قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الإثنين, 09 أيلول/سبتمبر 2013 07:20

الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي .. رؤية مستقبلية وتقييمية (1/2)

كتبه  الدكتور محمد الأحمري
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 عند الاحتجاج يوجد الشعب:

 الحقيقة السياسية الغائبة في مجتمعات الخضوع هي: أن وجود الشعب إنما يولد بميلاد الاحتجاج، و يوجد فعلا بعد أن يصبح مشاركا في نتائج عمل ما مستمر، و هو ــ غالبا ــ المجتمع الذي تصنعه الثورة بعد انتصارها.

أما ما قبل ذلك فهو كيان عظيم؛ عبارة عن جسم بلا عقل و لا وعي، جسم غامض، و عاجز، و سهل التوجيه  و خطر، و غنيمة باردة عظيمة لمن يسوقه؛ فقبل أن تقول الشعوب: لا و نعم لأي شي، فلا قيمة لها، و لا قيمة لها يوم تساق بالخدعة و النفاق و التزلف و الإرهاب، فهي غائبة في تلك الأحوال، و هي مجرد أعداد لا أهمية لها، فهي بلا حرية و لا مشاركة و لا مبادرة؛ فلا توقف ظالما و لا تنصر مظلوما و لا تكافئ مصلحا و لا تعاقب مفسدا، و هي سلبية بلا طموحات، و لا رغبات عليا، و الخلاصة: إنها موجودة غائبة.

و كان الطغاة و المحتالون يعاملون هذه الشعوب بالخداع، و يستعملون الأذكياء لكتابة الوصفات التي تحافظ عليه بدنا بلا وعي تابعا مخلصا لحاكمه، فكتب الثقافة السلطانية العربية و الإسلامية ثم الميكافيلية غنية بوصفات الإخضاع، و كانوا يرون من يقوم بإرشاد المستبدين لسياستها طبقة خاصة تسهم في السياسة بما يشبه الكهانة.

هذه الجماهير يوم تهب لتتحرر و لتشارك في صناعة حياتها، فإن قلة منها تغير وجه البشرية، كانوا قد قالوا: 99% صوتوا لمبارك ولكن أقل من 1% غيروا مصير 99%، لقد كان الرقم المعلن كاذبا، و هبْه كان صحيحا، و أن 99% صوتوا بنعم و كانوا خائفين؛ فهم أقرب للعدم منهم للوجود.

فالقيمة الصحيحة إنما تكون حيث الاختيار، في تركيا صوت 49% لحزب العدالة و كان يرى ذاك انتصارا عظيما أنه صوّت له أقل من نصف الشعب من الأحرار ذوي القرار، و إن كان أكثر من النصف لم يؤيدوه، و لكن الجميع يخرج واثقا محترما للحزب الفائز بأقل من النصف من الناخبين، و العالم يحترم هذه النتائج الاختيارية و يعظم دورها.

و قد تبين أن جميع الشعب إن قال مستبد إنه معه فقد يكون هذا أكبر دليل على كذب المؤشر، فإجماع المرتشين أو الخائفين من السجن أو السوط أو الموت لا قيمة له فإن تلك الجموع إنما ذهبت للترشيح أجسادا ميتة بلا قناعة، و لذا لا قيمة لأصواتها المقهورة.

* لماذا تحصل الاحتجاجات؟

أحد الكتب التي تتحدث عن قضية خروج الناس للاحتجاج على أنها أمر غير طبيعي و غير مفهوم؛ لأن المظالم قد توجد عنيفة جدا و مع ذلك لا يتحرك هذا الإنسان، و قد تتضح الأسباب و تحصل الظروف و مع ذلك لا يحصل احتجاج، و قد تحدث أسباب بسيطة جدا و تنتج حركات كبيرة بناء على هذه المقدمات اليسيرة.

جاء في مقدمة الكتاب: "لزمن طويل ساور علماء الاحتجاجات الشكوك حول مدى استيعاب عقول الناس للأفكار الجادة، و نظرا لأن المظالم كانت دائما حاضرة لم يستطع العلماء تفسير تصاعد أو تراجع الحركات الاجتماعية"2.

الاحتجاج الشعبي يركب من كلمتين: احتجاج و شعبي، فأما الاحتجاج الفردي هو بضاعة الإنسان المضطهد اليومية، ممن لا يجدون وسيلة لتحقيق ضروراتهم، أو حاجاتهم، أو حتى كماليات حياتهم، و هو تعبير عن حاجة أو سخط أو طلب أو شهوة خاصة، وقد تنتج تحقيق طلب تغيير فردي، و قد ينفع فرديا أحيانا، يصبح ديدنا و لا يتوسع و بهذا يسيء للفرد، و يركز في المجتمع ثقافة البؤس و مزاج الحزن و الاشتكاء و التلاوم الدائم، و لكنه محدود و نتائجه أنانية، و هو صغر في النفس و المجتمع، و يحرص المستبدون على جعل المطالب العامة خاصة و صغيرة و يحرمون الاحتجاج العام دائما؛ لأنه قد ينتج التغيير المطلوب.

لذا، فإن التغيير للأفضل لا يتم إلا في عمل مجتمعي، أي شريحة من المجتمع تنفر للإنقاذ، و الاحتجاج الجزئي لأي قضية خاصة مستمر، و لكن الشعبي عندما يكون أمرا جامعا لقطاع واسع مؤثر يبلغ مداه عندما يغير السلطة و الثقافة و يعيد ترتيب الاقتصاد و علاقات المجتمع من داخله و خارجه.

و قد تكون الاحتجاجات مُعْدِيَة و يُستغرَب أحيانا قوة هذا المزاج الاحتجاجي العام المعدي بين الأمم؛ فهو ــ قديمًا ــ كان يؤثر بكثرة على المناطق المجاورة لمنطقة الاحتجاج بسبب طبيعة الأخبار و التواصل فيما مضى.

