التصحيح الذاتي في الحضارة الغربية: حقيقة أم وهم؟ نظرات في الاعتذارات المطلوبة عن جرائم الاستعمار 2/2
الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
هي معظم الموارد التي يحتكرها الغرب و يقيم رفاهيته عليها، و لهذا عندما أعلنوا الحرب على العراق، كانت أحاديثهم مركزة على الحفاظ على طريقة حياتهم و ليس على تحرير الكويت و لا على شرعية الكويت، ما كنا نسمعه منهم في بلادنا يختلف عما كانوا يقولونه لشعوبهم، طلب الاعتذار يفترض مثاليات النظام العالمي الموجودة في الكتب و المواثيق الدولية وحدها و ليست في الواقع، يفترضون علاقات متكافئة بين دول متساوية في السيادة، هذا ليس الواقع، الواقع أن الكبار الذين باعوا علينا أكاذيب الديمقراطية و التعددية و التعايش و الإنسانية هم الذين شكلوا العالم على هوى مصالحهم فشرعوا احتكار القرار السياسي في العالم لخمس دول فقط، و احتكار موارد العالم بأيدي خمس البشرية ثم 1% منها فقط، و رسم الكبار حدود الدول الصغرى لتكون وكيلة لهم بعد رحيل جيوشهم، تريدون من الغرب الحديث الذي نشأ نظرياً على شعارات العقل و العلم و الإنسانية و التعايش و الحرية و قبول الآخر و نسبية الحقيقة منذ خمسة قرون و مع ذلك ما يزال في حرب ضروس مع بلادكم منذ ذلك الوقت، حتى أن احتلال أمريكا و إبادة الهنود الحمر كان عرضاً من أعراض الحرب ضد الإسلام و البحث عن طريق و موارد لهذه الحرب، تتغير مصالحه من الأراضي المقدسة إلى طرق التجارة إلى طريق الهند ثم قناة السويس و القطن إلى النفط ثم الغاز إلى الكيان الصهيوني إلى السوق الواسعة، كلها مصالح متغيرة و لكن العدوان ثابت لا يتغير، ثم تريدون منه الاعتذار عن كل ذلك و حربه مازالت قائمة، لتقوم بينكم علاقات متكافئة على مائدة مستديرة؟ إن شكل بلادنا الذي أسسته أوروبا و أمريكا في حد ذاته يمنع هذا التكافؤ، لأن بلادنا رسمت حسب المصالح الغربية لتكون دولاً عاجزة و تسهل السيطرة علينا و تفريقنا و انسياب مواردنا إليهم، و لهذا لا يمكن لنا و لن يقبل الغرب بهذا التكافؤ الذي سعى جهده لتحطيمه عندما حطم وحدة بلادنا و سهر على عدم قيام أي وحدة محلها و لو كانت جزئية، أي زعيم يسعى لهذا التكافؤ سيصبح هتلر في نظرهم، فمرة هناك هتلر على النيل، و أخرى على الفرات، أحد المؤلفين الأمريكيين المنصفين هو دوجلاس ليتل كتب عن الاستشراق الأمريكي الذي ورث الاستشراق البريطاني في بلادنا و ظلت مفاهيمه تحكم السياسة الأمريكية عندنا منذ ما بعد الحرب الكبرى الثانية إلى اليوم، يقول إن صناع السياسة الأمريكية تحيروا لمدة طويلة من الحالات التي واجهتهم بأمثال “صدام حسين” و”معمر القذافي” و”آية الله الخميني”، مع أن السياسة الأمريكية كانت تريد معادلاً مسلماً لـ”توماس جيفرسون”.
