عمل الإنسان و خلق الله
كما لابد من أسبقية التغيير الذي يحدثه القوم . ألا أن بين هذين التغييرين ترابطاً، فإذا وقع التغيير الذي يخلقه الله، دلَّ ذلك قطعاً على أن التغيير الذي يقوم به القوم، قد سبق أن حدث، لأن الله تعالى اشترط هذه الأسبقية.
كما أنه إذا تحقق التغيير الذي يقوم به القوم، فإن التغيير الذي يخلقه الله سيتم على أساس وعد الله تعالى الذي لا يخلف الميعاد و سنته التي لن تجد لها تحويلا.
و لكن علينا أن ننتبه إلى أن هذا التعهد إنما هو في مجال القوم – أي الجماعة أو المجتمع – لا في مجال الفرد، و في مجال الدنيا لا في مجال الآخرة. كما أنه لا يلزم أن يحدث التغيير للفرد الواحد إن غير ما بنفسه، و إن كان يمكن أن يحدث ذلك في بعض الأمور الخاصة مثل السلوك الفردي، و على كلٍ فإن هذا الوعد أو هذه السنة في هذه الآية سنَّة اجتماعية، لا سنَّة فردية.
و على هذا الأساس، فكل تغيير يحدث لما بالقوم سواء في الوعي، و الصحة، و الاقتصاد و السياسة و النصر و العزة، و سائر صنوف النعم و النقم، يتضمن هذا التغيير، تغييرين : تغيير القوم، و تغيير الله.
و بعد بيان هذا التلازم بين التغييرين، في أن حدوث أحدهما يلزم حدوث الآخر كنتيجة حتمية، لأن الله هو الذي خلق هذه النتائج من تلك الأعمال، و أن حدوث هذه النتائج فورية، كسنن الطبيعة التي أودعها الله في الكون المادي. فالإنسان هو الذي يفعل الأسباب بتمكين من الله تعالى له :
« و لقد مَكنَّاكُم في الأرض » الأعراف – 10 – .
و الله تعالى هو الذي يخلق النتائج، لأن الإنسان لا قدرة له على خلق النتائج، و إنما مجال الإنسان يتمركز في الاستفادة من السنن الموضوعة.
و يمكن أن نفهم هذا الموضوع بوضوح في قوله تعالى :
« أفرأيتم ما تُمْنُوْنَ أَأَنْتُم تخلقونه أم نحن الخالقون ؟ .. أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أن نحن الزارعون ؟ » الواقعة – 64 .
هنا أثبت الله للإنسان عملاً، و أثبت لذاته خلقاً، و لكن هذا لا يتم إلا إذا عمل الإنسان ما يخصه من العمل مهما كان تافهاً.
« أفرأيتم ما تُمْنُوْنَ » إن الإنسان يقوم بهذا، و لكن ليس هو الذي يخلق، و لا هو الذي وضع السنن، و الذي يقوم به الإنسان شيء بسيط و لكن الله تعالى يحدث هذه النتيجة – من الخلق العجيب – من ذاك العمل البسيط.
« فتبارك الله أحسن الخالقين » المؤمنون – 14 – .
و هذا مثال مقرب في التمييز بين عمل الإنسان و خلق الله. و كذلك الزرع، فإن الإنسان يغرس و لكن سنة الإنبات، و سنَّة صنع الثمار ليست من قدرة البشر، و إنما يقوم الإنسان هنا أيضاً – كما في كل الأمور التي يقوم بها – بعمل بسيط جداً مثل غرس النبات، و الله بعد ذلك هو الذي يخلق تلك النتائج البديعة. فهذا مثل قرآني قريب واضح لكل واحد من الناس، و يمكن لأبسط إنسان أن يمارسه لأنه يقع تحت ملاحظته. و هذا المثل القرآني يُطمئِنُ قلب المؤمن إلى صدق هذه القاعدة، ذات الأهمية البالغة فيما أنيط بالإنسان من أمانة و مسؤولية في مصيره كمجتمع في الدنيا، و في مصيره كفرد في الآخرة.
طريقة القرآن في ذكر التغييرين أو أحدهما
و بعد هذا نقول : إن ما ورد في القرآن من حديث عن التغيرات الاجتماعية التي تقع للمجتمعات، لا يذكر الله دائماً في كل موضع التغييرين، و إنما شأن القرآن أن يذكر أحياناً التغييرين معاً كما في هذه الآية :
« إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ».
و آيات أخرى كثيرة مبثوثة في القرآن مثل قوله تعالى :
« فبما نَقْضِهم مِيثاقَهم لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسية » المائدة – 13 – . شيء أحدثوه في نفوسهم من الاستخفاف بالميثاق فنتج عن ذلك أن جعل الله قلوبهم قاسية.
و كذلك قوله تعالى :
« فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم » الصف – 5 – .
