حوادث التاريخ إلى أن كثيراً من المجتمعات الهندية قبلت السير على نهج التغيير و تبني طريقة حياة الرجل الأبيض، و قطع بعضها خطوات واسعة جداً في هذا السبيل، و لكن المجتمع الأمريكي لم يترك لهذه المجتمعات فرصة للحياة حتى على صورته و ظل يطمع بما في يدها من بقايا الممتلكات التي حصرها فيها في مراحل سابقة و دمر كل إنجازاتها التي وصلت إلى محاولة الدخول في الاتحاد بولاية خاصة تمتلك جميع المقومات.

و لما كانت الأرض التي يعيش عليها الهندي هي الهدف الذي يتطلع إليه الرجل الأبيض في صراعه مع غريمه الهندي كما حدد ذلك الرئيس الأمريكي الأول و مؤسس الجمهورية جورج واشنطن[2]، موجزاً بذلك طبيعة العلاقة في كلمات قليلة و مبددا أوهام الهداية الدينية و جلب الحضارة و التعايش، فقد كان من الطبيعي أن يتخذ الصراع طابعاً دموياً، يتراجع الهندي بقدر ما يتقدم غريمه، و لكن هذا الصراع لم يتم في برهة قصيرة بل امتد مئات السنين و أعطت هذه المدة فرصاً لنشوء حوار حضاري اقتبس فيه الطرفان من منتجات بعضهما الثقافية و المادية ما يعين كل منهما على حياته و يقويه في صراعه، و قبل أن تتحدد نتيجة هذا الصراع شاهدنا تبادلاً مثيراً، منه على سبيل المثال ما جعل شباب المستوطنين الإنجليز في أرياف المستعمرات يباهون بارتداء ملابس الهنود (المئزر و الجوارب الجلدية) و يذهبون بها إلى اجتماعات الكنيسة حيث يلفتون انتباه الفتيات[3]، و من الطبيعي ألا يحدث ذلك إلا بين أمتين متعادلتين حضارياً قبل أن تميل الكفة و تهزم إحداهما، كما حدث اختلاط كبير في الدماء نتيجة الزواج المختلط لاسيما بين رجال الحدود من تجار و صيادين و وكلاء و نساء الهنود مما نتج عنه سلالة عملت وسيطاً بين الحضارتين و لكنها اصطفت في كثير من الأحيان إلى جانب الرجل الأبيض فسهلت له تنفيذ برامجه و كانت لعنة على السكان الأصليين رغم أنها كانت بائسة و فقيرة و مستبعدة مثلهم، و يكوّن اليوم ذوو الدماء المختلطة معظم من يصنفون أنفسهم من أصول هندية[4]، و قد تم التبادل الحضاري في الماضي وفقا لما يلي:

●ما اكتسبه الأوروبي و الأمريكي من عالم الهندي الأصلي:

1- الاعتماد على المساعدات الهندية:كان ما قدمه السكان الأصليون من مساعدات حيوية للوافدين الجدد ضروريا لبقائهم على قيد الحياة، و قد ظلت مستعمرة فرجينيا بعد نشوئها بسنوات طويلة تعتمد على الهنود في التزود بالذرة لغذائها[5] في نفس الوقت الذي كانت فيه مستعمرة بلايموث تحتفل مع السكان الأصليين بالنجاة بعد أول حصاد يمر عليها بمساعدتهم (1621).

2- تعلم الحياة في البيئة الجديدة:ذلك أن المهاجرين الأوروبيين وجدوا أنفسهم في بيئة قاسية لما وصلوا العالم الأمريكي الجديد عليهم، و لم يتمكنوا من النجاة إلا بفضل المساعدة التي قدمها لهم السكان الأصليون عن طرق الحياة فيه و التي سميت"مهارات البرية"، كصناعة الفخاخ و الصيد و بناء القوارب و إشعال النيران و صيد الأسماك و صناعة الأحذية الخاصة بالسير على الثلوج، هذا بالإضافة إلى زراعة النباتات الغذائية التي لم يكن الأوروبي يعرفها في الوقت الذي يعتمد عليها الهندي في غذائه كما سيأتي، و قد تعلم المهاجرون مسالك القارة و طرقها و مصادر المياه فيها من السكان الهنود، و موجز الأمر أن الوافدين الجدد "تعلموا كيف يبقون على قيد الحياة بالتلاؤم مع الطبيعة باستخدام التقنية الهندية"[6].

3- التعرف إلى نباتات جديدة: حفلت البيئة الجديدة التي وجد المهاجرون الأوروبيون أنفسهم فيها بنباتات لم تكن معروفة في العالم القديم و يقدر عددها بأكثر من أربعين، و قد تعلموا من السكان الأصليين استخدامات عديدة لها تراوحت بين الغذاء و الدواء و الملبس، و من هذه المحاصيل الجديدة الذرة و البطاطا و الطماطم و الكاكاو و الفول السوداني و التبغ و القرع و اليقطين و دوار الشمس و اللوبيا و غيرها من المحاصيل التي تكون اليوم ثلثي الإنتاج الزراعي البشري[7].

4- التعلم من الطب الهندي: على عكس ما هو شائع عن طب المجتمعات "البدائية" الموسوم بالسحر و الخرافة عادة، تعلم المهاجرون الأوروبيون استعمال ستين نبتة برية من الهنود الحمر للاستخدامات الطبية و على رأسها الكوكايين و الكينين[8]، و قد عد أحد المؤرخين مائة و سبعين دواء كان الهنود يستعملونها مازالت على قائمة الاستعمالات الحديثة في وقت كان الطب لدى المهاجرين الأوروبيين مازال ساذجا و خرافيا مقارنة بحقيبة الطبيب الهندي[9]، و يقول مؤرخ آخر إن الطب الهندي في أمريكا كان معقدا و مركبا و فعالا في علاج الأمراض المعروفة في القارة قبل الهجرة الأوروبية و لكنه لم يكن كذلك مع الأمراض الوافدة[10].

5- فنون القتال: أدت إعادة اكتشاف مآثر الهندي بعد فوات الأوان و زوال خطره إلى الاهتمام بمنجزاته الحضارية التي اكتشف منها أنه أثناء المواجهات العسكرية بين السكان الأصليين و الوافدين الأوروبيين كان"أكثر المقاتلين الأوروبيين نجاحا هم الذين تبنوا طرق الهنود في الحرب لتصبح طرقهم الذاتية" و أن "نجاح الأوروبيين في حروب التخوم كان متوقفا على قدرتهم على تحقيق التوازن بين تقاليدهم العسكرية و طريقة الهنود في الحرب"لأن"التطور العسكري الأوروبي في حد ذاته لم يكن ضمانا لإخضاع القارة"[11]، و يحكي أحد الجنود الأمريكيين متذكرا الحروب الهندية التي أعقبت الحرب الأهلية الأمريكية(1861-1865)أن سرعة الهندي في إطلاق سهامه كانت تفوق سرعة الجندي في إطلاق رصاصه من بنادق ذلك العصر[12]، و كما تأقلم الوافد مع فنون القتال الهندية فقد عدل السكان الأصليون من طرقهم القتالية لتكون أكثر فعالية في مواجهة الأسلحة النارية[13].