أما اليوم فكل العالم متقارب، من أمثلة العدوى الاحتجاجية قديما الثورة الفرنسية؛ فقد أثرت في مناطق كثيرة بأوروبا على الرغم من أن بعضها كان يتمتع بالكثير من الحريات مثل سويسرا، و كانوا يستغربون تأثرها بالثورة الفرنسية برغم توافر الاستقرار و الحريات فيها، قد تنتقل هذه العدوى و هذا المزاج إلى مناطق أخرى.

و قد يكون السبب أو التأثير هو وجود المزاج العام و المؤثر الذي بدايته حقيقية في بلاد معينة، ثم يؤثر باتساع في مناطق أخرى لا تتوافر فيها الظروف نفسها التي سمحت أن يحدث في المناطق المجاورة، فقد وصل مزاج الثورة الفرنسية لمناطق عديدة تختلف ظروفها عن ظروف فرنسا مثل هولندا و غيرها.

و هذا يعيدنا إلى قضية الإنسان و الحكم عليه نفسه؛ لأن الذين حاولوا على مدار التاريخ أن يوجدوا قوانين المجتمعات البشرية و حركات المجتمعات الإنسانية لثوراتها و خمودها لم يصلوا إلى قوانين نستطيع الوثوق بها و القياس عليها؛ فكثير من أحكامنا فيها مليئة بالحدس و القياس الذي قد لا يتحقق و لا ينطبق على أحوال أخرى، إلى جانب ذلك تلك الحقائق الاجتماعية المتفاوتة التي نزعم اتفاقها عندما تتطابق الأحداث مع التوقعات، أو نعيد التماس الفروق حين تختلف النتائج.

من سابق العصور و إلى العصر الحاضر، كان أكثر الأزمنة التي حاول الإنسان فيها أن يوجد قوانين علمية للحركة البشرية هو القرن التاسع عشر؛ لأن النهضة العلمية ساعدت الإنسان على المخترعات العلمية الطبيعية و قوانينها فأغرته أن بالإمكان أن يصل لقوانين تتحكم في الطبيعة البشرية و تنجح فيها، و تتحقق السيطرة على الإنسان.

و لكن كان الفشل ذريعا، و القسوة و الضرر الكبير الذي وقع على الإنسان جاء من ثقته الكبيرة أن بإمكانه أن يصنع قوانين نهائية لحياته، و بالتالي فشلت القوانين العلمية في المجتمعات فشلا ذريعا حتى في قضايا الإدارة، و من هنا جاءت النظريات التي تعيد الإنسان إلى إنسانيته، و تسهم في التخفيف من بؤس النظريات العلمية المسلطة عليه.

و استقرت بعد هذا الكثير من النظريات الإنسانية التي تقدر هذا الإنسان و تتعامل معه، و تعلم أنه هو في نفسه دائما يحتاج لمراجعة القوانين التي ينتجها، فما سماه “مسلمات” تحتاج دائما إلى مراجعة، فكما أن النظريات العلمية تحتاج إعادة زيارة من وقت لآخر، و تحقق وتدقيق و تخلص من قيودها أحيانا فمن باب أولى الجوانب البشرية.

و منذ زمن قصير (بداية شهر 10/ 2011م) كانت حقيقة علمية أخرى تتعرض للنقد؛ ليست نظرية نيوتن و لا النظرية النسبية و حصارها بالنظرية الكمية، إنهم هذه الأيام يقولون: لم تعد سرعة الضوء كما كنا نظن و لا الضوء هو الأسرع، و اكتشفنا من المادة ما هو أسرع منه.

و كانت العلوم النظرية و التطبيقية تستفيد مرة و تتضرر أخرى من النظريات ففي أواسط القرن العشرين تخلصت بعض علوم الإدارة من هجمة “الإدارة العلمية” لتنتصر”الإدارة الإنسانية”، و كذا تراجعت النظرية القطعية التي سموها علمية في الاقتصاد و التاريخ و الأعراق أمام نظريات أخرى -بعضها قديمة و بعضها ظهرت في منتصف القرن- و كان لها سمات إنسانية أو بقايا من نوازع دينية مثل نظريات “بوبر” و”توينبي”.

 و قد كانت شهية المؤرخين –هم بالدرجة الأولى بسبب أقدمية هذا الفن أو العلم على غيره، ثم من بعدهم كثير من علماء في حقول عديدة- كبيرة أن يصنعوا قوانين، و كان كل منهم مولعا بنقض نظرية صاحبه، فكان جدلا ممتعا على مدار القرون الأخيرة، ثم جاءت الثورات كفرع من الموجات التاريخية لتطرب عشاق النظرية مرة أخرى لمزيد من النقاش عن شروط الثورات  متى تحدث الثورات، و لماذا، و ما هي ملامح أشخاصها، و ما هي أفكارهم، بل و حتى الحديث عن أبدانهم و أقاليمهم  و الثقافات التي تهيجهم و البيئات التي تصنعهم.

فإذن هناك ظواهر تفصيلية لا تستطيع أن تلزم بها سلوك الإنسان، و هذا الأمر ينطبق على الثورات و على تحولات المجتمعات، إنه يمكن ملاحظة ظواهر و وضع مؤشرات، و لكن رحمة بعقلك و بتاريخ البشرية و إصرارك و حاجتك لا تضع قوانين صارمة تقيد أفق الفهم عندك، فقد تجد غير بعيد ما يكسر هذه القوانين التي بنيت عليها مسلماتك.

فمثلا عانى العراقي تحت حكم “صدام حسين” من مظالم كثيرة و هائلة، أو المجتمع السوري تحت حكم “حافظ الأسد”، و مع ذلك قد تنجح هذه المحاولات التحريرية و أحيانا لا تنجح، و لعل من الطريف أن متحدثا يقدم لحديثه بمقدمات تهدم ما سيتلوها، لا أريد هدم فكرتي في السياق القادم، و لكني أقدم أهمية كبرى لهذا الإنسان و وعيه أو غفلته تجاه دوره في حياته و ما يحيط به، فحقيقة مسلمة جاهزة و مفيدة جدا، و شرط متوافر لا يعني الانتقال لما بعده، لأن ما وفر الشرط الأول قد لا يكون هو ما يحقق التالي.