ففي هذه الآيات جمع الله بين عمل القوم و ما خلق الله فيهم نتيجة ذلك. و لكن قد يرد في القرآن أحياناً ذكر أحد التغييرين دون الآخر، سواء كان المذكور التغيير الذي يخلقه الله، أو التغيير الذي يحدثه القوم، و يفهم من ذلك ضمناً التغييران معاً إذ الترابط بينهما واضح. فمثلاً في قوله تعالى :
« و الله لا يهدي القوم الظالمين » البقرة – 258 – .
في هذه الآية ذُكر التغييران، التغيير الذي يخلقه الله تعالى من عدم الهداية، و التغيير الذي يحدثه القوم من نظراتهم التي تُهوِّن عليهم ارتكاب الظلم ؛ أي أن الله لا يغير ما بقوم من الضلال، حتى يغير القوم ما بهم من الظلم، أو ما بأنفسهم من الظنون و الأفكار التي تسهل عليهم ارتكاب الظلم.
و الذي يريد أن يجعل من هذا القاعدة القرآنية، قاعدة مطردة، عليه أن يستحضر دائماً – و خاصة حين يكون الحديث عن المجتمعات و ما يحدث لها – تَضمن التغييرين في كل موطن يتوهم فيه الاقتصار على أحدهما.
فإذا جاءت آية تقول : إن الله أنعم على قوم، و أعزهم و نصرهم و رزقهم من الطيبات، فمعنى ذلك أن عند هؤلاء الأقوام في أنفسهم ما يوجب ذلك، و كذلك الأمر بالنسبة لما يحيق بالبشر من النقم، و ما ينزل عليهم من المصائب فلا ينزل شيء إلا بإذن الله، و إلا بما كسبت أيدي الناس.
كيف بين هذا ابن كثير في التفسير
و هذا الاستحضار الذي حرصنا عليه، هو نفس ما دعا إليه و فعله ابن كثير في تفسير قوله تعالى :
« ختم الله على قلوبهم، و على سمعهم، و على أبصارهم غشاوة » البقرة – 7 – .
فسرَّ ابنُ كثير الخَتْمَ : بالطبع نقلا عن السُدِّي ثم قال : و قال ابن جرير و قال بعضهم : إنما معنى قوله تعالى : « ختم الله على قلوبهم » إخبار من الله عن تكبرهم و إعراضهم عن الاستماع لما دُعُوا إليه من الحق. كما يقال : إن فلاناً أصم عن هذا الكلام، إذا امتنع عن سماعه و رفع نفسه عن تفهمه تكبراً. و قال ابن جرير : و هذا لا يصح لان الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم و أسماعهم. قلت : – يعني ابن كثير نفسه – و قد أطنب الزمخشري في تقرير ما ردَّه ألن جرير هنا. و تأول الآية من خمسة أوجه و كلها ضعيفةٌ جداً، و ما جرَّأه على ذلك إلا اعتزاله، لأن الختم على قلوبهم و منعها من وصول الحق إليها قبيحٌ عنده، يتعالى الله عنه في اعتقاده. و لو فهم قوله تعالى : « فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم » الصف – 5 – .
« و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، و نذرهم في طغيانهم يعمهون » الأنعام – 110 – .
و ما أشبه ذلك من الآيات الكريمات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم، و حال بينهم و بين الهدى، جزاءً وفاقاً على تماديهم في الباطل و تركهم الحقَّ، و هذا عدلٌ منه تعالى و حَسَنٌ، و ليس بقبيح. فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال، و الله أعلم.
و قال القرطبي : « و أجمعت الأمة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم و الطبع على قلوب الكافرين مجازة لكفرهم … » .
و هذا التحليل الذي رد به ابن كثير على الزمخشري، يُقررُ بوضوح القاعدة التي نريد أن نثبتها هنا، من أن الختم الذي هو من عمل الله، نتيجة طبيعية للزيغ و الكفر، الذي فعله الإنسان بناء على ما بنفسه. و علينا أن نتذكر هذه العلاقة في كل موطن.
و كما أن القرآن أحياناً أخرى يذكر عمل الله و عمل القوم معاً و بوضوح و تفصيل، فهو أحياناً أخرى يقتصر على أحدهما، على أساس أنه يستلزم حدوث الآخر ضمناً، و هذا ما ذكره ابن كثير، حيث أن هذه الآية اقتصرت على ذكر عمل الله في الظاهر. لهذا استشهد بآيات أخر ذُكر فيها العَمَلانِ بالتفصيل.
و من الآيات التي توقع في شبهات كبيرة – و ذلك حين يَغْفُلُ الإنسان المسلم، عن هذه العلاقة بين تغيير الله و تغيير القوم – قوله تعالى :
« قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، و تنزع الملك ممن تشاء، و تعز من تشاء، و تذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير » آل عمران – 26 – .