6- التنظيم السياسي: بعد سبعين عاما من هزيمة المقاومة الهندية المسلحة ضد الاستعمار الأمريكي و زوال خطر السكان الأصليين على الوافدين الأمريكيين، اعترف الرئيس الأمريكي جون كينيدي بالأثر الهندي في بناء النظام السياسي الأمريكي الذي استلهم آباؤه المؤسسون (و منهم بنيامين فرانكلين) في عملية بنائه شكل التحالف السياسي الذي جمع قبائل الإيروكي في شمال شرق الولايات المتحدة(نيويورك)[14]و ذلك من مشاهداتهم المباشرة أو من قراءتهم للفلاسفة الفرنسيين (و منهم جان جاك روسو) الذين تأثروا بمشاهدات الرحالة بين قبائل الهنود و تكلموا عن نزعتهم للمساواة و الحقوق الطبيعية و التقاليد الديمقراطية التي تشبه الحكم البرلماني ذا المجلسين[15]، و قد اعترف الكونجرس الأمريكي بفضل الهنود في ذلك سنة 1988[16].

7- المكاسب اللغوية: دخلت كثير من كلمات اللغات الهندية العديدة في حياة الرجل الأبيض سواء بصفة أسماء لكثير من الولايات التي تزيد عن نصف مجموع الولايات الأمريكية (داكوتا، أوكلاهوما، ميسوري، أيوا، كانساس، ...إلخ) و المدن(شيكاغو، سياتل، ميامي...إلخ) و المعالم الجغرافية كالبحيرات(ميتشيغان...إلخ)و الأنهار (ميسوري، ميسيسيبي...إلخ) و الخلجان والجبال و غير ذلك، و قد عد بعض المختصين أحد عشر ألف مكان سمي في الولايات المتحدة بأسماء هندية[17]، نقل بعضها حرفيا و بعضها الآخر ترجم إلى اللغة الإنجليزية بما تؤديه المعاني في اللغات الهندية، هذا إضافة لأسماء البيئة الاجتماعية الهندية كالمساكن و الملابس و الأطعمة التي ظلت في اللهجة الأمريكية بنفس أسمائها الهندية، كما دخلت عبارات اختص السكان الأصليون باستخدامها في لغة الإنسان الأبيض مثل "الحديث بلسان مشقوق" كناية عن الازدواجية و النفاق و"السير على درب الحرب" كناية عن إعلان الحرب و"دفن البلطة" كناية عن اختيار السلام و غير ذلك من عبارات[18].

و قد استفادت الولايات المتحدة في زمننا المعاصر فوائد جمة من لغة قبيلة النافاجو-كبرى القبائل الهندية-و لغات قبائل أخرى وصل عددها إلى 16 في الحرب الكبرى الأولى(1914-1918) و في الحرب الكبرى الثانية (1939-1945)[19] و قد تميز النافاجو في الحرب الثانية حين عينت الحكومة الأمريكية ما يقارب ألفي هندي من القبيلة في سلاح الإشارة الذي كان يتخاطب بلغة القبيلة التي لم تتمكن جيوش المحور من فك رموزها[20] مما تسبب في تحقيق انتصارات هامة للحلفاء في نفس الوقت الذي كان يحرم فيه على الطلاب الهنود التحدث بلغاتهم في المدارس الأمريكية المخصصة لتمدينهم، و من المفارقات أن أحد الطلاب من قبيلة النافاجو كان يعاقب لأنه تكلم بلغته في نفس الوقت الذي كان والده يعمل ضمن سلاح الإشارة في الجيش الأمريكي حيث يستخدم اللغة نفسها لتحقيق النصر لأمريكا[21] (!)

8- بعض ملامح الحياة في أمريكا:يوجه بعض المؤرخين الأنظار إلى أن الاحتفاء بالحرية في الحياة الأمريكية (داخليا على الأقل و راية إعلامية في مواجهة الخصوم خارجيا من وجهة نظري)مدين للحرية التي عاشها الهندي و دافع عنها حتى آخر سلاح في جعبته، و ليس فقط للحرية التي بشرت بها الأنوار الأوروبية، كما أن الاهتمام الواسع بمنح المساعدات مدين بفضيلة المشاركة التي تميزت بها الحياة الهندية التي كانت تحض على العطاء (و هنا أيضا أرى مبالغة في التشبيه بين فضيلة أخلاقية هندية أصيلة قد تنزع كل ما يملكه المرء لأجل الآخرين بوسيلة أمريكية حديثة خاضعة لحسابات المنفعة و كثيرا ما استخدمت لإخضاع الآخرين و سلبهم أكثر من إعطائهم مما يسبغ عليها الطابع المادي أكثر من الأخلاقي الذي إن وجد فهو في الداخل الأمريكي و ليس مع الخارج)، و يعزو أحدهم الاهتمام الأمريكي بالسلام (على الطريقة الأمريكية طبعا كما تعلمنا من المسألة الفلسطينية ) إلى فضيلة هندية كانت تفضل إحلال السلام على شن الحروب، و بالطبع فإن كل الفضائل السابقة كانت جزءا أصيلا من حياة الهندي و قد يضحي بالمادة لأجلها و لكنها في الحياة الأمريكية خاضعة لحسابات المنفعة، و إن كان هدف الاستشهاد هو الأهمية الإعلامية التي تصاحب الدعاية لها خارجيا و مكانتها في الحياة اليومية الداخلية التي لا يحس بها المواطن العالمي في الخارج، و من هذه الفضائل الهندية أيضا استيعاب الأغراب ضمن القبيلة و التي يرى المؤرخون أن استيعاب المهاجرين إلى القارة الأمريكية هو ترجمتها المعاصرة، و كذلك الاهتمام واسع النطاق بالبيئة و الحياة البرية و الذي يلتقي مع نظرة السكان الأصليين باحترام و تبجيل بل تقديس إلى الطبيعة و ضرورة التوازن مع عناصرها و عدم الإضرار بها[22]، و هو أمر إن اكتسب شعبية فإنه مازال بعيدا عن الجداول السياسية و اهتمامها بتحقيق السبق الاقتصادي و السياسي على بقية الأمم، و جل ما كسبته هذه الحركة هو نقل عناصر الخلل و التلوث البيئي من البيئة الأمريكية إلى دول العالم الثالث حيث تجد الشركات الكبرى راحة في فرض شروطها المخلة بالطبيعة على تلك البيئات الفقيرة الباحثة عن كسب لقمة العيش، و مما اكتسبه الأمريكي من الهندي كذلك و نسخه في مجتمعه الاهتمام بالحركة الكشفية التي تعود بجذورها إلى مهارات الكشافة الهنود في التخفي و اقتفاء الأثر و الحياة في البرية[23]، و الخلاصة من هذا البند أن المجتمع الأمريكي و ملحقه الكندي اكتسبا كثيرا من أخلاق السكان الأصليين و لكن بعد تحويرها بالطبع لما يلائم مجتمعا علمانيا ماديا و لهذا اختلفت الصورة عن الأصل كثيرا.

