كانت العرب إذا غزَتْ، أو سافرتْ، حملتْ معها من تربة بلدها رملاً و عفرًا تستنشقه (الجاحظ)
الوطن كلمة لها جَرْس خاص في الآذان، و قبضة في القلوب و قشعريرة في الأبدان. هذه الكلمة كثيراً ما تغنَّى بها الشعراء و تفنَّن في ذكرها الأدباء و أصابت باللوعة و الأسى الغرباء.
الوطن هواء و سماء، عُشب و ماء، تراب و طين، ذكريات و حنين، ضحكات و آهات، أهل و أحباب، أبناء و أحفاد، أفراح و أتراح، عَبَرَات و ابتسامات.
إن الوطن عبارة عن مزيج من كل شيء، يسْري في العروق، فإذا حُرِم منه الإنسان سار كالطفل الذي حُرم من حنان أمه فلا يجف له دمع و لا يهدأ له حال حتى يجتمع الشمل و تلتقي النظرات و تنسكب العبرات و الزفرات فرحاً بذلك.
قال الغزالي رحمه الله: “و البشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، و لو كانت قفرًا مُستوحَشًا، و حبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، و يحنُّ إليه إذا غاب عنه، و يدافع عنه إذا هُوجِم، و يَغضب له إذا انتقص”.
و قال الحافظ الذهبي رحمه الله مُعدِّدًا بعضًا من محبوبات النبيِّ ﷺ: “و كان يحبُّ عائشة، و يحبُّ أَبَاهَا، و يحبُّ أسامةَ، و يحبُّ سبطَيْه، و يحبُّ الحلواء و العسل، و يحبُّ جبل أُحُد، و يحبُّ وطنَه، و يحبُّ الأنصار” اهـ.
أولاً: قالوا عن الوطن
1- قال إبراهيم بن أدهم: “ما قاسيتُ فيما تركتُ شيئًا أشد عليَّ من مفارقة الأوطان”.
2- وقال ابن المبارك: “إنَّ من أقام في مدينة أربع سنين، فهو من أهلها”.
3- و قال الرافعي القزويني: “و لولا نزوع النَّفس، إلى مسقط الرَّأس، و دائرة الميلاد، لم ينـزل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: من الآية 85].
4- و قال الأصمعيُّ: “قالت حكماء الهند: ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل تحن إلى أوطانها، و إنْ كان عهدُها بعيدًا، و الطيرُ إلى وَكْرِه، و إن كان موضعُه مُجدبًا، و الإنسانُ إلى وطنه، و إن كان غيرُه أكثرَ له نفعًا”اهـ.
و قال أيضًا: “سمعتُ أعرابيًا يقول: إذا أردت أن تعرف الرجلَ؛ فانظر كيف تحنُّنه إلى أوطانه، و تشوُّقه إلى إخوانه، و بكاؤُه إلى ما مضى من زمانه” اهـ.
ثانياً: الإبعاد عن الوطن من أشد العقوبات على النفس
لقد ضرب النَّبي ﷺ أروعَ الأمثله في الانتماء للوطن و حب الأهل و العشيرة، و لم يتبادر إلى ذهن النَّبي ﷺ يوماً أنه سيُجبَر على مفارقة هذا الوطن.
عندما قال ورقة بن نوفل للنبي ﷺ: “لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ” (رواه البخاري).
قال السفيري رحمه الله: “قوله ﷺ: (أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟!): استفهام إنكاري على وجه التفجُّع و التألُّم؛ كأنه استبعد ﷺ أن يُخرجوه مِن حَرَم الله و جوار بيته، و بلدةِ أبيه إسماعيل من غير سبَب؛ فإنه ﷺ لم يكن منه فيما مضى و لا فيما سيأتي سببٌ يَقتضي إخراجًا، بل كانت منه المحاسن الظاهرات، و الكرامات المقتضية لإكرامه و إنزاله بأعلى الدرجات” اهـ.
لذلك كان من دعاء النبي ﷺ بعد أن هاجر للمدينة: “اللهمَّ حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد” (صحيح البخاري).