الجواب ميسور و ليس صعباً و لا محيراً إلا لمن لديه مصلحة في تحريف الواقع، أمريكا في الأساس لم تبحث عن توماس جيفرسون مسلم، لأنها لم تكن ترغب بزعيم مسلم يحارب الاستعمار و الهيمنة الأجنبية كما قاد جيفرسون بلاده إلى الثورة على بريطانيا، أمريكا لم تكن تريد زعيماً مسلماً يضاعف مساحة بلاده الكبيرة متخطياً القيود الدستورية التي كان يدافع عنها كما فعل جيفرسون عندما اشترى لويزيانا من نابليون بثمن زهيد، أمريكا كانت تضع كل القيود على أي تخط للحدود في بلادنا و لو تم بتراضي جميع الأطراف، أمريكا لم تكن تريد زعيماً مسلماً يصنع دولة إسلامية عظمى و يرسل أساطيلها لحماية مواطنيه في أقصى العالم كما فعل جيفرسون في الحرب الأمريكية الأولى على “الإرهاب” ضد ولايات شمال إفريقيا العثمانية، أمريكا جيفرسون حاربت السكان الأصليين بكل قسوة و في نفس الوقت كانت تثير الأقليات كالأرمن في بلادنا مع أن أوضاعهم كانت أفضل من أوضاع الهنود الحمر بكثير جداً، الخلاصة أنه لا أمريكا و لا عموم الغرب كانوا يريدون تكرار نماذجهم في بلادنا، و كل الذين حاولوا السير على خطى الغرب في النهوض شبههم الإعلام الغربي بهتلر ثم تم قصفهم و القضاء على إنجازاتهم بقوة السلاح، و يجب أن نفهم لماذا هتلر مع أنه لم يكن مسلماً؟ هتلر زعيم غربي بنى دولته وفق النهج الذي سارت عليه معظم بلاد الغرب و بنفس الأفكار التي صارت مسلماتهم، و لكنه جاء بعد ذلك ليزاحم الكبار المستقرين قبله على موارد العالم التي اقتسموها بينهم، و طبق عليهم نفس العنف الذي طبقوه على بقية العالم و هم يتمددون فيه و ينهبونه، و لهذا حاربوه و قضوا عليه، القضية كلها تنافس على القسمة، و عندما ندافع عن بلادنا و مواردنا نكون بالنسبة إليهم في موقع هتلر، و إلقاء الملامة علينا هو جزء من لوم الضحية، فلا تعطوا لهم قيمة أكثر مما ينبغي و كأنهم مصدر تصنيف الدرجات في العالم، ابحثوا عن قيمتكم في أنفسكم و ما تملكونه و ليس مما يوافق عليه غرماؤكم و أعداؤكم.
7-مصير طلب الاعتراف الغربي
ظلت القيادة الفلسطينية تبحث عن الاعتراف و القبول من عدوها حتى استدرجها إلى الفخ و حوّلها إلى حارس لأمنه و احتلاله على حساب شعبها و حقوقه، هذا هو مصير أي محاولة للحصول على القبول و الاعتراف، لقد ظن الكثيرون أن مصافحة عرفات و رابين في البيت الأبيض ستنهي عداوة قرن، و لكن هذا لم يحدث و تجددت العداوة بأشد مما كانت عليه رغم استسلام الضعيف، و لم يتنازل الكيان الصهيوني للشرعية الدولية المزعومة عن أراضي سنة 1967 حتى بعد الاعترافات من أعلى قياداته أنه هو الذي شن الهجوم على العرب دون وجود تهديد حقيقي ضده؟ و أمريكا لن تتنازل لإفريقيا، و فرنسا لن تتنازل للجزائر، و بريطانيا لن تتنازل لفلسطين، هل ستتراجع عن وعد بلفور؟ هل ستفكك ما ترتب عليه أم نريد مجرد كلام فارغ؟ هم يدركون أكثر من بساطة تفكيرنا قيمة التنازل الرسمي و لو بمجرد كلمات.
8-ما هو الاعتذار المطلوب: مجرد كلام أم إعادة حقوق؟
فإذا لم يكن هناك نتيجة عملية فعلام هذه الاستماتة في طلب الاعتذار أو حتى الاعتراف؟ إن أقصى ما سنحصل عليه هو دموع المثقفين كما قال عاموس عوز، سيكتبون عن المظالم التي لحقت بكل بلادنا، و عن مزايا الحضارة الإسلامية، و أخلاقيات الخلافة العثمانية، و مظالم الاستعمار الاستيطاني في الجزائر، و مجتمع فلسطين المتطور قبل النكبة، و التقدم العراقي قبل الغزو الأمريكي، و عن كذبة أسلحة الدمار الشامل، و عن معضلة حرب فيتنام و ما الذي يمكن تبريره أمام الأجيال، كل ذلك سنراه و نقرأه، و سنرى تنافس المستعمِرين في كشف بعضهم بعضاً، فالبريطاني يكشف الفرنسي، و الفرنسي يفضح الأمريكي، و الأمريكي ينشر غسيل البلجيكي، و كلهم يعرون الألماني، فيما ستكون الحرب مستمرة علينا و العدوان قائم ضدنا، و المثقفون يسبحون في خيال المثاليات غير الواقعية بين سحب مؤلفاتهم و اكتشافاتهم و أحلامهم.