9- القتال في حروب الرجل الأبيض:قاتل السكان الأصليون إلى جانب الرجل الأبيض في جميع حروبه، سواء التي شنها ضد القبائل الهندية التي كان منافسوها من القبائل الأخرى ينضمون إلى جانب البيض، أو التي شنها البيض ضد بعضهم و كانوا يستعينون بالهنود في الجانبين مثل الحروب الاستعمارية بين الإنجليز و الفرنسيين و معارك الثورة الأمريكية ثم معارك الحرب الأهلية، ثم حارب الهنود إلى جانب الأمريكيين في حروبهم الدولية و منها الحربين الكبريين و قد وصلت نسبة ضحايا الهنود في الحرب الثانية 10% مقابل 3% لبقية الجيش[24].

و يجب الالتفات إلى ملاحظتين في هذا الموضوع: الأولى أنه لم يكن جميع الهنود إلى جانب البيض في حروبهم و لا حتى أغلبهم، فقد ظل صراع الوجود يفصل المجتمعين و يذكر الضعيف بتهديد وجوده باستمرار، و عندما كانت الأغلبية تقاتل إلى جانب أحد الفرقاء من البيض فإن ذلك يكون مبنيا على تشخيص وضعه بأنه أقل خطرا من غريمه على مجموع الهنود، مثل القتال إلى جانب الفرنسيين الذين لا يشكلون خطرا استيطانيا على أراضي الهنود ضد الإنجليز الأعلى خطرا، ثم القتال إلى جانب الإنجليز ضد المستوطنين الأمريكيين، و الملاحظة الثانية أن من انضم من الهنود إلى الرجل الأبيض لم يكن مصيره عند الطرف المنتصر أفضل من الهندي الذي قاتل البيض و عاداهم، و ذلك مثل كثير من القبائل التي وضعت معاداتها مع أبناء جلدتها قبل قضية أرضها المهددة و مع ذلك اكتسحها الطوفان الأبيض كغريماتها، و ذلك لأن هذا المصير اعتمد على البرامج السياسية التي تبنتها الأطراف الأوروبية ثم الأمريكية و لم يكن لها علاقة بدرجة ولاء الهندي أو عدائه بل بالمصالح السياسية و الرغبة في الاستحواذ على الأرض و ثرواتها، و لهذا تخلت فرنسا عن السكان الأصليين بعدما قاتلوا إلى جانبها في حرب السنوات السبع (1756-1763)، ثم تخلى الإنجليز عنهم أيضا بعد انتصار الثورة الأمريكية، و لهذا أيضا لم تمنح المواطنة الأمريكية للهنود رغم خدمات كثير منهم إلا بعد زوال خطرهم و الاستحواذ على أراضيهم، و كان ذلك في سنة 1924، و في جميع الأحوال كان الهندي المهزوم يعاني أكثر من حليفه الأبيض المهزوم، أما المقاتل على الجانب المنتصر فلم يحصد إلا الخيبة و الخسران تماما كما خسر زميله الهندي المهزوم، و هذا ما حصل مع حلفاء الأمريكيين أثناء الثورة على بريطانيا، و ما حدث لحلفاء الشمال في الحرب الأهلية، و كل هذا يذكرنا بتجارب عربية و إسلامية حديثة مرت بنفس التسلسل سآتي على ذكرها في الاستنتاج.

10-الموارد الطبيعية:في عصر التوسع القاري الأمريكي انتهكت كثير من المعاهدات و قامت كثير من الحروب لأجل الحصول على الموارد الطبيعية كالذهب و الفضة و الفراء، و حين خصصت الحكومة الأمريكية أراض قاحلة لمحميات توطين القبائل الهندية بعد هزيمتها أمام الطوفان الأمريكي في القرن التاسع عشر، لم تكن تعلم أنها تحتوي على ثروات طبيعية ثمينة، و يأتي حاليا عشر الفحم الأمريكي و سدس الغاز الطبيعي و كميات كبيرة من النفط و نصف اليورانيوم من أراضي السكان الأصليين الذين لا توجد هذه الموارد إلا في أراضي ثلث عددهم، و تتعرض هذه الأراضي لما وصفه أحد المؤرخين بالغزو الذي تقوده الرأسمالية الأمريكية على الموارد الطبيعية للقبائل التي تخوض صراعا لحماية ممتلكاتها و حقوقها في وجه الخداع و الجشع و العنف الذي يمارسه الباحثون عن الثروات من الشركات و الأفراد، و يلخص أحد القرويين الهنود موقفه الرافض لاستغلال موارد القبيلة بقوله:"لا تحدثني عن أزمة الطاقة، فأنا أعيش في قرية ليس فيها حتى الكهرباء"[25].

●ما أعطاه الرجل الأبيض للسكان الأصليين:

1- الأمراض: أبرز ما منحه الوافدون الجدد لسكان القارة الجديدة هو أمراض العالم القديم التي فشت بين السكان الهنود كانتشار النار في الهشيم، فقد قامت أمراض الجدري و الحصبة و الطاعون و الكوليرا و التفوئيد و الدفتيريا و الحمى القرمزية و السعال الديكي و الالتهاب الرئوي و الانفلونزا و الأمراض الجنسية و غيرها بحصد قبائل كاملة في بداية الاستيطان الأوروبي، و ظلت نسبة الدمار الذي تحدثه هذه الأمراض تتراوح بين 55% و 90% بين الهنود حتى بعد اكتسابهم قدرا من المناعة في مطلع القرن العشرين في الوقت الذي كان أثرها على الوافدين الأوروبيين يقدر بنحو 15% فقط، و يقدر عدد الأوبئة الكبرى التي اجتاحت السكان الأصليين بثلاثة و تسعين وباء، كما تقدر نسبة اجتياح الجدري بمرة كل سبع سنوات تقريبا، و قد قضت الأمراض على أربعة أخماس السكان الأصليين في منطقة نيو إنجلاند حيث بدأ الاستيطان في القرن السابع عشر، و كان أثرها أكثر فتكا بالهنود من أسلحة الرجل الأبيض[26].

