أكذوبة المراهقة: دعوة لإعادة بناء الثقة في الأجيال
بقلم الأستاذ ماهر باكير دلاش من الأردن الشقيق
إن “المراهقة” كما نعرفها اليوم هي فكرة جديدة نسبياً، تبناها الغرب بشكل أساسي منذ القرن العشرين، و هي تُعتبر مرحلة انتقالية بين الطفولة و النضج. و لكن إذا نظرنا إلى هذه الفكرة من زاوية أعمق، فإننا نجد أن هذه التسمية، رغم ما تحتويه من مفهوم اجتماعي و ثقافي، لا تعدو كونها مجرد اختراع اجتماعي يلائم الوضعيات التي يسعى البعض لوضع الشباب فيها، حيث يُنظر إليهم كأنهم في مرحلة غير قادرة على اتخاذ القرارات المصيرية أو المسؤوليات الكبيرة. لذا، فإن هذه الفكرة تتطلب منا وقفة تأمل، خاصة عندما ننظر إلى النماذج التاريخية التي سطّرها شباب الأمة الإسلامية في مراحل مبكرة من حياتهم.
تُعد المراهقة في المجتمع الغربي بمثابة “عذر” اجتماعي، يُبرر به الطيش و التمرد الذي قد يتسم به الشباب، لكن إذا نظرنا إلى شباب الأمة الإسلامية، نجد أن واقعهم كان مختلفًا تمامًا. شبابنا لم يكونوا في حاجة إلى هذه التسميات أو التبريرات، بل كانوا يتحملون مسؤوليات عظيمة و يحققون إنجازات غير مسبوقة في عمر مبكر، مما يكشف لنا أكذوبة المراهقة كما يُروج لها في الزمن المعاصر.
في تاريخنا الإسلامي، نجد أن هناك العديد من الشخصيات التي بدأت مسيرتها منذ سن مبكر، و أثبتت أن العمر ليس معيارًا للقدرة على القيادة و الإنجاز. عبد الرحمن الناصر، الذي تولى حكم الأندلس في سن 21 عامًا، قام ببناء إمبراطورية علمية و سياسية مزدهرة، جعلت من الأندلس منارة للعالم أجمع. هذا الشاب لم يكن بحاجة إلى مبررات لعدم إنجازه، بل كان قوة دافعة لتطوير مجتمعه، و دليلًا على أن الشباب إذا وُجهوا بشكل صحيح، يمكنهم تغيير مصير أمة كاملة.
أيضًا محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينية في سن 22 عامًا، لا يُعتبر مجرد قائد عسكري، بل يُعد رمزًا للقوة الفكرية و التصميم. فتحه لهذه المدينة كانت لحظة فارقة في تاريخ العالم، و لقد كان في مرحلة يُفترض أن تكون مرحلة المراهقة حسب التصنيفات المعاصرة، لكنه كان يُمثل أمل الأمة و يُجسد صورة الشاب الذي يتمتع بعقلية ناضجة رغم صغر سنه.
إن الشباب في الإسلام لم يكنوا يُنظر إليهم على أنهم “مراهقون” بمفهومنا العصري، بل كانوا يُعتبرون قادة المستقبل و أمل الأمة. أسامة بن زيد، الذي قاد الجيش الإسلامي في سن 18 عامًا، كان يحمل على عاتقه مهمة قيادة أعظم جيوش الأرض حينها، و برهن على أن الشاب، حتى و إن كان في مرحلة مبدئية من حياته، يمكن أن يكون قائدًا حكيمًا و قويًا. كان وجوده في هذا المنصب الكبير شهادة على أن الشباب ليسوا مجرد فئة بحاجة إلى حماية أو تسامح، بل هم قوة فاعلة ينبغي إعطاؤهم الفرص.
النظرة التقليدية للمراهقة في المجتمعات المعاصرة تحصر هذه المرحلة في التصرفات المتهورة أو الاندفاعية، و لكن تلك النظرة تتجاهل حقيقة مهمة و هي أن الشاب في هذه السن، إذا وُجه الوجهة الصحيحة، يمكنه أن يكون قوة هائلة و مؤثرة. فالمراهقة ليست إلا مرحلة من مراحل الحياة التي يمكن تجاوزها بثقة و دراية، بشرط أن يكون هناك من يوجه و يعلم.