9-لوم الضحية و طلب الاعتذار منها
ليس هذا فقط، بل تأتي الدعاية السياسية و البروباغندا لتقوم بهجوم مضاد: تطالبون الغرب بالاعتذار؟ بل عليكم أنتم المسلمون أن تعتذروا عن الفتوحات، و عن إبادة الأرمن، بل “إبادة” هنود آسيا، مقابل إبادة هنود أمريكا، و يفتح المزاد و يصل إلى بني قريظة و خيبر، و لكن من سيفتح كتب المثقفين الموثقين ليعلم ماذا أنجزت الفتوحات الإسلامية و كيف تمسكت الشعوب التي دخلها الإسلام به حتى بعد زوال دوله و جيوشه؟ يعني ليس هناك جريمة أصلاً في نظر “الضحايا” المزعومين لنعتذر عنها، و من سيدقق في تقارير السفراء و المبعوثين و المحققين الأجانب عن الأدوار الغربية في إثارة الفتن القومية داخل المجتمع الإسلامي؟ و من سيلاحظ أن الإبادة الإسلامية المزعومة في الهند جعلتها أكثر الدول كثافة سكانية في العالم خلافاً لوضع هنود أمريكا الذين زالوا من الوجود؟ و من الذي سيفتح المراجع عن مكانة اليهود و ازدهارهم طوال زمن الحضارة الإسلامية ازدهاراً جعل المتطرفين القوميين يتهمون الإسلام بتسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين؟ ثم من الذي يطالب منغوليا اليوم مثلاً بالاعتذار عن الغزو المغولي للعالم ليطالَب المسلمون بالاعتذار عن فتوحات العصور الوسطى؟
10-هل ستسفر الثورة الأخلاقية الحالية عن تبدل واقع الفوقية الغربية؟
أدت ملحمة غزة الأسطورية إلى تبدل في وعي الأجيال الصاعدة في الغرب، فشعرت بمدى الغفلة التي هيمنت على أذهانها نتيجة الدعايات السياسية الصهيونية، و صارت تطالب بمطالب لم تكن متصورة في الغرب إلى وقت قريب، مثل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، و التخلص من الصهيونية، و القبول بأحكام الإسلام الذي كان تجسيداً للإرهاب في عقول الرأي العام، فهل يمكن التعويل على هذا الانقلاب في تحسين الأوضاع في العالم الذي يمسك الغرب بزمامه عندما تصل هذه الأجيال إلى مواقع اتخاذ القرارات في المستقبل؟
لعله من المبكر توقع هذه الآمال العريضة، فقد شهد الغرب في الماضي ثورات أخلاقية تم استيعابها ضمن النظام السائد فلم تسفر عن نتائج خارج رغبات الأنظمة، ففي زمن الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) تعبأ الشمال الأمريكي معنوياً ضد العبودية في الجنوب لاسيما بعد نشر رواية كوخ العم توم التي صورت معاناة العبيد الأفارقة، و دخلت الولايات المتحدة في أقسى حرب عرفها تاريخها بما فيها الحروب الدولية و الحربين العالميتين، و أسفرت الحرب عن هزيمة النخبة الزراعية الجنوبية بإلغاء مصدر رزقها و نفوذها و هو الرق، و تمكين النخبة الصناعية الشمالية من السيطرة على كامل الدولة، و لم تؤد هذه الثورة الأخلاقية الداعمة لحرية العبيد نفس الدعم لحرية السكان الأصليين رغم أحلام المثاليين و رواية “رامونا” التي رغبت مؤلفتها أن تحدث أثراً إيجابياً للهنود الحمر مثل أثر رواية كوخ العم توم، بل قام نفس الجيش الذي أعلن و دعم حرية الرقيق بالهجوم على السكان الأصليين و سلب حرياتهم و ممتلكاتهم و كل وجودهم في الحروب الهندية التي امتدت منذ نفس زمن الحرب الأهلية في عهد “المحرر العظيم” لنكولن و لمدة ثلاثين عاماً قادمة تم سحق الهنود الحمر فيها سحقاً تاماً، مما يكذب الادعاءات الأخلاقية لتحرير العبيد الذين هم أنفسهم لم يحصلوا على الرخاء بعد الحرب بعدما تم استخدام حريتهم لتحطيم أسيادهم الجنوبيين، و بدأ في أمريكا زمن التفرقة العنصرية الذي امتد رسمياً قرناً آخر و لم يزل إلا من الورق.