و ربما يظن المرء للوهلة الأولى أن هذا الانتشار كارثة عرضية لم يكن للمهاجرين نية و لا يد فيها، و لكن هذا الاعتقاد يتبدد بقيامهم بكثير من الممارسات القمعية الرسمية التي كانت تساعد على إنهاك الهنود بالأمراض و نشرها بينهم ضمن وسائل الحرب عليهم للحصول على أراضيهم كالترحيل القسري و الحشر في محميات قاحلة و التجويع بالقضاء على مصادر الرزق و وسائل العيش (إبادة الجاموس أوضح مثال) و ما يتبع ذلك من إهمال سياسي يؤدي إلى تأخير المساعدات الغذائية عن القبائل مما كان يقود إلى اندلاع العنف قهرا، بل سجل التاريخ نشر الأمراض عمدا عن طريق توزيع البطانيات الملوثة في بعض الحوادث الموثقة، و تشير الأبحاث الحديثة إلى أثر الممارسات الاستعمارية الإنجليزية في الجنوب الأمريكي على انتشار الأمراض بين السكان الأصليين فيه، فقد أدى استرقاق الهنود و تجارة الرقيق و ما صاحبها من نقل أعداد كبرى من السكان الأصليين للمتاجرة بهم و العنف الذي رافق ذلك إلى أن تتمكن جراثيم الأمراض الفتاكة من "الوصول إلى أقصى درجات إمكاناتها القاتلة" التي لم تكن لتصل إلى هذه النتائج الكارثية في الجنوب الأمريكي لولا تجارة الرقيق التي جعلت أحد المؤرخين يؤكد أن تبعات الاستعمار الإنجليزي المأساوية فاقت تبعات الغزو الإسباني الدموي لتلك المنطقة[27]، بل أن انتشار الأمراض الوبائية لم يكن عملية نتجت تلقائيا بمجرد وصول الرجل الأبيض و التقائه بالسكان الأصليين، إذ تدخلت العوامل البشرية كأساليب الاستيطان و النشاطات الاقتصادية التي تحكمت في درجة حدوث اللقاءات بين أفراد العالميْن، في جعل الجراثيم تقوم بتأثيراتها القاتلة[28]، و أن هذه الآثار الفتاكة حدثت بعد انتشار النفوذ الأوروبي و ليس قبله[29]، و لا ننسى هنا ما سببته سياسة استرقاق الأفارقة من نشر أمراض وبائية جلبها تجار النخاسة من إفريقيا كالملاريا و الحمى الصفراء، كما أدى الاحتكاك بين الأوروبيين و السكان الأصليين إلى اكتساب الهنود عادات مرذولة جلبت الأمراض الفتاكة معها كإدمان الكحول كما سيأتي الحديث عن نتائجه القاتلة، و التفسخ الجنسي، و كان الأثر الأمضى لأمراضه العديدة هو إضعاف الخصوبة لدى السكان الأصليين.

و بكل هذا لم يكن من الغريب أن أوائل طلائع المهاجرين الأوروبيين عدوا أن الأوبئة التي سبقت وصولهم إنما هي نعمة من الله أيد بها شعبه المختار و أخلى له الأرض من أعدائه ثم حسم الخلاف حولها بمزيد من الأمراض التي لم تبق منهم أحدا، و سرهم كثيرا منذ البداية مشهد الأكواخ المليئة بالجثث، و عزوا هذا التدبير إلى المسيح الذي يرعى كنيسته[30]، و في الوقت الذي سبقت رذائل البيض وصولهم إلى القارة الجديدة فإن مزايا حضارتهم كالتطعيم ضد الأمراض كانت تصل الهندي متأخرة جدا عن ظهورها لدى مخترعيها بسبب عدم اكتراث الساسة الأمريكيين به[31]، و لم تفده كما أفادت غريمه، و وصله التطعيم بعدما أخذ الموت مأخذه منه و وصلت أعداد الهنود حافة الانقراض.

2- الخمر: رغم أن المسكرات كانت معروفة في القارتين الأمريكيتين قبل وصول كولمبس، فإن تأثير الخمور التي أدخلها المهاجرون الأوروبيون إلى العالم الجديد كان قاتلا بشكل يقرنه المؤرخون بالأمراض الفتاكة و حروب الإبادة و التهجير و تدمير مصادر الرزق الذي أدى للمجاعات و سوء التغذية، و كان الشراب يحول الشاب العاقل داخل القبيلة إلى شيطان قابل لارتكاب أفظع الموبقات، و قد استغل الرجل الأبيض نهم الهندي للمسكرات فاستخدمها وسيلة للغش التجاري إذ كان التجار يعلمون أن السكران أكثر قابلية للاستغلال فيقومون بتقديم الخمر لزبائنهم الهنود قبل عملية الشراء و من ثم  يستولون على فرائهم و يهربون، كما كانت الخمور من وسائل الغش السياسي و كثيرا ما عقدت معاهدات التخلي عن الأرض تحت تأثير السكر، و قد أدت هذه الممارسات إلى العنف الذي يتولد نتيجة شعور الهنود بالغبن و الخداع، كما أدت الخمور، المغشوشة في كثير من الأحيان، إلى تدمير مجتمعات هندية بأكملها نتيجة ترك المزارعين بيوتهم و حقولهم و الدخول في أعماق البرية للحصول على المسكرات من التجار، كما كان الصيادون يبالغون في صيد الطرائد لدفع ثمن المشروبات بما أخل بالتوازن البيئي و أدى لاختفاء أعداد كبيرة من الحيوانات كانت مصدر رزق لهذه المجتمعات فيما سبق، و كثيرا ما ارتكبت الموبقات كدفع النساء إلى الرذيلة، و سرقة الجياد و الماشية، و تحدي سلطة الزعماء و تجاهل جميع التعاليم الأخلاقية، بل و إلى شن الحروب للحصول على الأسرى و دفعهم إلى تجار الرقيق، و يقول أحد المؤرخين البارزين إن التجار جلبوا بكحولهم الموت و التمزق للمجتمعات الهندية، و نقل عن أحد معاصري الأحداث من زعماء القبائل الهندية في الجنوب الأمريكي قوله إنه فقد أكثر من ألف شخص ماتوا بسبب الإفراط في الشراب في غضون سنة و نصف فقط، و شهد مبعوث بريطاني إلى أرض الهنود سنة 1777 أنه لم يشاهد في القرى إلا شرب الخمر و نساء يبكون أمواتا من شرب الخمر[32].

و كان أثر هذه المسكرات واضحا منذ البداية للمسئولين الاستعماريين الأوروبيين و جرت محاولات منع بيعها للهنود ليس حرصا عليهم بل لما سببته عمليات الغش التجاري و السياسي من ردود أفعال عنيفة من جانبهم، و لكن المصالح المادية السريعة و السهلة التي كانت تنتج من عمليات البيع كانت تغري حتى التجار "المحترمين" على معارضة إجراءات الحظر، و رغم تعهدات الحكومة الأمريكية بعد انتصار الثورة بحماية الهنود من الممارسات المسيئة في كلامها المنمق، فإن "الحقائق كذبت الانطباع الظاهري" في قول أحد المؤرخين الذي يصف حال من كان يحاول من المسئولين في التخوم فرض القانون بأنه سينتهي للوقوع تحت المساءلة في المحاكم بتهم التعدي أو الاعتقال غير القانونيين، و رغم أن الخمر كانت من أكبر مصادر الصعوبات في التجارة مع السكان الأصليين، و كان المسئولون الأمريكيون على وعي تام بمضارها، فإنه لم تتخذ الإجراءات الكافية لمنع بيعها للهنود، و السبب في ذلك كما يعزوه أحد المؤرخين ليس إلى سوء النوايا و تعمد الإساءة أو عدم الاكتراث بالهنود و لكن مرة أخرى إلى المصالح الاقتصادية و النظام الفدرالي الأمريكي الذي كان يوزع السلطات بين الحكومة الاتحادية و حكومات الولايات[33]، و لكن هذه الحجج ترتد على قائلها لأنه ليس هناك إساءة في الحياة البشرية تنبع من تعمد الأذى إلا عند أصحاب الحالات المرضية أما الأذى في الحياة اليومية فنابع من الحرص على المصالح الذاتية دون مصالح الآخرين، و لماذا لم يؤد النظام الفدرالي مثلا إلى سلبيات في حياة الأمريكيين بحجم ما اقترفه من جرائم ضد السكان الأصليين؟