* أسباب الاحتجاج:

1. المظالم الحاضرة في الوعي:

فالمظالم دائما موجودة في المجتمع البشري، و لكن القضية نسبية بين مظالم جائرة جدا تخرج الإنسان عن طور الكرامة الإنسانية إلى أن تنهي وجوده و كرامته، و بين جور يحتمله الإنسان على صعوبات متفاوتة، كما أن هذه المظالم ترتبط بمسألة وعيها و بثقافة المجتمع تجاهها، فقد ترتكب أفظع المظالم و لا يضعها مثقفو المجتمع في سياق المظالم، و الوعي بالمظالم هو الذي يساعد في تحويل الأفكار و التوجهات إلى حركة في الشارع.

ففي حال وجود مظالم لم يوجد توعية بها و طرح مخارج منها فإنها قد تكون موجودة و لكن معمّى عليها، إلى أن يقدح الوعي بهذه المظالم و معرفتها، ما لم يكن هذا؛ فإن المظالم التي لا يستشعرها المجتمع و لا يناقشها لا تحركه، ألا ترى أحيانا نفس المَظْلمة تحدث للشخص نفسه فيستنكرها في حال وعْيه بها، و كان سبق أن سكت عنها من قبل؟ و ربما كانت الأولى أفظع، و لكن وعيه كان أقل أو العكس، انتكست حقوقه في زمن لم يك فيه ذا وعي فأصبح يقبل بالمظلمة، فحضور المظالم في الوعي أنها مظالم شرط في إمكان الاحتجاج.

2. تجريم السلطة للشكوى:

و هو أن تمنع السلطة المجتمع من أن يشتكي و من أن يتحدث عن مشكلاته، فالشكوى تنفيس، و بعض الأنظمة تسمح بشيء من الشكوى و من النقد لامتصاص المظالم، و لكن من أغلق الطريق و زاد الكبْت فجّره التيار و لو بالعنف، و وجود الوعي القادح مع المظالم المحرم نقاشها تجعل المجتمع على فوْهة بركان الانفجار، و لهذا كان أذكياء المستبدين يعرفون كيف يفتحون للمجتمع المقهور منافذ يصرف فيها شيئا من غضبه حتى لا يصل لحالة احتقان.

3. تجريم المعارضة:

يصر المستبد على أن يجعل المعارضة جريمة من جرائم المجتمع المقهور به، و بدلا من أن يكون للمعارضة الحق في الكلام فإن السلطة الفاسدة تجرّمها، أو تطاردها، أو تتهمها بما ليس فيها، و لأن السلطة تجمع عنصري الفساد (المال والقرار) فإن المعارضة الذكية تصبر، و تجمع رصيد السخط (الفساد المالي و أخطاء القرار) و توعّي بهما، ثم تأتي اللحظة التي ينصبّ فيها السخط على المستبد، و يصبح الجرم كاملا منه، و يتجه التجريم و التهم كلها إلى السلطة، و تصبح هي وجه الجريمة الحقيقي، و يصبح الشعب المسلوب من المال و القرار كله يهتف باتهام المجرم الوحيد.

4. غياب الاحترام:

المال و السلطة تزرع في من يملكهما مرضا نفسيا و خلقيا قل من يتنبه إليه ممن غرق فيه، فيتوهم الكمال و ربما ادعاه في كل شيء، حتى في بنيته الجسمية مقارنة بغيره –كان “ستالين” يلبس حذاء عاليا و يمنع أن يرافقه من هو أطول منه 3، و هذا الترفع و التسلط يتسرّب إلى جنود المستبد و موظفيه.

فيتوهّم أحدهم أنه فوق أن يُردَّ له قولٌ و لو أهان غيره بلا حق؛ مثل ما حدث مع “البوعزيزي” في تونس، فليس كل الناس يثورون بسبب الظلم و لا الفقر، و لكن لقوم منهم كرامة، و عزّة نفس يصعب قهرها، و إن تعرّضت يومًا للقهر صدعت برأيها، و عبّرت و هذا في ما يخص الفرد.

5. القهر العام:

حاجة المجتمع إلى الاحترام أساسية جدا، و  بالتالي شعور المجتمعات المقهورة بحالة الاحتلال و الاستعمار جزء أساسي منها قضية الشعور بالنقص و المهانة، و المجتمع الذي تستطيع الأيديولوجيا التعبير عن قهره بثقافة مضادة عامة ينتقم جماعيا من قاهريه أيا كانوا.

و أوضح مثال على ذلك الثورة الإيرانية، فقد رسخ المثقفون -من المتدينين واليساريين والمستقلين- في قلوب الشعب ضرورة الانتقام من الذين أهانوا الشعب و أنهوا الحكومة الديمقراطية، و أعادوا “الشاه”، و اغتصبوا حقوق الناس في اختيار حاكمهم، و شوهوا سمعتهم، و سجنوا زعيمهم مصدق، و أهانوه لأنه نادى بضرورة الحرية و أن النفط للإيرانيين، فأُعيد استعبادهم بواسطة “الشاة” و أعيد سلب النفط منهم.

فكان الشعور بمرارة المهانة و التوعية الشديدة بها إلى حد التشبع يفتح بابا لثقافة العزة مهموسا بها في البداية، ثم تتعالى الأصوات بها، و تتنظم الأحزاب من أجلها، ثم تسير نحو تنفيذها.

6. الاغتراب السياسي:

بمعنى أن يصبح المجتمع لا مشاركة له في السياسة، و أن يصبح غريبا في بلده، و رأيه غريبا في كل شيء، و مثال اغتراب الشعب عن سياسة بلده شعور الشعب المصري أيام أحداث حرب غزة (2008-2009م) بأنه قد بلغت إهانته قدرا لا يطاق؛ لأن عددا كبيرا يقتل بجواره هم إخوانه حوصروا في سجن، ثم يقتلون بطريقة عدوانية لا يقبلها الإنسان للحيوان..

فكيف و هم يرون الإرهاب الصهيوني على إخوانهم المظلومين المحاصرين الأبرياء معزولين يقتلون بكل برود؟! و حكومتهم في مصر تقف مع المجرم ضد الضحية، و هم 80 مليون لا يشاركون في الدفاع عنهم، ثم استمرار الإصرار على عزل المجتمع عن السياسة حتى لا يشارك في مصيره و لا في تدبير حياته السياسية، و هو يرى فشل السياسي أمام عينيه يؤذيه في كل قضية، و يراكم بجانب سوء السياسة فظاعة الخلل الاقتصادي.