كما سبق لجيل الستينيات من القرن العشرين، بعد قرن من الثورة الأخلاقية المتعلقة بالعبيد، أن ثار ثورة عارمة في الغرب ضد حرب فيتنام، حتى انتشر الحديث عن “رياح التغيير الجديدة”، و تكلم المتفائلون عن انتهاء حرب فيتنام نتيجة هذه الدوافع الأخلاقية السامية، و لكن النظام الأمريكي استوعب تلك الثورة في إطاره حتى انتهت الحرب في منتصف السبعينيات وفق قوانين الاعتراف التي تحدثنا عنها، فقد جاء التراجع نتيجة هزيمة أمريكية أمام دعم الصين و الاتحاد السوفييتي لفيتنام، و لم تجن السياسة الأمريكية أي عبرة من الحرب، و استمرت حروبها و تدخلاتها الدموية في العالم، بل صارت عقدة فيتنام دافعاً لمزيد من الإجرام لمحو عارها بدلاً من الاعتبار بأخطائها، و مازالت السياسة الأمريكية ترفض مراجعة هذا الملف و الاعتذار عنه، لأن الاعتذار الحقيقي مكلف و ليس مجرد كلام دبلوماسي فارغ، و هي تفضل اتباع سياسة اقتصادية على اتباع سياسة أخلاقية بعد فشل السياسة العسكرية لمواجهة النفوذ الصيني في فيتنام.
و كما تم سحق المجتمعات الهندية وسط الثورة “الأخلاقية” التي أنهت الرق في الولايات المتحدة، وقعت نكسة بلادنا و سحق المحاولة النهضوية المصرية فيها سنة 1967 في غمرة الثورة “الأخلاقية” التي يقال إنها أنهت حرب فيتنام، و من حضر المد الإعلامي الصهيوني و التأييد الجارف الذي حصل عليه الصهاينة في تلك الحرب، يعرف أننا كنا في أبعد مكان عن تلك الأخلاق الحميدة التي أنهت حرب فيتنام، و صور الدكتور ميخائيل سليمان المشهد بقوله إنه من نتائج دراسات المؤرخين لحوادث صيف 1967 أن أضخم ما أنجزه الكيان الصهيوني في هذه الحرب لم يكن الانتصار العسكري بل النجاح في إيصال وجهة نظره إلى الرأي العام، و أن هزيمة العرب الكبرى لم تكن في أرض المعركة بل في عقول الناس، و أن الحملة الإعلامية تطرفت مع اندلاع الحرب مقارنة بما قبلها (صورة العرب في عقول الأمريكيين، ص 49، 53)، و لهذا فإن علينا التريث قبل تعليق الآمال الكبيرة على ثورة الأجيال الصاعدة، فالسوابق تخبرنا بقدرة النظام الرأسمالي على امتصاص نقمة المعارضة و توجيهها في مسارات آمنة، تماماً كما أدت ملحمة الصمود في بيروت (1982) و نقمة انتفاضة الحجارة (1987) إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني (1988) و اتفاق أوسلو الكارثي (1993)، و لم يحصل الضحايا إلا على شرف خدمة الاحتلال.
۞استنتاج: هل يمكن فعلاً تصحيح الأخطاء البشرية ما لم تنسب إلى السماء؟
روجت دعاية التغريب لزمن طويل أن الفرق بين المعتقد الديني و الرأي البشري هو إمكان تصحيح الرأي البشري لأنه ليس معصوماً في حين لا يمكن زحزحة المعتقد الديني الذي ينسب نفسه إلى السماء رغم أنه في النهاية معتقد بشري، فالمعتقد الديني في نظرهم مرادف للتعصب في حين أن الرأي البشري سهل في التعاطي و يمكنه الأخذ و الرد.
المشكلة أن هذا الوصف نظري بحت و لا علاقة له بالواقع السياسي على وجه الخصوص و هو المجال الأكثر تأثيراً في واقع بلادنا، و لا نجد هذه الرحابة إلا في دوائر النقاش السفسطائية المنفصلة عن الواقع: أين موقع عظمة الديناصور؟ و ماذا تعني هذه البردية الفرعونية؟ و ما هي المواطن الأصلية لشعوب البحر التي غزت ساحل الشام في القرن الثاني عشر قبل الميلاد؟ و هكذا….