لقد عبرت القضية عن أزمة حضارية أكثر من تعبيرها عن أزمة سياسية أو اقتصادية لحكومة عاجزة، فطوفان الخمور الذي اكتسح الهنود رغم قوانين الحظر الشامل التي لاقت نجاحا محدودا، و العقوبات المشددة التي برع التجار في التحايل عليها يؤكد عموم الانحراف و ليس شذوذه[34]، بل إن التاجر الأمين كان يجد نفسه خاسرا في تجارته لو التزم القانون[35] فيضطر لبيع الخمر ليحصل على ماله كما يربح التاجر الغشاش[36]، و قد وصف أحد المؤرخين هذه الأزمة العامة بالقول إن كبح جماح التجار الغشاشين كان صعبا كوقف تيار الاستيطان و التمدد في أرض الهنود[37]، و هذا لم يمنع من وجود استثناءات أثبتت أن توفر النزاهة كان كفيلا بالقضاء على الفساد[38]، و لكن هذا كان الاستثناء و ليس القاعدة في حضارة نفعية غلبت فيها التأثيرات الاجتماعية السلبية التي تركت أثرها على المجتمعات الهندية الأصلية من القرب من المستوطنات البيضاء و الاحتكاك بعموم سكانها مما وسع الأزمة و جعلها أكثر من مجرد طمع تاجر شره هنا أو هناك، و قد اعترف المجتمع الأمريكي و قيادته بذلك حتى أصبح إبعاد الهنود عن الاحتكاك بمجمل الأمريكيين حجة "إنسانية" شائعة و مقبولة لعملية طرد القبائل من أراضيهم وسط التجمعات السكانية البيضاء والاستيلاء على ممتلكاتهم و إبعادهم إلى البرية المعزولة في الغرب، و ذلك لأجل "سعادتهم"و"رفاهيتهم" بالتخلص من الضغط و الإغواء و غيرهما من المساوئ المترتبة على وجودهم وسط المجتمع الأمريكي[39]، و لكن عندما حصر السكان الأصليون في المحميات كما سيأتي أصبحت الخمر هي وسيلة التنفيس عن الحياة البائسة التي يعيشها السكان الأصليون فيها[40]، أي أن حضارة الرجل الأبيض أدخلت الهندي في حلقة مفرغة من البؤس بدل استيعاب أعداده القليلة.

و مما يؤكد هذه الأزمة الحضارية في التعامل مع الآخر و التي جعلت القمع مبررا لقمع آخر، و البؤس تنفيسا عن بؤس آخر، أنه عندما منح الهندي المواطنة الكاملة التي تقتضي المساواة العامة ببقية أفراد المجتمع الأمريكي أصبح منعه من المسكرات متناف مع المساواة[41] (!) فأصبح بإمكانه الحصول عليها "قانونيا" منذ سنة 1953 [42]، و بهذا استمرت المأساة من المساواة و أصبحت الخمر اليوم من الأسباب الرئيسة و"المشروعة" لارتفاع معدلات الوفاة بين السكان الأصليين لما تسببه من انتحار و حوادث طرق و أمراض السكر و التليف الكبدي، و من المفارقات أن الخمر تحدث اليوم أضرارا بالهنود تزيد عن أضرار حروبهم مع الأمريكيين في الماضي[43]، و هي معدلات لا تحقق المساواة بمعدلات بقية المجتمع الأمريكي، و ذلك على عكس ما قصد منها.

3- الحصان: كان الحصان يعيش في القارة الأمريكية منذ زمن بعيد و انقرض لمدة طويلة لأنه كان غير مدجن و يصطاد للغذاء، فلما وصل الإسبان إلى أمريكا أتوا بالجياد التي ساحت في سهولها و تعرفت القبائل على ترويضها فشاع استعمالها مع نهاية القرن السابع عشر و بعد قرن كانت صورة الهندي راكب الحصان كما عرفها العالم بعد ذلك قد اكتملت، و بهذا فإن الهندي الفارس حامل البندقية في الحرب و الصيد ليست صورة موغلة في القدم كما يظن البعض، إذ أنها نشأت مع نشوء مجتمعات هندية جديدة في سهول أمريكا، و صنع الحصان بذلك ثورة في حياة الهنود، إذ استعملوه بدلا من الكلب للحمل و النقل فثقلت حاجياتهم و طالت خيامهم و اتسعت مجالاتهم و بعدت مسافاتهم و قل استقرارهم و أصبحوا أكثر تنقلا و أصبح امتلاك الجياد دليلا على المكانة الاجتماعية بين أفراد القبيلة، و تنافس الفرسان في إظهار مهاراتهم الفروسية في الحرب و الصيد اللذين انقلبت طرقهما و تغيرت تغيرا جذريا عما سبق و أصبح اصطياد العدو و الطرائد أكثر سهولة من استعمال الأقدام، و يصف أحد المؤرخين الأثر الذي تركه الحصان في المجتمعات الهندية بأنها أعمق من الأثر الذي صنعته السيارة في المجتمعات الحديثة[44].

و سواء كان إدخال الحصان إلى حياة السكان الأصليين عمدا أم صدفة، فإن الرجل الأبيض محا الأثر الإيجابي الذي تركه هذا الإسهام منه في حياة الهندي، و عندما اقتربت جحافل مستوطناته و جيوشه دمرت المجتمعات الهندية التي استفادت فيما سبق من الجواد و من البندقية و من كثير من البضائع الأوروبية ثم الأمريكية التي صنعت انقلابات في حياتها، و في هذا درس عن حصول الاستفادة من الغرب عن بعد و التي يدمرها الاقتراب أكثر من اللازم.

4- البندقية : صنع وصول البندقية إلى يد الهندي تغيرات كثيرة في حياته، و قد وصلته عن طريق التجارة لأجل تسهيل حصوله على الفراء الذي يبيعه للتجار البيض، و كانت أيضا جزءا من المساعدات التي تقدم للقبائل مقابل تخليها عن أجزاء من أراضيها و قبولها مسالمة الحكومة و المستوطنين لمساعدتها على الصيد و إطعام أنفسها قبل انقراض الطرائد و لكن الهنود استخدموها في معاركهم و برعوا في استخدامها و مع ذلك ظل هناك عيب قاتل في هذه العملية و هو أن الهندي لم يكن قادرا على صناعة البندقية أو إصلاحها أو صناعة الرصاص و البارود و هو ما جعله دائما أسير احتكار الرجل الأبيض للتقنية و من ثم جعله معتمدا عليه و في حاجة لاستمرار العلاقة معه و جعل مقاومته غير قادرة على الاستمرار و النمو لأن سلاحه ليس من صنعه، و بهذا أصبح مصير الصراع محكوما بالتقدم التقني الذي لم تكن حتى الوحدة الهندية قادرة على صده[45].