و لأن الإبعاد عن الوطن من أشد العقوبات على النفس، نجد أن قوم لوط عليه السلام قد هددوه بقولهم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167].
و هذا فرعون اللعين يُحَرِّض قومه ضد نبي الله موسى عليه السلام زاعماً أن موسى عليه السلام ما جاء إلا ليُخرجهم من أرضهم و يحرمهم من وطنهم، فـ: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {34} يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 34-35].
من هنا كان إجلاء اليهود عن المدينة أقسى عقاب لهم على ما اقترفوه من إيذاء للمسلمين.
قال تعالى: {وَ لَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر:3].
ثالثاً: دعوها فإنها منتنة
عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “مَن قُتِلَ تَحْتَ رايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً، فقِتْلَةٌ جاهِلِيَّةٌ” (صحيح مسلم).
من هنا نعلم أنه إذا وجدت العصبية و خِيف على الهوية الإسلامية فإن الإسلام في هذه الحالة لا يَعترف بالحدود الجغرافيَّة، و لا يعتبر الفوارق التي تقوم على الأعراق و الجنسيات، و يعتبر المسلمين جميعًا أمَّة واحدة، و يعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدَتْ أقطاره، و تناءت حدوده.
إن البعد عن العصبية هو الذي صهر صُهيب الرومي و بلال الحبشي و سلمان الفارسي في نفس البوتقة التي فيها أبو بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم أجمعين، و هو الذي أخرج أمة قوَّضت عروشاً و ممالك ظنت أنها تستعصي على الفناء.
إذا وجدت العصبية و خِيف على الهوية الإسلامية فإن الإسلام في هذه الحالة لا يَعترف بالحدود الجغرافيَّة، و لا يعتبر الفوارق التي تقوم على الأعراق و الجنسيات، و يعتبر المسلمين جميعًا أمَّة واحدة، و يعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدَتْ أقطاره، و تناءت حدوده
رابعاً: المفهوم الصحيح لمعنى الوطن
إن النبي ﷺ قد مكث ثلاثة عشر عامًا في مكة يدعو أهلها إلى الإسلام، فلم يؤمن معه إلا قلة قليلة من المُستضعفين، و نزر يسير من أصحاب القوة و النفوذ.
و لما عانى المسلمون ويلات الاضطهاد و التنكيل و القتل من أهل مكة كان الحل هو الهجرة.
هاجر النبي ﷺ مُكرهاً من وطنه الذي كذبه و آذاه، و ارتحل هو و من معه إلى المدينة المنورة، حيث رحَّب أهلها به و بدعوته، و أكرموه ﷺ و أصحابه أيَّما كرم، و آثروهم على أنفسهم أيَّما إيثار.
عن عبدالله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه أنَّهُ قال: “رأيتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ واقفًا على الحَزْوَرة فقالَ: و اللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، و أحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، و لولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ” (رواه الترمذي). * الحَزْوَرةُ: مُرتفِعٌ يُقابِلُ المَسعَى مِن جِهَةِ المشرِقِ، كان سُوقًاً مِن أسواقِ مكَّةَ.
بعد أن مرَّت ثمانية أعوام من الدعوة و الجهاد في المدينة، و بعد أن أصبح للإسلام دولة واضحة المعالم و مُهابة الجانب، قرَّر النبي ﷺ أن يعود إلى مكة فاتحًا، و أمام قوة المسلمين حينئذ خضعت قريش كلها خضوعاً خضد شوكتها و أزال هيبتها و قطع دابر مُجرميها و أصبحت الكلمة الأولى في مكة للإسلام و المسلمين، لهذا كان فتح مكة فتحاً مُبيناً.
لقد كان بإمكان النبي ﷺ أن يظل في مكة مُستمتعاً بنشوة النصر و التمكين، و مُستعيداً لذكريات الطفولة و الشباب و الأهل و الأصحاب، و لكنه ﷺ آثر العودة إلى المدينة المنورة، وطنه الحقيقي الذي آواه و صدَّقه و آمن به و أكرمه، ليعيش فيها البقية الباقية من حياته، و يموت و يُدفن بها.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “اللَّهُمَّ اجْعَلْ بالمَدِينَةِ ضِعْفَيْ ما جَعَلْتَ بمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ” (صحيح البخاري).