7. الحرمان المادي:

يقابل الحرمان المادي رؤية السرقة؛ أن تجد هذا الجوع و الفقر المنتشر، و مع ذلك تجد الذي يمتص هذا المجتمع حيا متنفذا يمارس القهر و هكذا يشعر المجتمع بالغبن:

واحتمال الأذى ورؤية جانيه         غذاء تَضْوَى به الأجسامُ

كان يصعب أن تتصور أن شخصا في مصر أو شخصين يستطيعون سرقة 70 مليار دولار، كان يصعب تخيل هذه الثروة المنهوبة في بلد يعاني الأزمات الاقتصادية، و لا يحتمل أن يسرق شخص هذا المبلغ، لكن تبين بعدها من هذه الأرقام أن البلد به خير لكنه منهوب، و كذا بالمثل تونس التي ليست غنية و لكن تبين سبب الفقر بها.

8. الثقافية المثالية:

الثقافية المثالية في المجتمع يساعد وجودها على تصاعد الاحتجاج في المجتمع، تلك الثقافة المثالية المشحونة بالقيم العالية و بالتطلع إليها، من خلال نماذج مخلصة و نزيهة في الذهن أو الواقع.

حين يوجد في ثقافة الناس و حديثهم تناقل و سماع لقصص عن نماذج مثالية من العدالة و الديمقراطية، تجعل الشعوب المقهورة تلاحظ و تنظر في مكان آخر: لماذا لا نحظى بشيء من الكرامة و العدل و الحريات كالشعب الفلاني أو الأمة الفلانية ؟ عن أمم حية تعيش في عالمهم، أو تحيا ذكراها في خاطرهم.

فقد كان من نماذج الوعي بخطورة النموذج و المثال القديم الحاضر في الذاكرة ما قاله الخليفة “عبد الملك بن مروان” الذي كان يستبدّ بالسلطة و المال، و كان يؤذيه و يرهبه ذكر أمير المؤمنين “عمر بن الخطاب” -رضي الله عنه-، فقال كلمته المشهورة: “قللوا من ذكره، فإنه حسرة على الأمة طعن على الأئمة”..

هذا أنموذج قديم و لكنه خطر على استبداده، و لذا حاول منع التغطية الإعلامية ــ و لو في المجالس ــ بالحديث عنه، و ليس المقصود حسرة على الأمة بمقدار ما يريده هو من منع الطعن على الأئمة الذين لا يرتقون له.

فمجرد النموذج التاريخي و إحياء ذكراه خطر على المستبد، و لذلك من المهم دائما لصناعة الاحتجاج في كل المجتمعات و الثقافات استحضار النماذج المثالية، إن لم يكن جميعها فعلى الأقل المطلوب تحقيقها، و هى أساسا لُبّ الموعظة و لب الدروس؛ لذا فإن نجاحات الحضارة و الديمقراطيات المعاصرة من أقوى ما يملك المُحتَج، تلك النماذج يجب استحضارها و ذكرها في النفوس و مقارنتها.

و هي ميسورة ومنتشرة في العالم؛ فمثلا حدث في الولايات المتحدة الأمريكية أن دبّ خلاف على هدية أهديت لـ“هيلاري” زوجة الرئيس الأسبق “بيل كلينتون” عند خروجها مع زوجها من البيت الأبيض حول أحقيتها في أخذ طقم صحون أو ما أشبه أُهدي إليها في وقت وجودها، و هل لها الحق في امتلاكها أم هي ملك للشعب؟ و كان هناك قانون يقول بعدم أحقية أخذ هدية إذا تجاوزت قيمتها سبعمائة دولار؛ إذ تعتبر من ممتلكات الشعب.

في ذلك الوقت كان أحد أعضاء عائلة خليجية لا يرى أي خطأ إن استولى أقاربه على ثُمن دخل البلاد، و ضرب مثلا لو استحوذ أقاربه على خمسين مليار دولار من الخزينة -ما يمثل ثُمن دخل البلاد المفترض في النقاش-فما الخلل في ذلك؟!؛ لأن الفساد دائما موجود بحسب رأيه!

و لهذا فإن النماذج من العدل و النزاهة مطلب عالمي مهم استحضاره و مقارنته بقطع النظر من أي مكان جاء المثال، ففي القرآن كانت الأمثلة تأتي من الطير و من الحشرات أحيانا، فكيف بنماذج ناجحة عانت حتى تخلصت من ضعفها و عيوبها و شرورها، فالنماذج تبني الأمم؛ لأن هذا الإنسان يستجيب للنموذج المعيش في حياة الناس أكثر مما يستجيب لأي حق أو خير مكتوب في دينه أو تاريخه أو قانونه أو تراث الآخرين، فإمكان تحقيق نماذج ديمقراطية عادلة اليوم أكثر عملية و تحقيقا من استذكار تاريخ مهما يكن و لو كانت فكرة الخلافة، بقطع النظر عن الاختلاف في تصورها.

فالتقليد للمفيد و المقارنة مع الأمم الأخرى و منجزاتها ضروري لرفع الذات، و للاحتجاج على مظاهر الهامشية و الضعف الاجتماعي و السياسي.

و أمثلة الاستفادة الإدارية و العملية و الحربية كثيرة في عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فعندما أخبروه أن الحكام كانوا يستخدمون أختاما في الرسائل استخدم خاتمه، و عندما قالوا له إن الحكام يلبسون لباسا خاصا لاستقبال الوفود اتخذ لباسا خاصا لاستقبالهم.

و في عهد “عمر” تطور الأمر بكثير، و هكذا خرج عندنا البريد و الدواوين، و كثير من النظم كثير منها تقليد لأمم أخرى، فالحضارة في النهاية هي منتج بشري ساهم فيه العالم كله بقطع و نماذج صغيرة تستجمع كل حضارة منها ما استطاعت.