5- تشجيع المساوئ و محاربة المزايا الهندية: أدى الاحتكاك بالرجل الأبيض إلى نمو مساوئ عديدة عرفتها المجتمعات الهندية، فقد شجع الفرقة و الانقسام بين القبائل و إثارة الحروب التي أخذت أبعادا جديدة[46] مدمرة بينها بعدما كان القتال بين قبيلتين قد يستغرق سبع سنوات لا يقتل فيها سبعة رجال[47]، و ذلك ما دفع أحد مقاتلي المستوطنين إلى أن يصف مشهد الحروب بين الهنود بأنه تسلية أكثر منه فتح أو إخضاع، و داخل القبيلة الواحدة شجع الرجل الأبيض المنافسة بين الأحزاب و الزعماء على عادة كل المستعمرين في اتباع القاعدة المعروفة: فرق تسد، و وجدناه أيضا يشجع عادات همجية كسلخ فروة الرأس التي كان الأوروبيون و الأمريكيون يدفعون لمن يأتي بها من أجساد أعدائهم مبالغ طائلة وصلت أحيانا إلى مقدار الدخل السنوي للفرد من الطبقة المتعلمة[48]، و تشير المصادر إلى أن عادة سلخ الرؤوس لم تكن منتشرة بين القبائل الهندية حتى قام الرجل الأبيض بتشجيعها و نشرها[49] بواسطة المكافآت المجزية إمعانا منه في العمل على القضاء على أعدائه الهنود، و في ذلك يقول المؤرخ دي براون:"قد يكون الأوروبيون قد جلبوا عادة فروة الرأس هذه إلى العالم الجديد أو لم يفعلوا ذلك، و لكن المستوطنين الإسبان و الفرنسيين و الهولنديين و الإنكليز جعلوا هذه العادة شعبية عن طريق عرض مكافآت لفروات رءوس أعدائهم"[50].

و من العادات المرذولة التي نشرها تشجيع الرجل الأبيض أسر الأفراد و استرقاقهم لاسيما في الجنوب الأمريكي حيث لعب البيض على وتر الخلافات الهندية و شجعوا الهنود على شن الغارات على بعضهم البعض-حتى لو كان الضحايا حلفاء لهم-لجلب العمالة للمستعمرين و اتخذت هذه الممارسة أبعادا تجارية و أدت إلى دمار مجتمعات عديدة في تلك المنطقة وقعت ضحية هذه الممارسة و ما نتج عنها من تبعات كانتشار الأمراض الفتاكة[51]، و مرة أخرى، و في غير مجال الخمر تقف السلطة عاجزة عن كبح انتهاكات مواطنيها ضد السكان الأصليين حتى فيما تحرمه بنفسها[52]، و هو عجز لازم السياسة العامة التي اتبعتها الحكومات البيضاء تجاه جميع انتهاكات الحقوق التي تعرض لها السكان الأصليون لا سيما من قبل المستوطنين الذين كانوا كثيرا ما يعتدون على أراضي الهنود و يخدعونهم و مع ذلك تقف السلطة عاجزة عن اتخاذ خطوة رادعة بل نجد رجالها ممن يشاركون في الانتفاع الشخصي بهذه الانتهاكات[53]، و هذا كله يشير بعلامة استفهام إلى حقيقة المهمة الحضارية التي نذر الرجل الأبيض نفسه لها و مع ذلك قام بتشجيع الهمجية و نشرها بين تلاميذه "البدائيين" و قصر في الدفاع عن حقوقهم التي ادعى الوصاية عليها.

و لم يقتصر الأمر على نشر الرذائل الهندية بل لقد أدى الاحتكاك بالمجتمعات البيضاء إلى تفسخ الهنود باكتسابهم العادات الرديئة الخاصة بالبيض مما أدى إلى فقدانهم محاسنهم الذاتية التي كانت لهم في الماضي، و يكتب أحد المؤرخين قائلا:"و كان مما أخذه الهنود عن البيض قلة الشرف، و فنون الكذب، فكان تفكيرهم و قانون أخلاقهم، و ثقافتهم تنتهي إلى الاندثار فالانحطاط والاضمحلال، و يكتب بيتر لي قائلا: ما كان حسنا عندهم كان يتعرض للخنق"[54].

6- التجارة و المساعدات و العلاقات الاقتصادية:عندما التقت الأمتان وجد الأوروبي ثم الأمريكي عند الهندي الفراء و الجلود الثمينة و وجد الهندي عند الرجل الأبيض بضائع مصنعة كالملابس و السكاكين و المرايا و البلطات و الدبابيس و الخرز، و أهم من ذلك البندقية و الأهم منها الخمور، و كانت توهب له في البداية مجانا و علامة على "الصداقة"فلما يعتاد على استعمالها و تصبح ضرورية لحياته ينقطع الإمداد فيضطر إلى شرائها بالثمن الذي يحدده التاجر من الفراء و الجلود[55] بل و من الأسرى للاسترقاق[56]، و قد استنفد الصيد المكثف موارد الأرض الحيوانية شيئا فشيئا و كان يدفع الهنود دائما نحو الغرب للحصول على مزيد من الطرائد فيصطدمون بقبائل جديدة و تنشب الحروب بينهم، و كان التاجر الأبيض يهتم بجعل زبونه الهندي في حالة ديْن مستمرة[57]، و كان الهندي يتمكن من دفع ديونه في البداية ثم ينغمس في شراء الخمر فيصبح عاجزا عن الدفع[58] و كثيرا ما أدت الديون إلى سداد أثمانها من أراضي الهنود[59] و شنت الحروب لتأمين أسرى لدفعهم لتجار الخمور و الرقيق ثمنا لتلك الديون[60]، و قد كان التنافس بين أمم أوروبا على التجارة الهندية المربحة من مسببات كثير من المنافسات و الحروب التي نشأت بينها على القارة الأمريكية لاسيما بين فرنسا و بريطانيا، و ملخص الأمر أن التجارة كان لها عواقب وخيمة على مجتمعات السكان الأصليين في أمريكا: فقد رفعت درجة الاعتماد على الرجل الأبيض، و حفزت على العنف، و نشرت الأمراض التي حفزها الاسترقاق كما مر[61]، و قد قدر أحد المؤرخين أبعاد ذلك بقوله إنه باعتياد الهنود على استعمال الأدوات المتطورة التي جاء بها الأوروبيون لم يعد لمهاراتهم البدائية مكان، و بعد فترة قصيرة لم يكن أمامهم مفر من التبادل التجاري بشروط ازدادت إجحافا مع الزمن، فخسروا سيادتهم الاقتصادية و جلب ذلك بداية انحسار السيادة السياسية و كل ما ميز حضارتهم[62].

و رغم بعد المسافة فقد تشابهت كثيرا تبعات التجارة و ديونها في الشرق و الغرب إلى حد بعيد، إذ أن كل تلك الأحداث تذكرنا بغزو التغريب الذي أتى بالسلع المصنعة إلى ديار العرب و المسلمين في الشرق و ما تبعها من دوامات الديون ثم سيطرة أجنبية ثم احتلالات عسكرية و حروب المنافسة الاستعمارية، و قد ثقلت وطأة هذه الديون على بلادنا في الزمن المعاصر حتى رفع الأخ سلاحه و قتل أخاه سدادا لديون الأجنبي (1991)، تماما كما حدث مع الهنود في الغرب، و كما كان المستعمرون يدخلون بضائعهم إلى بلادنا تحت ستار حرية التجارة ثم يسعون لاحتكار أسواقنا، كذلك كانوا يفعلون مع زبائنهم الهنود[63].

