في زمن تتجاذبه تحديات كبيرة، غدت عملية التعليم إحدى أهم المهام التي تناط بالإنسان المثقف، و أمام تلاميذ لا يمتلكون صفات طلبة العلم، يصبح عمله غاية في الحساسية. فيشعر أحيانا كثيرة أن عليه أن يمتص غضب الإدارة و الأولياء و التلاميذ في آن واحد، و هذا حقا فوق طاقته!
لماذا أصبحت مهنة نبيلة و شريفة مثل التعليم ينظر لها بتشكيك كبير و استهانة أكبر؟ تلك الهالة من التقدير اختفت مع مرور الزمن، و حل محلها شكل من أشكال الازدراء، هذا وقد أثقل كاهل الأستاذ تبعات و مسؤوليات لم تهيئه لها الظروف.
لم يعطى أدوات ترقى بمهمته، و لم يمنح حق المشاركة في عملية تجديد مناهج التعليم، فكيف بنا نحاسب أداءه؟ وكما باحت لي أستاذة في التعليم المتوسط، براتبه الحالي و العلاوات لا يمكن للأستاذ أن يستأجر بيت إلا في حالة عمل زوجته، و هنا لا نذكر صعوبة النقل، و غياب الأدوات التي تسهل عليه القيام بمهمته. المخابر فارغة و الوسائل محدودة، لنتصور حاسوبين محمولين يستعملان من طرف الإدارة و الأساتذة على السواء، كيف يكون العمل في هذه الظروف؟
ما هو المعيار الذي يستند إليه المسؤولين في الوزارة الوصية؟ أليست مصلحة التلميذ فوق كل اعتبار، و رفع الغبن عن الأستاذ في صالح التلميذ أولا و أخيرا. و قد سيطرت أجواء المتاجرة في العقد الأخير، الأستاذ يتاجر من أجل سد مصاريف آخر الشهر، و المدارس الخاصة ترفع الأسعار، و الإدارة تطارد التلاميذ الذين يتسللون للساعات الإضافية، والأولياء يترقبون النقاط و المعدلات، و كأن المسألة مسألة حياة أو موت!!
أن ينحدر الأستاذ إلى مستوي استجداء بعض المال من خلال دروس خاصة، هذا لا نستسيغه، وينبغي علينا التدقيق في الأسباب التي أدت به إلى هذا الوضع المزري. طبعا نحن لا نبرر ذلك، إلا أنه يحق لنا أن نتساءل، كيف نثقل كاهل التلميذ بساعات إضافية و المقرر أكثر من أنه يحتمل؟ أصبحت التلمذة كابوس يطارد أبناءنا في النهار والليل، فكيف بنا نزيدهم إرهاقا و توترا بدروس لا تسمن و لا تغني من جوع؟
و هل ما يدرسونه هباءا منثورا؟ ضعف التلميذ لا يتداركه في بضع ساعات في الأسبوع، لنحقق في الأمر جديا. هل المراجعة المتأنية غير كافية؟ هل الشرح في الفصل لا يؤدي دوره؟ هل التمارين كثيرة فيتعثر التلميذ و يخفق في تأديتها؟ هل الجهد المعتبر الذي يبذله الأستاذ لا مردود له؟ هل الطريقة المنتقاة غير نافعة؟ أعتقد بصفة عامة أن الظروف المهنية الغير المواتية أسهمت بقدر كبير في تضييع جهد المعلم، و مخاوف الأولياء المفرطة ضغطت سلبا على التلاميذ. هذا و المنظومة التربوية لم تحل إشكالية التعاطي مع فئة الضعاف، لأنه في العموم المستوى السائد في الأقسام متوسط.
والشخص الذي بإمكانه تقييم التلاميذ يبقي الأستاذ، و سعي المعلم في هذا الاتجاه، أحيانا كثيرة يصطدم بجدار من اللافهم! كيف السبيل لتبليغ رسالة المعلم حينها؟ إحدى الإطارات السامية في وزارة التربية و التعليم قالت لي من سنوات: لماذا نطالب الدولة ونسكت عن المجتمع المدني؟ المشكلة أن جمعيات أولياء التلاميذ لها هموم لا تجد آذان صاغية إليها، و النظرة إليها تكون وفق "أنهم يتدخلون فيما لا يعنيهم". يكون تفعيل دور المجتمع المدني بالإصغاء إلى انشغالاته، و هو خير وسيلة لإرشاد التلاميذ. فعوض أن نهمل دوره أو نضخمه من غير وجه حق، نجيز له المشاركة في تسهيل عملية التلقين و التبليغ.
المطالب كثيرة، الأجواء عند الدخول المدرسي تكون مشحونة، و الأعصاب متوترة خاصة عندما تتولى النقابات المهنية بتوزيع مناشير الوعيد!
لا نتقن لغة الحوار و وضع ترتيب للأولويات، و جرد الإمكانات، ومباشرة خطة العمل بصرامة. فأن نلقي بالمسؤولية على كاهل المعلم ظلم، و التهرب من تحمل المسؤوليات لم يخدمنا يوما، وليس بوسعنا تأجيل مناقشة المسائل الجوهرية في كل مرة، و العمل لن تكتمل شروطه بذهنية خالف تعرف.
من الضروري أن نعول على تعليم مبدع و أصيل، و لن يتم هذا بين عشية و ضحاها، و ما تستلزمه المهمة على المدى المتوسط قليل من الصبر و الكثير من الفعالية، و قدر أكبر من الأمانة، فهذه أجيال تتكون و لا بد لنا من تقديم الأفضل لها، كي لا نكون جناة، والويل لنا من حكم التاريخ!