9. القيادة الصامدة للمحتجين التي تقول: “لا” لكل تراجع عن هدفها :

و هذه نظريا وجدت و درست في العصر الحاضر في أنموذج “الخميني” الذي اشتهر بصلابة خاف منها أقرب الناس إليه، و كذا “الغنوشي” و ”منصف المرزوقي” في تونس، حتى ملّ من صرامتهم و استمرارهم كثير من زملائهم و تلاميذهم و تركوهم في المهاجر و رجعوا و حاولوا شيئا من المصالحة، و المعايشة للنظام البائس.

و كان النموذج الأعظم و هو التحول في قيادة الثورات العربية تلك الآلاف أو الملايين الصامدة، فحتى لما ذهبت بعض المعارضة لتستجيب لعروض “مبارك” و ”عمر سليمان” كان قوم “لا” أعلى فعلا و صوتا من كل من لان و ضعف أو فرح بتحول بسيط في المستبد.

و هذه الفقرة و إن كان بعضها يدخل في موضوع سياق و إنجاز الثورة، و لكن هناك جانب سابق لها هو وضوح “لا للتنازلات الشكلية” القليلة في أذهان المحتجين، و الصبر على البلاء و التنظير له، و وجود شخصيات تقول و تتحمل بنفسها الغربة و التهجير و الفقر و التهم و البؤس و المطاردة.

10. وضوح نماذج الانحراف و اشتهار الفساد:

فالملاحظ في أسباب نجاح الثورتين المصرية و التونسية شهرة الطبقة الفاسدة المقربة من الحكم و المستبدة بالمال و القرار، و حضور هذه الأسماء و النماذج لدى الجميع، و ربط فحش غنى هؤلاء و ما يستنزفونه من الثروة و التأثير في مسيرة الشعب بما يجري للطبقات الفقيرة و مشاهد مآسيها المتكررة.

و قد سبقت احتجاجات العمال المصريين في أماكن عدة، و قصص فاضحة عن سرقة الحديد و الأراضي، و الاستهانة بالحياة كما في قصة العبارة و تبرئة المذنبين لأنهم من المقربين، أو القادرين على دفع الرشاوى. و هذا ينتج موقفا من الحسرة على النفس و الناس، و الآلام العامة من قصص البؤس التي يمكن أن تكون مثبطة أو سلبية، و لكن يمكنها أن تخرج الناس إلى الاحتجاج.

11. البلاغة في الاحتجاج:

فوجود الثقافة الواسعة لمبررات الاحتجاج مهمة، و كذا تنوعها ــ شعرا و نثرا و نصوصا ــ مؤسسة على ثقافة المجتمع و دينه و تراثه و شخصياته و تجاربه؛ يُعَدُّ مادة أساسية للاحتجاج و نجاحه، و كذا الأهازيج، و أصوات المحتجين و دعاؤهم المنظم، و حركاتهم المبدعة، و أصوات منشديهم و مغنيهم و خطبائهم و أئمتهم زاد للاحتجاج..

و كذا السخرية المرّة بالمستبد، فهذه السخرية مثلا ليست قاصرة على مجتمع دون آخر، فهي وسيلة للتعبير الصريح، أو الجارح، أو المهذب، و هي وسيلة للتخفيف و تحويل ما يحدث إلى حالة محايدة أو هكذا تبدو، و لكنها مع الزمن تصبح من طرائق القمع الشعبي غير المنظم للمستبدين و الفاسدين، و هي تنتج وعيا حزينا بما يحدث، فهي لحظة ضحك، و لكنها تنقل الضاحك في لحظة ما إلى مستنكر لما يحدث، (عند "جين شارب" بعض هذه النماذج في كتابه).

و يجب الانتباه ألا تصرف بلاغة الاحتجاج إلى قضية أخرى في هذا السياق، و هي “المجموعات المدرسية” أو ما يسمونها “المجموعات العقائدية” التي تأتي إلى الماضي أو الحاضر فتعيد تفسيره لك بتفسير يناسبها، و تدمج اللحظة الحاضرة في أنموذج ماض، مثال ذلك: المجموعات المتدينة التي ترى الدين أساسا في ثورات الشعوب، فتقول: “إن الثورة المصرية ما انتصرت إلا بالدين”، و مجموعات أخرى ملحدة لا ترى أهمية للدين فتأتي إلى حدث معين، و تقول: “بل الإلحاد هو الوحيد الذي يمكن أن يطور المجتمعات البشرية”، و مجموعات ترى قضية العمال الذين أعادوا ثورة البؤساء “الثورة الفرنسية”.

ظهور هذه المجموعات في زمن الاحتجاج يعجل بالتفتت و الطعن في سلوك و أفكار و أعمال المحتجين و تمزيقهم، و يقضي على الهدف العام للاحتجاج، بل يجب إبعاد هذه الأصوات في زمن الاحتجاج.

فالثورة يشارك فيها كمٌّ من الثقافات و الأطياف، و يجب على المحتج أن يستوعبهم و يقبلهم، و أن يضعف الميل نحو التفصيلات في مراحل الاحتجاج إلا تحقيق الهدف الأعلى؛ يجب أن يكون واضحا جدا.

12. التركيز على الطبقة المتوسطة في المجتمعات لتنفيذ الاحتجاجات:

بمعنى أن هذه المجموعة من الناس التي ليست فقيرة جدا و ليست مشغولة بضرورات الطعام و السكن فلا تبحث ليل نهار عن لقمة العيش، و ليست من تلك المجموعة المترفة؛ لأن الفقر الشديد و الترف يصنعان طبقتين خارج التاريخ و بعيدتين عن الحياة المجتمعية الفاعلة.

و لكن المجموعات الوسط هي التي تعي و تحتج؛ لأن ضرورياتها مصونة، و هي خفيفة الالتزامات، و تحب تحسين حياتها المعنوية و السياسية و الاقتصادية، و لها طموحها في تطوير الحياة، و هذا أمر ظاهر في نموذج الثورتين المصرية و التونسية، فإنه و إن كان للمعدمين دور أكبر في تونس و للمناطق الداخلية المهملة، لكن انتقال الاحتجاج للطبقة الوسطى حسم الأمر، و هي نفسها التي نفذت في مصر بعد احتجاجات عمال و غيرهم سابقة لم تنتج.