مشيئة الله و مفهومها و رأي ابن تيمية
ففي هذه الآية لم يذكر الله إلا إيتاء الملك و نزع الملك، و إيتاء العزة و إنزال الذل، و قد ربط هذه الأمور بالمشيئة دون أن يذكر عمل الإنسان. و لكن مشيئة الله ليس لنا أن نحددها نحن، و إنما الله سبحانه و تعالى هو الذي يحدد ذلك فهو يقول :
« و ما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً، يدخل من يشاء في رحمته، و الظالمين أعد لهم عذاباً أليماً » الإنسان – 31 – إنه يدخل من يشاء في رحمته، و لكن الظالمين أعد لهم عذاباً أليماً.
فإذا حاول البعض أن يفسر مشيئة الله كما يريد هو، يُردُّ عليه بأن هذه المشيئة ؛ هي المشيئة التي على أساسها وضع الله سنة الاجتماع البشري في قوله تعالى : « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » و التزام هذه القاعدة، و رد المسلمين إليها، أمرٌ جوهري في عملية التغيير.
كما أن من المفيد أيضاً في هذا الموضوع، تفهم القاعدة التي يقررها ابن تيمية كثيراً، من أن مشيئة الله قسمان :
1- مشيئة كونية.
2- و مشيئة شرعية.
فالمرض مشيئة كونية يمكن للإنسان أن يبطلها لاتخاذ الأسباب.
و الزكاة مشيئة شرعية و لا يجوز مخالفتها أو التحايل عليها.
و من الخطأ البالغ، أن يُظن أن الله يؤتي المُلك لقوم لم يهيئوا أنفسهم لذلك، كما أن العزة و الذلة لا يوزعها الله جُزافاً. و الخطأ في الموضوع منشؤه ؛ ظن أن الله مثل طغاة البشر – حتى ليس مثل عادليهم – يوزع ملكه كما يفعل الظالمون.
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. بل الله أحكم الحاكمين. و إظهارُ هذه الحِكْمة واجب الذين أُخذ منهم الميثاقُ حين آتاهم الكتاب أن يبينوه للناس و لا يكتمونه.
و كما قال ابن كثير عن الزمخشري لو أنه تذكر قوله تعالى : « فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم » الصف – 5 – لما وقع في هذه المشكلة. كذلك المسلمون، الذين يقعون في رؤية مشكلة المشيئة مبتورة، و لو أنهم رجعوا إلى السنن التي وضعها الله تعالى في قوله :
« إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » الرعد – 11 – بشمولها و إحاطتها، لكان عصمةً لهم من الزيغ، في نسبة الفوضى و عدم المعقولية إلى الله، حين يقفون حيارى في تفسير الأحداث. و لا يغرنك منهم تنزيه الله عن النقص، إذ أن الموضوع مشوش في أذهانهم.
و مشيئة الله هي ؛ تمكين الناس من تزكية أنفسهم و تدسيتها، و ليس تمكينهم من أحدهما فقط . و قد يأتي على الإنسان وقت يفقد فيه هذه القدرة، بعد أن يفسدها، فيطبع الله على قلبه، و يعجز عن العودة و الاهتداء، فيحق عليه قوله تعالى : « و من يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا » الكهف – 17 – .
و هذا المعنى هو محتوى خاتمة آية التغيير في قوله تعالى :
« و إذا أراد الله بقوم سُوءاً فلا مَرَدَّ له و ما لهم من دونه من والٍ » الرعد – 11 – .
و هذا واضح في حديث الفتنة التي تعرض على القلوب كالحصير عوداً عوداً. إذ يكون الإنسان في البدء قادراً على التزكية و التدسية، و لكن بعد أن تفسد فطرته، قد يعجز عن أن يملك دائماً تلك الحرية و القدرة على الاختيار التي كان يملكها. و صيرورة هذا الإنسان على هذا الشكل، إنما بسعيه، و ليس لأن الله فرض ذلك عليه ابتداء.
الأفعال وليدة الأفكار
قلنا فيما سبق ؛ إن الله يخلق الصفات في المادة. و نُكَمِّلُ الموضوع الآن، بأن نبين أن الله يخلقُ الأفعال من الأفكار. فالأفكار المشوشة تتولد منها أفعالٌُ هزيلةٌ مبتورة، و يمكن أن نرى مثالاً واقعياً على هذا في واقع المسلمين الذين طال عليهم الأمد.
فمن تمكن من معرفة الخواص التي يخلقها الله تعالى في المواد، يمكنه أن يسيطر عليها. كذلك من تمكن من معرفة الأفعال التي يخلقها الله تعالى مما بالأنفس، يمكن له أن يسيطر على المجتمع. و في الحقيقة تعتبر هذه النقطة من اعظم ما جاء به الأنبياء، و نزلت من اجله الكتب، و أمر من أجله بالاعتبار بسير الماضين، و النظر إلى الأنفس. و ما لم يرجع إلى المسلمين هذا العلمُ، و هذا الفهمُ، فستظل أعمالهم تسيطر عليها الفوضى و التدابر مع القلق و الحيرة.
الرابط : https://www.jawdatsaid.net/index.php?title=%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1_%D9%84%D8%A7_%D8%A8%D8%AF_%D9%85%D9%86_%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D9%86