المجتمعات الحديثة، في محاولة منها لحماية الشباب من صدمات الحياة و التحديات التي قد يواجهونها، انتهجت أسلوبًا يعتمد على تعريف “المراهقة” كمجرد مرحلة من اللامبالاة و التمرد. و لكن هذا في الحقيقة إضعاف للقدرة الحقيقية للشباب، بل و تحجيم لطاقاتهم الكامنة. هذه النظرة الضيقة تتناقض مع رؤية التاريخ الإسلامي، الذي يرى في الشباب عنصرًا حيويًا ينبغي أن يُستثمر في مراحل مبكرة من العمر.
لنأخذ على سبيل المثال شخصية مثل زيد بن ثابت، الذي كان في سن 13 عامًا فقط عندما أصبح كاتبًا للوحي، و شارك في جمع القرآن الكريم. هذا الشاب أظهر بوضوح أن القدرات العقلية لا تقاس بالعمر، بل بمدى الاستعداد العقلي و الروحي لملاقاة المسؤوليات. في سن 13 عامًا، لم يكن زيد بن ثابت بحاجة إلى الاعتراف به كـ “مراهق” أو “غير ناضج”، بل كان في عين الأمة يُنظر إليه على أنه عنصر مهم في تغيير التاريخ.
أما طلحة بن عبيد الله، الذي كان في سن 16 عامًا عندما بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم على الموت في غزوة أحد، فقد قدّم تضحيات جسيمة تؤكد أن الشباب ليسوا أقل قدرة من غيرهم على أن يكونوا في موقع المسؤولية. كان هذا الشاب الذي قدم روحه فداءً للإيمان، خير مثال على أن “المراهقة” لا تعني غياب الوعي أو النضج. بل على العكس، كان طلحة بن عبيد الله رمزًا للشجاعة و النضج الفكري.
أما الأرقم بن أبي الأرقم، الذي كان في سن 16 عامًا فقط عندما جعل بيته مكانًا للمسلمين الأوائل للقاء بالرسول صلى الله عليه و سلم، فقد أظهر شجاعة نادرة و رؤية بعيدة. و رغم صغر سنه، إلا أن قوته الداخلية كانت أكبر من أي تحديات قد تواجهه.
تاريخنا مليء بالشواهد التي تُثبت أن الشباب، عندما يتم توجيههم بشكل صحيح، هم الأقدر على تحقيق المستحيل. و هذه الحقيقة تبرز الحاجة الماسة لتغيير المفاهيم الحالية حول “المراهقة” و توجيه الجيل الجديد نحو مسارات من النضج المبكر و القدرة على تحمل المسؤولية. إن تربية الشباب على القيم الإسلامية و التمسك بمبادئ الإيمان و العمل الجاد تضمن لهم القدرة على تجاوز أي عقبات، و يكونون قادرين على قيادة الأمة في جميع المجالات.
إذن، لا بد من أن نتبنى في مجتمعاتنا نظرة جديدة للشباب، رؤية تقوم على الثقة في قدراتهم و تنميتها من خلال الإيمان و العمل الجاد. لا يمكننا الاستمرار في تصنيف الشباب كـ “مراهقين” في ظل هذا الكم الكبير من الإمكانات التي يحملونها. بل يجب أن نعتبرهم قادة المستقبل، و أن نقدم لهم الدعم الذي يمكنهم من بناء الأمة و تحقيق الإنجازات التي ترفع من شأنها في العالم.
إن أكذوبة المراهقة هي في حقيقة الأمر تقييد لإمكانات الشباب، و تقييد لطاقاتهم. فلنعمل على تحرير هؤلاء الشباب من هذه الأكذوبة، و لنعمل على زرع الثقة في نفوسهم، ليتحولوا إلى قادة لا يعرفون المستحيل، كما فعل أسلافهم من قبل.