فالمجموعات التي تقيم الثورات هي مجموعات واعية و مؤثرة و قادرة و ليست هي المترفة المشغولة بترفها، و لا المجموعات التي تصل إلى درجة الاكتفاء الذاتي.

13. دخول الحكومة المستبدة في العنف في مواجهة المحتجين السلميين:

و هذا يسوقها إلى أن تستكمل وسائلها في ممارسة عنفها، و هذه المرحلة تزيد المحتجين قناعة بضرورة استمرارهم، و تغلق الطريق و الرؤية الحكومية لدى المستبد نحو المواجهة فالمستبد بمجرد ما يصعد القتل و يبالغ فإنه يقلل من وسائله للمواجهة، و يضعف نفسه، و يقوي المحتجين، لأن الخوف من الحكومة يغيب بمقدار ما يستمر الناس في رفضهم لها، و تقل حيل الحاكم في مواجهتهم و هم يشعرون بنشوة الشعور بالنجاحات المستمرة فتتزايد إبداعاتهم في أساليب الاحتجاج و تتناقص إمكاناتها (4).

14. أيضا من المهم في قضية الاحتجاجات أن تُرسم طرق للوصول إلى الهدف:

فما لم يوضع للناس و لم يُقَل: “إن هذا هو الطريق” فإنهم لا يستطيعون أن يؤثروا، و مثال ذلك احتجاجات مصر، سبقت بكثير تونس و غيرها، لكن إسقاط “بن علي” جعل قضية إسقاط النظام في مصر مسلمة لا نقاش فيها، قبل ذلك كان هناك احتجاج، و لكن في لحظة إسقاط “بن علي” كان النموذج مهما جدا.

15. مؤسسات و مجتمعات الاحتجاج:

لا يليق التهوين من المؤسسات و الأحزاب التي ساندت و حمت الاحتجاج، مثل حركة النهضة التونسية و الحركات الديمقراطية و جماعات اليسار و القوميين في تونس، و في مصر مثل كفاية و الإخوان المسلمون و حزب الوفد، فجميع الأحزاب و المؤسسات و النقابات في المصانع التي بدأت الاحتجاج قبل الثورة صنعت الكثير من الاعتراض و من مهاد ثقافة الاعتراض؛ مثال ذلك إضراب 27 ألفا من عمال المحلّة الذين كانوا يعملون في النسيج.

و”في استطلاعات قياس الرأي في العالم العربي أظهرت أن 39% من الكويتيين، و 30 % من الجزائريين،و 29 % من الفلسطينيين و 22% من المغاربة شاركوا في اجتماع أو لقاء أو توقيع على عريضة احتجاج خلال الثلاث سنوات: 2003-2006” (5).

و المجتمعات العربية جميعها تقريبا شهدت احتجاجات مختلفة، و كانت مخيفة للسلطة و للمجتمع كلّما كان المجتمع مغلقا، ذلك لأنها قد تتحول إلى عنف منها، أو من السلطة، و كلما كان مفتوحا فإن الاحتجاجات تفيد المجتمع و تعرف بالحق و الباطل و التحيزات، و تخفف الاحتقانات، و قد تتحول الاحتجاجات إلى تصويب المواقف، و تعديل سلوك الحكومة، و الاحتجاجات ترفع من وعي المجتمع و من نسبة مشاركته في تحقيق الحياة التي ينشدها.

أما في مجتمع مغلق يحرّم الاحتجاج فإن الحكومة تقدم نفسها و قراراتها بأنها الصواب المحض، و المحتج يقدمها على أنها الخطأ المحض، و يسود التكبر و الانغلاق بين الطرفين، و يحرم المجتمع من النمو ما لم تكسر حواجز الغرور والتجريم المتبادل؛ لأن قمع الاحتجاج وصفة تفتح الطريق للعنف و تضعف المشروعية أو تلغي ما بقي منها.

لذلك، فإن من المهم وجود تجمّعات تعترض في المجتمع الإنساني، مثل مختلف المجموعات المهنية و العلماء و أساتذة الجامعات و المحامون و الأطباء و المدرسون و المتصوفة، حيث لا يليق أن يختزل الإنسان في قضية واحدة، أو جانب من ولائه أو شخصيته، أو مهنته؛ فهذا ظلم كبير له، بل تسخر كل إمكاناته لتحقيق المراد العام للجماعة المحتجة، و كذا يجب الخلاص من النظريات و المسبقات المعطلة، مثال ذلك قولهم بأن الإنسان لا يثور إلا من أجل الطعام، و هذا ليس صحيحا أبدا، فهو يثور للكرامة و العرض و الاختلاف العقائدي و العرقي و الجغرافي و من أجل الخيانة و لأشياء كثيرة يمكن أن تثير هذا الإنسان.

“الشعوب لا توجد قبل لحظات الاحتجاج” أو لا تجد نفسها قبل لحظة الاحتجاج، و يستغرب البعض ويتساءل: كيف؟ عندما لا يكون مشاركا في الاحتجاج و لا في العمل و لا في المساهمة فهو غير موجود، قبل الثورة في مصر كنت أقول للناس: للأسف تجد في غزة عددا صغيرا من البشر ــ ثلاثة آلاف من المقاومة ــ جعل الشعب يتمتع بالحرية، و هم أكثر فاعلية من 80 مليون مصري مقهورين، و في لبنان الوضع نفسه؛ مجموعة قليلة تواجه إسرائيل و لا وجود لبقية الناس.

يقول أستاذ جامعي في رمضان (1432هـ-2011م): “كان رمضان يمر بنا فلا نهتم إلا بالطعام، و ماذا أكلنا و ماذا سنأكل، و لكن الاحتجاجات جعلتنا نشعر أن لنا كرامة و قيمة و قضية تستحق أن تعاش  أنعشتنا من موتنا الطويل”.

