(function(i,s,o,g,r,a,m){i['GoogleAnalyticsObject']=r;i[r]=i[r]||function(){ (i[r].q=i[r].q||[]).push(arguments)},i[r].l=1*new Date();a=s.createElement(o), m=s.getElementsByTagName(o)[0];a.async=1;a.src=g;m.parentNode.insertBefore(a,m) })(window,document,'script','//www.google-analytics.com/analytics.js','ga'); ga('create', 'UA-60345151-1', 'auto'); ga('send', 'pageview');
Print this page
Saturday, 08 March 2014 21:29

ضريبة الذل

Written by  الأستاذ سيد قطب رحمه الله
Rate this item
(0 votes)
بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة، لا تطاق، فتختار الذل و المهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة، رخيصة، مفزعة، قلقة، تخاف من ظلها، و تَفْرَقُ من صداها، "يحسبون كل صيحة عليهم" ، "و لتجدنهم أحرص الناس على حياة".
هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، و يؤدونها من أقدارهم، و يؤدونها من سمعتهم، و يؤدونها من اطمئنانهم، و كثيراً ما يؤدونها من دمائهم و أموالهم و هم لا يشعرون.
و إنهم ليحسبون أنهم ينالون في مقابل الكرامة التي يبذلونها قربى ذوي الجاه و السلطان حين يؤدون إليهم ضريبة الذل و هم صاغرون، و لكن كم من تجربة انكشفت عن نبذ الأذلاء نبذ النواة، بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله، كم من رجل باع رجولته، و مرغ خديه في الثرى تحت أقدام السادة، و خنع، و خضع، و ضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية، و بكل المقدسات التي عرفتها البشرية، و بكل الأمانات التي ناطها الله به، أو ناطها الناس … ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص، هَيِّنٌ هَيِّن، حتى على السادة الذين استخدموه كالكلب الذليل، السادة الذين لهث في إثرهم، و وَصْوَصَ بذنبه لهم، و مرغ نفسه في الوحل ليحوز منهم الرضاء !
كم من رجل كان يملك أن يكون شريفاً، و أن يكون كريماً، و أن يصون أمانة الله بين يديه، و يحافظ على كرامة الحق، و كرامة الإنسانية، و كان في موقفه هذا مرهوب الجانب، لا يملك له أحد شيئاً، حتى الذين لا يريدون له أن يرعى الأمانة، و أن يحرس الحق، و أن يستعز بالكرامة، فلما أن خان الأمانة التي بين يديه، و ضعف عن تكاليف الكرامة، و تجرد من عزة الحق، هان على الذين كانوا يهابونه، و ذل عند من كانوا يرهبون الحق الذي هو حارسه، و رخص عند من كانوا يحاولون شراءه، رخص حتى أعرضوا عن شرائه، ثم نُبِذَ كما تُنْبَذُ الجيفة، و ركلته الأقدام، أقدام الذين كانوا يَعِدُونه و يمنونه يوم كان له من الحق جاه، و من الكرامة هيبة، و من الأمانة ملاذ.
كثير هم الذين يَهْوُونَ من القمة إلى السَّفْح، لا يرحمهم أحد، ول ا يترحم عليهم أحد، و لا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في سبيلهم هَوَوْا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، و من عزة الحق إلى مَهَاوي الضلال، و مع تكاثر العظات و التجارب فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية، ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة، ضحية تخون الله و الناس، و تضحي بالأمانة و بالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، و تلهث في إثر المطمع و المطمح، و تلهث وراء الوعود و السراب ….. ثم تَهْوِي و تَنْزَوِي هنالك في السفح خَانِعَةً مَهِينَة، ينظر إليها الناس في شماتة، و ينظر إليها السادة في احتقار.
لقد شاهدتُ في عمري المحدود - و مازلت أشاهد - عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، و يتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل، تثقل كواهلهم، و تحني هاماتهم، و تلوي أعناقهم، و تُنَكِّس رؤوسهم …. ثم يُطْرَدُون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، و يسلموا بضاعتهم، و يتجردوا من الحُسنَيَيْن في الدنيا و الآخرة، و يَمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق، لا يَحُسُّ بهم أحد حتى الجلاد.
لقد شاهدتهم و في وسعهم أن يكونوا أحراراً، و لكنهم يختارون العبودية، و في طاقتهم أن يكونوا أقوياء، و لكنهم يختارون التخاذل، و في إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، و لكنهم يختارون الجبن و المهانة …. شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهماً، و هم يؤدون للذل ديناراً أو قنطاراً، شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، و يستظلوا بجاهه أو سلطانه، و هم يملكون أن يَرْهَبَهم ذوو الجاه و السلطان! لا ، بل شاهدت شعوباً بأَسْرِها تُشْفِقُ من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات، ضرائب لا تُقَاس إليها تكاليف الحرية، و لا تبلغ عُشْرَ مِعْشَارِها، و قديماً قالت اليهود لنبيها "يا موسى إن فيها قوماً جبارين و إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هنا قاعدون" فأَدَّتْ ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة أربعين سنة تتيه في الصحراء، تأكلها الرمال، و تذلها الغربة، و تشردها المخاوف…. و ما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمناً للعزة و النصر في عالم الرجال.
إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، و تؤديها الجماعات، و تؤديها الشعوب، فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة و الكرامة و الحرية، و إما أن تؤدى للذلة و المهانة و العبودية، و التجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها، و لا فكاك.
فإلى الذين يَفْرَقُونَ من تكاليف الحرية، إلى الذين يخشون عاقبة الكرامة، إلى الذين يمرِّغُون خدودهم تحت مواطئ الأقدام، إلى الذين يخونون أماناتهم، و يخونون كراماتهم، و يخونون إنسانيتهم، و يخونون التضحيات العظيمة التي بذلتها أمتهم لتتحرر و تتخلص.
إلى هؤلاء جميعاً أوجه الدعوة أن ينظروا في عبر التاريخ، و في عبر الواقع القريب، و أن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، و أن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، و أن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة، و أن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية، و أن الذين لا يَرْهَبُون الجاه و السلطان يَرْهَبُهم الجاه و السلطان.
و لدينا أمثلة كثيرة و قريبة على الأذلاء الذين باعوا الضمائر، و خانوا الأمانات، و خذلوا الحق، و تمرغوا في التراب ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، ملعونين من الله، ملعونين من الناس، و أمثلة كذلك و لو أنها قليلة على الذين يأبون أن يذلوا، و يأبون أن يخونوا، و يأبون أن يبيعوا رجولتهم، و قد عاش من عاش منهم كريماً، و مات من مات منهم كريما.
المصدر:
Read 2242 times Last modified on Monday, 06 July 2015 15:55