هكذا عبَّر النبي ﷺ عن مدى حبِّه للوطن، و علَّمنا كيف يكون الانتماء بمفهومه الشامل و الصحيح؛ فلا إفراط في حب الوطن يصِل لدرجة الغلو و التقديس، و لا تفريط يصِل لدرجة الاستهانة و الانتقاص.
من هنا نفهم أن وطن الإنسان ليس هو مكان نشأته، و لا هو الحدود التي عاش بداخلها، إنما الوطن الحقيقي هو المكان الذي يعيش الإنسان فيه مُستمتعاً بالحرية و بكافة حقوقه كإنسان كرَّمه الله تعالى .
إن الوطن ليس مُجرد جمادات صمَّاء، و لكن الوطن في المقام الأول هو المكان الذي يشعر فيه الفرد بكيانه، و بدون ذلك يُصبح الوطن سِجناً كبيراً مهما اتسعت رقعته و ترامت حدوده و كثرت خيراته.
إن الإنسان إذا حُرم المؤهلات التي تحفظ هويَّته و تشعره بكيانه و آدميته و إنسانيته أصبح لزاماً عليه أن يبحث عن وطن حقيقي يُهاجر إليه، و أصبحت الهجرة إلى الوطن الذي يحفظ عقيدته و كرامته فريضة شرعية و ضرورة بشرية و غاية مشروعة و هدفاً نبيلاً و حقاً أصيلاً.
قال تعالى: {وَ جَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ {20} فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {21}} [القصص: 20-21].
وقال تعالى: {.. الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَ اجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النساء: من الآية 75].
قال أبو تمَّام الطائي (أبرز شعراء العصر العباسي)
بالشَّام أهلي وبغداد الهوى وأنا *** بــالــرقمتــين وبـالفسطـاط جـيرانـي
فأينمـــا ذُكــر اســمُ اللهِ فـي بلـدٍ *** عددتُ ذاك الحِمى مِن صُلبِ أوطاني
أخيراً أقول: إنّ كلمة الوطنية لا يمكن أن ننظر إليها بعين الاتّهامِ بل يجب أن ننظر إليها بعين الاعتدال، و مراعاةِ ماذا يراد بها، و إلى ماذا تؤول الأمور عند ذكرها و استعمالها.
إنَّ حبَّ الوطن ليس معناه السَّير في قطيع، و اعتناق مباديء القطيع، و التحدُّث بلسانه، و اقتفاء أثر الآباء و الأجداد دون إعمال للعقل.
إنَّ حبَّ الوطن ليس معناه السَّير في قطيع، و اعتناق مباديء القطيع، و التحدُّث بلسانه، و اقتفاء أثر الآباء و الأجداد دون إعمال للعقل
إنَّ حب الوطن يعني غَرس و اقتلاع، و ليس مجرد اتباع أعمى.
إنَّ حب الوطن يعني غرس كل ما هو في مصلحة أفراد الوطن و أجيال الوطن المتلاحقة، و تراب الوطن، و الحفاظ عليه، و الدِّفاع عن حياضه مهما كانت التضحيات، و توريث ذلك للأجيال.
و غرس قيَم المواطنة الصحيحة البنَّاءة، التي لا تصطدم مع الدين و لا مع الموروثات الصحيحة.
و حبَّ الوطن يعني اقتلاع كل ما من شأنه إحداثُ ضرر بأفراد الوطن و أجيال الوطن، أو بتراب الوطن، و توريث ذلك للأجيال.
و اقتلاع كل ما من شأنه إلحاق الضَّرر العاجل أو الآجل، بالوطن أو بأفراده و معتقداتهم.
اللهمَّ احفظ أوطاننا من شرِّ الأشرار، و كيد الفجَّار، و شرِّ طوارق الليل و النهار.