الاحتجاجات تفجر حيلة العمل و المواجهة و المطالبة، و نقاشات ما قبل و ما بعد الاحتجاج، و تزرع الحمية و أخلاق الجهاد السلمي و التكافل ضد جبهة الاستبداد، إنها تخرج الإنسان من حالة (اللاقيمة) و تزرع الأهمية و الدور و الأثر، إنها حقيقة تبعث الموتى.

و كان “جمال الدين الأفغاني” يقول كلاما موجعا موجها حديثه لأربعمائة مليون هندي: “لو بصقتم على بريطانيا لأغرقتموها.. بمجرد بصق تَغرقُ بريطانيا لكنها تحتلكم”. و لكن الملايين و المليارات من الناس الفاقدين للحرية و للفاعلية غالبا لا قيمة لهم في مسار حياتهم أنفسهم فضلا عن بقية العالم.

في نموذج الاحتجاج هناك مجتمعان: أحدهما ديمقراطي، و الآخر مستعبد  و حكومة مستبدة، عندما تحتج ضد ديكتاتور غالبا ما ينكر وجودك، فالمحتجون مجرد جرذان! ينظر إليهم على أنهم ليسوا بشرا، “القذافي” تلفظ بها، و لكن من لم يقولوا هم يمتلكون القناعة و الثقافة التي تُكِن ذلك من خلال تصرفاتهم، الفارق بين بعضهم و بين “القذافي” أن فجاجته تسمح له بقول ما يعتقد، ثم إذا تصاعد الناس و بدؤوا في الظهور يبدأ بالتفاوض أو القتل، و لكن في الغالب النظام العنيد لا يستجيب إلا بالعنف، و عليه؛ يحتاجون إلى القوة و الكثرة.

16. الحماية الإعلامية (6):

كانت وسائل الاحتجاج قديما مقصورة على الوسائل البسيطة؛ الحناجر و الأقدام، ثم تطورت إلى الكتابة و لكن وسائل الاحتجاج تتقدم بطريقة رائعة في هذه العصور، و تعطي للفرد وسائل للتغير و قوة ما كان يملكها. نعم قد استُخدم الإعلام في التخدير و التنفير و أحيانا للإرهاب، و لكنه في الثورات العربية كان وسيلة عظيمة للتغيير.

فعندما كان التلفزيون الحكومي المصري يتحدث عن انتخابات حرة و ديمقراطية فيما كانت القنوات تنقل أخبار تزوير الانتخابات عام 2005، مع مشاهد لناخبين و قد خضبت الدماء وجوههم، و أحاطت بهم عصابات البلطجية يلوّحون بمناجل و عصي، و وقفت عناصر الشرطة لا يحركون ساكنا و يتفرجون على المشهد، و الشرطي كان من قبل يؤكد: “اللي ما بيبوسش الجزمة مالوش لازمة” (7).

و لكن التاريخ تحرك لصالح الإعلام و لصالح الناس كما وصف الصحفي المنافح: سلامة أحمد سلامة التأثير الإعلامي بقوله: “لقد دشنت الجزيرة حركة تغيير داخل المجتمع المصري، و لم يكن ليتسنى لنا معرفة هذه الانتهاكات لو لم تكن الجزيرة حاضرة". (8).

و كانت أسرع شهادة نالتها الجزيرة ذلك التعقيب السريع الذي قالته نوراة نجم إثر إعلان عمر سليمان عن تنحي مبارك: “شكرًا تونس، شكرا الجزيرة، ما فيش خوف تاني” و هناك اعتراف كبير بالتأثير، و ربما بالغ الناس في أملهم منها كما أشار مارك لنش: “ما دعاه أحد المتحمسين بجمهورية الجزيرة الديمقراطية في الواقع لا وجود له، فالجزيرة لا يمكنها خلق الديمقراطية بمفردها، و ليس بمقدورها إرغام القادة العرب على تغيير أساليبهم و لا يمكن للبرامج الحوارية التلفزيونية أن تعوض العمل الشاق في سبيل التنظيم السياسي و بناء المؤسسات” (9).

و يمكن أن يكون الإعلام وسيلة لما هو أكثر من الاحتجاج و التوعية، أي إلى الضغط على حكومات لتغير مواقفها المتصلبة؛ فقد نشرت (ويكيليكس) بعض الأخبار المتعلقة بهذا، و منها: أنه في حرب غزة فاوضت حكومة قطر حكومة مبارك على فتح معبر رفح مقابل تخفيف حدة انتقاد مبارك و نظامه على شاشة الجزيرة الفضائية، و بهذا يتضح مدى إمكانية أن تكون وسيلة الإعلام وسيلة للتحرير و الإنقاذ، مثال ذلك أيضا الهواتف الجوالة و الإنترنت في سورية حاليا، فدورها مهم جدا في نشر ما يحدث، و لولا هذا لكانت مذابح كمذابح حماة و العالم ساكت لا يرى و لا يسمع.

و هناك كلمة مشهورة لـ “شمعون بيريز” رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، توضح مدى خطورة الإعلام، حينما نبه إلى أنه لو وجد هذا الإعلام الحالي في عام 1947 لما أمكن قيام دولة إسرائيل؛ و السبب: أنها قامت على القتل و الإبادة و تهجير الناس من بيوتهم.

الاحتجاجات تطورت مع وسائل الإعلام بشكل كبير، و أعطت قوة كبيرة لأناس هامشيين، خاصة الإعلام الجديد؛ مثل الجوال و أجهزة الوسائط و ما فيها من سهولة رفع الصور للمشاهدين من أجهزة فردية و صغيرة، و كذا مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، مثال ذلك: ما فعلته المرأة الكويتية حتى انتزعت حقها في التصويت بواسطة حملات إعلامية و رسائل هاتفية، و اجتهدت لتشارك بنات المدارس في هذه الحملة.

و كذا أيضا عند إخراج القوات السورية من لبنان، و في الانتخابات الأمريكية عام 2008م، التي كلفت 740 مليون دولار، كان منها 500 مليون دولار جمعت عن طريق الإنترنت من 6.5 مليون شخص، و معدل التبرع كان 80 دولارا، فقد ساهم أوسع قطاع من الناس، كل بمبلغ قليل و لكنه واسع، و بلغت تبرعات الإنترنت ثلثي ما جمع للحملة الانتخابية، و كان الإنفاق في الماضي من كبار المتبرعين و التجار و الشركات، أما في تلك الحملة فقد شارك من يملك دولارات قليلة في صناعة التغيير.