أما في مجال علاقاتنا السياسية و الاقتصادية و حتى الاجتماعية بالغرب فلم نر إلا الأحكام الحادة في شدتها و العنيفة في تنفيذها، و يمكن مراجعة يوميات أي قضية من قضايا بلادنا التي صار فيها خلاف مع الغرب، للبحث أين كانت نسبية الحقيقة؟ و أين هو موقع قبول الآخر؟ و تعددية الآراء؟ و التعايش؟ و أين كان هدف السلام؟ لو تصفحنا سجل النكبة الفلسطينية و يومياتها، أين سنجد كل ما سبق من شعارات؟ و نفس التساؤل عن سجل العدوان الثلاثي، و نفسه عن سجل النكسة، و سجل غزو لبنان، و حرب الخليج الثانية و الثالثة، و العدوان المستمر على غزة، أين كانت كل هذه الشعارات الغربية الجميلة؟
أين طبقت فرنسا شعارات ثورتها في عملية احتلال الجزائر؟ أين شاهد الجزائري الحرية إلا في حرية الجيش الفرنسي قي القتل و التدمير و الحرق؟ و أين عاش الإخاء إلا و هو يرى تضامن المستوطنين الأغراب في سلب حقوقه؟ و هل طبقت عليه المساواة و هو محروم من المواطنة التي يتمتع بها المستوطن الغريب و يحرم منها ابن البلد الأصيل؟ أين كانت الشعارات التي أبهرت أجيالنا و هو يتعرض لفظائع الاستعمار من القتل و الطرد و الاعتقال و التعذيب و حرق المحاصيل و مصادرة الأملاك؟ متى كانت حياته سلماً في ظل الاحتلال الذي أباد الملايين؟
و هل فكر الغرب بالتعايش و هو يقر طرد شعب فلسطين من وطنه؟ و هل طبق قبول الآخر و هو يمنع الفلسطينيين من العودة لعشرات السنين إلى هذا اليوم؟ و هل قبل الصهاينة بنسبية “حقيقتهم” و زعيمهم بن غوريون يقر بعد الدراسة و البحث أن شعب فلسطين أقرب دماً إلى بني إسرائيل القدماء من صهاينة القرن العشرين الذين وفدوا من روسيا و شرق أوروبا؟ و ما هي قيمة إعلان حقوق الإنسان الذي صدر في الأمم المتحدة وسط معمعة نكبة فلسطين بلا أي أثر عملي؟
و أين كانت نسبية الحقيقة الأمريكية و هي ترفض كل حقائق الآخرين بمن فيهم حلفاؤها و مبادراتهم لحل أزمة الخليج سلمياً وتجنب الحرب التي مازالت تشتعل في بلادنا منذ أكثر من ثلاثين عاماً؟ أين كان قبول الرأي الآخر و هي تسد كل احتمالات الحلول السلمية التي يطرحها الوسطاء الدوليون بمن فيهم دول كبرى و تبدو في الأفق؟ و أين كان الرقي و التحضر و السلام و هي ترفض بكل عنجهية إلا فرض الاستسلام المذل و حتى بعدما تحقق لها ذلك ظلت تقصف جيشاً منسحباً ترك لها الجمل بما حمل، لمجرد أن يسجل التاريخ أن الحملة البرية الهمجية استغرقت رقماً ذهبياً (100 ساعة) كما جاء في مذكرات القيادات العسكرية الأمريكية مثل شوارتزكوف و كولن باول، مهما تكلف ذلك من سفك الدماء؟ و أين كان احترام الرأي الآخر و هي تزود الكيان الصهيوني بكل ترسانة أسلحتها لقصف مدينة ضعيفة و تقتل عشرات الآلاف من أهاليها و كل ذنبهم أنهم يعيشون في بؤس منذ ثلاثة أرباع القرن؟
فمتى رضي الغرب أن يسمع وجهة نظر أخرى و يأخذها في الحسبان؟ و متى لم يكن تدخله عنيفاً و دموياً لفرض وجهات نظره دون سماع آراء الآخرين؟ و هل تنازل مرة عن مصلحة و لو كانت ضئيلة لو كانت نسبية حقيقته تبين أن هناك وجهة نظر أخرى تستحق النظر؟ و هل منح مرة و بشكل طوعي أي التفاتة لآراء أو مصالح تخالفه؟ و هل أظهر كل تاريخه الإبادي و الاستعبادي و الاستعماري و التجاري العنيف و الدموي أي تقدير لوجهات نظر الضحايا؟ و هل هذه هي مرونة الفكر البشري في مقابل التعصب الديني؟ الواقع أن أغلب ما يمكننا الحصول عليه هو اعترافات جوفاء تملأ المكتبات بالمؤلفات و الكتابات و الأشعار و الدموع و لا ترقى حتى إلى اعتذارات مكلفة لمن يقدمها، هذه هي ثمار العقل البشري الذي ادعى المرونة و السلاسة.
بحث رائع و مجهود كبير
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا يا رب العالمين