7- المسيحية و الحضارة و التعليم:لما كانت الأرض هي محور الصراع بين السكان الأصليين و المهاجرين الوافدين، فإن تحسين أوضاع الأهالي الهنود لم يكن ضمن جدول المستعمرين كما لم يكن ضم الهندي إلى مجتمع الرجل الأبيض ضمن أولويات هذا الأخير[64]، و كان تمثيل السياسة و القانون واضحا في أنه محصور بالمستوطن و المهاجر دون صاحب الأرض الشرعي[65]، و إذا كانت الطبيعة التبشيرية للمسيحية قد فرضت نفسها على المستوطنين، فإنهم قد قاموا بتحويرها بما يناسب تطلعاتهم إذ لم يكن الهدف من التبشير إلا إيجاد عملاء هنود لأهداف المستوطنين[66]، مثل استخدامهم في الحروب كالأدوات[67]، و بشكل عام فإن المستوطنين البيض استخدموا المسيحية وسيلة لضمان خضوع السكان الأصليين و كانوا يرون الهنود المتنصرين أكثر سلمية و أمناً للمشروع الاستيطاني[68]، و لكن كون عداوة الرجل الأبيض موجهة لوجود الهندي و ليس لمجرد ضلاله خفض من عدد المهتدين لأن الهندي لم ير العدالة في رب الرجل الأبيض الذي يخلص المعتدي و يتخلى عن الضحية، و لم يكن للهنود المتنصرين أية حرمة عند إخوانهم البيض، فقد واجهوا القتل و الدمار و التهجير و السلب و الاحتلال مثلما واجه كل ذلك من بقي على دينه من بقية الهنود[69].

أما الحضارة فقد قتل الرجل الأبيض جميع احتمالات نشوئها بين السكان الأصليين، و لعل المثل الأبرز في ذلك هو تحطيم تجربة القبائل الخمسة التي اعترف البيض بأنفسهم بتمدنها و تحضرها بعدما قطعت أشواطاً واسعة في تبني الحضارة الأمريكية وصلت إلى حد تكوين ولاية متكاملة بأجهزتها اللازمة لدخول الاتحاد الأمريكي و لكن الطمع بأراضيها جعل الرجل الأبيض يحطم تجاربها مرتين متتابعتين و ليس مرة واحدة فقط و ذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر ثم في بداية القرن العشرين، و قذف بأفرادها إلى زوايا البؤس و الفقر و الحرمان و الإدمان و بقية الأمراض العضوية و الاجتماعية إلى يومنا هذا، كما ضيق على من حاول تبني أساليبه من الهنود عموماً و حصرهم في بقاع قاحلة لا يرغب فيها أحد بحجة تعليمهم الاستقرار و الزراعة، و لكنه لم يزودهم بشيء من مستلزمات ذلك، و كان الهندي في مراحل مختلفة يتساءل عن جدوى شروعه في حياة الاستقرار على أرض ستنتزع منه عاجلا أم آجلا بحكم البندقية[70]، ثم جعل الرجل الأبيض الهنود يعيشون عالة على بطاقة التموين التي تصرف لهم مؤنا لا تصلح للاستعمال الآدمي في كثير من الأحيان و بكميات قليلة كثيرا ما كانت تتأخر عن موعدها و تسبب مآس كثيرة، و قد شبهت المحميات بمعسكرات اعتقال حيث الجوع و المرض و البطالة و الغش و الإهمال، و قد وصف مؤرخون عدة الحياة فيها بأنها "محنة"[71] و"حزن لا يمكن وصفه"[72]"في أرض قاحلة"[73]، فأصبح العجب ليس من عدم تحضر الهنود فيها بل من مجرد نجاة جنسهم بعد مروره بهذه المحن التي لم يكن نفس الرجل الأبيض ليتحملها[74].

و أما التعليم الذي حاولت الولايات المتحدة فرضه على أبناء السكان الأصليين فقد كان شعاره "قتل الهندي و إنقاذ الإنسان" أي تخليص الهندي من كل ما له علاقة بهويته و جعله إنسانا آخر، و هو ما وصفه أحد المؤرخين بالتعليم من أجل الانقراض[75]، و جسدت هذه الفلسفة المدارس الداخلية التي أرسل إليها أبناء الهنود و وصف بعض المؤرخين الأعمال الوحشية التي كانت تمارس فيها ضد الصغار بأنها إبادة جماعية راح ضحيتها نصف التلاميذ[76]، أما الذين ظلوا أحياء فخرجوا منها بجروح نفسية عميقة شوهت حياتهم من جراء التعرض للإهانات النفسية و الجسدية و ذلك لأن سياسة الانقراض التي اتبعت في هذه المدارس جعلت من الإهانة المستمرة سياسة متبعة تهدف إلى الحط من شأن الهندي و في نفس الوقت لم تؤد إلى بناء مقابل مثل كل السياسات الحكومية في ذلك الوقت و التي أفقدت الهندي ما في يده و لم تعوضه ببديل عنه.

و سجل التاريخ أن كثيرا من الهنود رغبوا أن يعيشوا حياة الرجل الأبيض لاسيما بعدما دمرت موارد رزقهم و وسائل عيشهم، و حتى أكثر زعماء المقاومة تطرفا لم يمانعوا في الحصول على مستوى معيشة البيض بالعمل مثلهم، كما أن جميع الهنود بعد هزيمة المقاومة المسلحة أجبروا على هذا الخيار، و كان العقلاء منهم يوصون أتباعهم باتباع محاسن الرجل الأبيض و ترك مساوئه مع التمسك بحكمة الأسلاف التي عاشت و صمدت دهورا[77]، و لكن مشروع التحضر عن طريق المحميات فشل فشلا ذريعا حتى باتباع "سياسة السلام" التي طبقها"أصدقاء الهنود" و التي أصرت على تجريده من هويته و أملاكه و قذفه في مجتمع تنافسي لا يعرف و لا يعترف بشيء من القيم التي نشأ الهندي عليها و تناقض الفردية الرأسمالية[78]، و كان من المتوقع أن تتم هذه التغيرات الفجائية في لمح البصر، مما أدى لفشلها و ترك السكان الأصليين ضحايا تقلب السياسات التي تستهدف "صالحهم"، دائما، و لكن النتيجة الأوضح أنه في كل مرة كان الهندي يخسر فيها شيئا من موارده ضمن برامج تمدينه كان هناك من يربحها على الجانب الأمريكي، فالأرض ربحها المستوطنون، و الأموال التي خصصتها الحكومة لدعم برامج التحضير تقاسمها الفاسدون من أركان"الحلقة الهندية" و هم التجار و السياسيون و الموظفون الحكوميون المتولون أمر الهنود في المحميات، و الذين انقضوا على المال المخصص لتهيئة الهندي لحياة التمدن و راكموا ثروات ضخمة منه على حساب قوته، كما أن قطعان الجاموس التي أبيدت لإجبار الهنود على الاستسلام للحضارة ذهب فراؤها إلى أسواق أوروبا و أمريكا و ربح الصيادون و التجار و الشركات من ذلك مبالغ طائلة، و ذهب الذهب الذي انتهكت المعاهدات بعد اكتشافه في أراض الهنود المضمونة لهم إلى خزائن الرجل الأبيض الذي كان يبشر نفسه بحل أزماته الاقتصادية.