و في السعودية عام 2011 استخدم تويتر للمطالبة بحق قيادة المرأة للسيارة يوم 17 يونيو، و كان ذلك اليوم هو ذكرى اليوم الذي خرجت فيه روزا باركس ضد العنصريين السود في حركة الحقوق المدنية، و جلست في مقعد الحافلة الذي كان محرما على السود و مخصصا لبيض.

و من أهم مميزات الإعلام الجديد أنه قليل التكلفة مقارنة بما يكلفه الإعلام الآخر، و ديمقراطي، واسع الجمهور، و غير طبقي، يخترق المناطق و الحدود و الطبقات، يتجاوز اهتمامات أي شخص و يدخله في الهم العام، و هذا جانب بالغ الأهمية، إذ كان الإعلام و المجلات  و التلفاز و المسرح و الإذاعة كثيرا ما تحاصر المستهلك بتخصص محدد أو اتجاه و سياسة محددة، و لكن هذا الإعلام يجعلك تهتم بما لم تكن تفكر فيه و لا تهتم به، فقط تتابع خبرا أو فكرة لأنها مقبولة للنقاش أو غير مقبولة، كما أنها لا تحتاج إلى معلومات كثيرة بل معرفة بسيطة بكيفية الاستخدام.

من هاتفك الجوال تعالج ما تشاء من أنباء و قضايا و صور و تعليقات. و هو لا يلزمك بزمن محدد تكون ملتزما بمتابعته، بل يأتيك وفق وقتك السانح، و أنت من يحدد الوقت، كذلك المكان، فلم يعد ملزما أن تكون أمام التلفاز في وقت محدد.

و أصبحت ساحات الحوار الجديدة أبلغ أثرا و إيصالا للمواقف  و الأفكار و الأخبار من أي وسائل سابقة، بل أصبح لكل فرد هوية محددة في شبكات عامة، و كأنها تعوضه عن العزلة المدنية التي أحاطت به مع تطور التقنية، فأصبحت تخرجه إنسانا اجتماعيا سويا مرة أخرى. فأقام مؤسسات بديلة عن المؤسسات التي دمرها المستبدون و قضوا عليها، فوجد الناس في هذه المؤسسات الجديدة عالما من المتعة و النقاش و النقد و الإصلاح و التواصل و التأثير غير مسبوق.

و مع ذلك، فقد أبقى على جوانب التأثير الأخرى –و إن كان بشكل أقل حدة من سابقه- مثل المشاهير و ولع الناس بمتابعتهم، و هذا من جانب المتعة و الفن و الفكر و الانتماء التي يحملها الإنسان معه، غير أنه في زماننا أصبح أكثر تحررا من سابقه، و هو يستطيع تجنيد هذا البحر الهائج من الوسائل و المضامين ليحتج بها حين يحتاج، و قد أثبت ذلك بجدارة رغم كونه جديدا في عالمنا.

و نعلم أن الترابط بين الدول العربية في اللغة و المظالم  و المشاعر يجعل حالة الاحتجاج قابلة للاستمرار و التأييد المشترك و التناصر لتحقيق الأهداف؛ (مثلا جمعة “شامنا و يمننا)...(يتبع)

 ———————————————————

[1] أصل هذه الورقة قدم في مؤتمر “الثورات العربية” الذي عقد في القاهرة، ونشرت ضمن كتاب أعمال المؤتمر الذي طبع تحت عنوان “الثورات العربية”، من تحرير مصطفى الحباب، دار الإنتشار العربي، بيروت، 2012.

[2]  جيمز م. يسبر، فن الاحتجاج الأخلاقي، The Art of Moral Protest, P. XXI.

[3] الغريب أني وجدت في كلام “علي عزت بيجوفتش” شيئا من بقايا الشعور الذي ينفثه المستبد في نفوس الجمهور، فكان “علي عزت” يصف “تيتو” -ديكتاتور صربيا الشهير- ثم يقول: “كنت قريبا منه وهو واقف ولم يكن كما كنت أظن طويلا!” استغربت هذا عند “علي” الذي كان يرى أن “تيتو” بجبروته لا بد أن يكمل ويكون جبارا بدنيا في نفوس ضحاياه.

[4]  جين شارب، من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، ترجمة خالد دار عمر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت،  1430-2009 حيث ناقش المؤلف موضوع الاحتجاجات السلمية وطبيعتها وأشكالها.

[5]  فارس بريزات، ثقافة الاحتجاج الشعبي، قوة تعبيرية ذات تأثير خارج القنوات الرسمية، 18\10\2007.

[6]  أصبح الإعلام يمثل حماية للمحتجين وللمؤسسات والمنظمات، فما كان عندك من موقف أو خبر فإن الواجب سرعة إعلانه حتى يكون النشر حاميا من اغتيال السلطة لك في الظلام، وقد شرح الشيخ راشد الغنوشي أنموذجا لهذا لما بصرت السلطة أيام بورقيبة حاكم تونس بتأسيسهم لجمعيتهم (أصبحت فيما بعد النهضة) فسارعوا بالإعلان عنها قبل أن تتمكن الحكومة من اتخاذ إجراءات ظالمة ضدهم، فالإعلان كان حماية لهم بعكس غيرهم الذين تلكأوا في الإعلان فاستطاعت حكومتهم ربط مشروعهم بالإرهاب شعبيا وعالميا مع يقين الجميع بأنه مجرد حيلة ضد حركة إصلاحية.

[7]  أحد قادة وزارة الداخلية المصرية يخطب في رجال الشرطة خلال الثورة المصرية.

[8]  فيليب سيب، تأثير الجزيرة، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2001، ص 171

[9]  فيليب سيب، السابق، ص 17

المصدر:

www.alasr.ws

قراءة 2253 مرات آخر تعديل على الإثنين, 19 تشرين2/نوفمبر 2018 14:54

أضف تعليق


كود امني
تحديث