و خلاصة الأمر أن "الأوروبيين لم يجدوا صعوبة في إقناع أنفسهم بأنهم قدموا تعويضا مجزيا للهنود بمنحهم المسيحية و الحضارة"[79] بدلا من سيادتهم و ممتلكاتهم (!)، و نظراً لمجموع الخسائر الهندية من عملية الاحتكاك بالبيض، يمكن الاستنتاج أن محاولة نفي الإبادة بحصر الأضرار في إصابات الحروب التي ربما لم تتجاوز مقتل 6 آلاف من الهنود على أيدي الأمريكيين و هو رقم ضئيل مقارنة بأقل عدد لمجموع الهنود العام في أي وقت، ليست سوى محاولة لتبرئة الذات الأوروبية من الجريمة الكبرى التي يمكن رصدها بمجرد النظر و هي تدمير المجتمعات الأصلية و محوها من الوجود نتيجة عوامل عديدة لم تكن الحرب سوى واحدة منها حتى لو سلمنا بالرقم الضئيل المذكور و هو ليس واقعياً، و كل تلك العوامل كانت نتيجة التدخل البشري و هي: الأمراض و ما يتبعها كالإدمان على الكحول، و الترحيل، و تدمير وسائل المعيشة، و الحرب و المجازر، و قد وجدنا أن بعض هذه الأسباب القاتلة كانت أكثر تدميراً من الحروب كالحياة في المحميات و المدارس و الإدمان على الكحول، بالإضافة إلى الأوبئة التي ساهمت العوامل البشرية مساهمات حاسمة في نشرها، و من هنا يبدو من السذاجة حصر الخسائر الهندية بمجرد إصابات الحروب للوصول في النهاية إلى نتيجة مضحكة و هي أن الإبادة لم تقع[80].

●استمرار الاستغلال و الشعور الزائف بالذنب:

المتأمل في مشهد المجتمع الأمريكي المعاصر تلفت نظره ملاحظة جديرة بالاهتمام، فعلى الرغم من الدعاية الضخمة التي تصاحب عملية استقبال عشرات الآلاف من المهاجرين الباحثين عن السعادة من جميع أقطار العالم سنويا و القادمين ليندمجوا في "بوتقة الصهر" التي تتقبل الجميع نظريا، يظل صاحب الأرض الشرعي ، و هو المواطن الهندي الأصلي، خارج هذه الجنة الموعودة رغم قلة عدد السكان الأصليين مقارنة بمجموع سكان الولايات المتحدة (1.5% فقط وفقا لتقديرات موسعة) و بمجموع المهاجرين الذين يفدون برخص رسمية كل عام إلى أرض الميعاد هذه، مما يجعلنا نستنتج أن الاستيعاب داخل الحضارة الغربية التي تمثل الولايات المتحدة قمتها في عالمنا المعاصر، ليس مرتبطا بقدرتها على هذا الاستيعاب أو بإمكاناتها الضخمة التي تستطيع بكل تأكيد أن تشمل العدد الضئيل من سكان أمريكا الأصليين كما تشمل أعدادا ضخمة من غيرهم كالأقلية اليهودية مثلا التي يحسن مقارنة عددها بعدد الهنود و نفوذها بتهميشهم ، و لكن هذا لم يحدث إلى اليوم بعد أكثر من قرن من هزيمة الهندي أمام قوة "الحضارة" الزاحفة و زوال خطره بإغلاق منطقة الحدود بين"المدنية" و"الهمجية" رسميا و مع ذلك مازال المجتمع الأمريكي مصرا على نبذ صاحب الحق رغم أنه لا يشكل عبئا يذكر على إمكانات هذا المجتمع الكبيرة.

و رغم القوانين الكثيرة التي ادعت إلغاء سياسات القهر الماضية و منح السكان الأصليين حق تقرير المصير و الحرية الدينية و تأسيس لجان النظر في الحقوق و المطالبات، و رغم المظاهر الاحتفالية التي يقوم بها الرؤساء الأمريكيون مثل التقاط الصور مع الهنود و استقبال زعمائهم لأول مرة في البيت الأبيض و إطلاق الأمنيات بأن يكون المستقبل أكثر إشراقا من الماضي و التوقيع على إعلان الأمم المتحدة الخاص بحقوق السكان الأصليين، فإن واقع الحال مازال بعيدا عما توحي به هذه المظاهر، و مازال الهنود يعيشون على هامش المجتمع الأمريكي و يعانون من الإهمال الاجتماعي، و من تفاصيل هذا الحال أن مجتمعات السكان الأصليين اليوم تتميز بمعدلاتها العالية من البؤس و الحرمان التي تفوق معدلات المجتمع الأكبر حولهم بكثير، "و لا أحد يستطيع إنكار أن السكان الأصليين مازالوا أكثر الأقليات حرمانا في الولايات المتحدة"، فظروف المعيشة في محمياتهم تشبه ظروف العالم الثالث و تكوّن استثناء وسط مجتمع من العالم الأول يتميز بالوفرة، و تتراوح نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر في هذه المحميات بين 38-63% و تسودها أوضاع صحية فقيرة جدا حيث من الممكن أن يعيش ثلاثة أجيال أو أكثر (قد يصل عدد أفرادها إلى 25) في مكان ضيق (غرفتين مثلا) بلا تبريد أو تدفئة أو مطبخ و أكثر من نصفها بلا صرف صحي، و في بعض المحميات يضطر ساكنوها إلى قطع 30 أو 40 كيلومترا لملء خزان المياه و 150 كيلومترا للوصول إلى مستشفى.

أما عن ظروف العمل فتتراوح البطالة في المحميات بين 50-70% و قد تصل إلى أعلى من 80%، و قد وصلت البطالة في بعض محميات داكوتا-حيث يعشش الفقر-في التسعينيات إلى 93%، في الوقت الذي كان فيه معدل البطالة في أمريكا لا يتجاوز 5%، و لم يكن من العجيب أن تتنافس المحميات في تسجيل أعلى معدلات الفقر حيث سجلت المقاومة الهندية آخر وقفاتها البطولية ضد الغزاة الأمريكيين في القرن التاسع عشر.

و من بين جميع الأعراق في الولايات المتحدة يتربع السكان الأصليون على المركز الأول في كل من: معدل التسرب من المدارس (54%)، و معدل وفيات الأطفال (60%أعلى من معدل السكان البيض)، و معدلات الانتحار (60% أعلى من المعدل العام في أمريكا)، و حمل المراهقات، و انخفاض معدل الأعمار (55 عاما فقط)، و في بعض المحميات تصل نسبة الأسر المبتلاة بمشاكل الخمور إلى 80%.

و من الدلائل الطريفة على الشعور الزائف بالذنب لدى الدولة الأمريكية أن المحميات الهندية معفاة من دفع الضرائب بصفتها موطنا لأصحاب الأرض الشرعيين الذين لا يملكون في الأغلب ما يدفعونه أو يدفعون عنه الضريبة، و الأطرف من ذلك أن الهندي الذي يغادر المحمية يعاد فرض الضريبة عليه إذ يصبح لديه ما يقدمه بعد خروجه من أحزمة الفقر تلك.

قراءة 2155 مرات آخر تعديل على الأحد, 12 تموز/يوليو 2015 15:37

أضف تعليق


كود امني
تحديث