إسلاميات

هذه رسالات القرآن فمن يتلقاها؟

بقلم الأستاذ محمد بعزاوي

للكاتب فريد الأنصاري رحمه الله

 

ولد الكاتب فريد الأنصاري بإقليم الراشدية سنة 1380 ه الموافق 1960م و حصل شهادات علمية عليا (دكتورة الدولة في الدراسات الإسلامية و الماجستير) و تولى مناصب مختلفة مثل رئاسة المجلس العلمي بمكناس و رئاسة شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بمكناس و عضوية في رابطة الأدب الإسلامي العالمية و غيرها من الشهادات و المناصب التي اضطلع بها و كان القرآن الكريم مشروع حياته و يتجلى انشغاله بهذا المشروع في مختلف شعب حياته، و صارت قضاياه قرآنية و مجالسه قرآنية و مصطلحاته قرآنية و برنامجه قرآنيًّا و شعره قرآنيًّا و تصوفه قرآنيًّا) و قد التحق بربه يوم 17  ذو القعدة 1430 هـ5 نوفمبر 2009، بتركيا.

 

و هذه الرسائل التي عنون لها و قدمها مرتبة (في تحديد الوجهة / مجالس القرآن منهج الغرباء/ إنه وحي فتعرضوا له/ حول مفهوم التدبر/ الإخلاص بوصلة الطريق) دونها ما بين 19/ 04/ 2009 و هو تاريخ أول رسالة و15/ 06/ 2009 و هو تاريخ آخر رسالة، ويشتمل الكتاب على 110 صفحة من الحجم الصغير و قد تولى نشره دار السلام للطباعة و النشر و التوزيع والترجمة سنة 2010 م 1431 ه، و رغم حجمه الصغير فإنه سفر نفيس و جوهرة ثمينة مكتوب بأسلوب أدبي ساحر و بلغة راقية تأخذ قارئه نحو المراقي و تلهب مشاعره و تحيي روحه و لا يستغنى عنه. بهذه الخلاصة يكشف الكاتب رحمه الله عن خمسة أخطاء و يشخص مواضع الخلل و مواطن العلل في تعامل المسلم مع القرآن الكريم و يصف لكل داء دواء و لكل علة بلسمًا و ترياقًا، و هو بذلك يجيب عن السؤال المؤلم الذي يحرق قلوب عشاق القرآن: كيف نستفيد من القرآن؟ أو ليس هذا القرآن الذي بين أيدينا هو القرآن نفسه الذي صنع الصحابة و نقلهم من رعاة الغنم إلى رعاة الأمم و أحياهم بعدما كانوا أمواتًا ماذا نصنع حتى نتفاعل مع القرآن كما تفاعل معه جيل الصحابة أو ليس هذا القرآن نفسه هو الذي تخرجت به هذه الأمة؟ و هو سؤال يذكرنا بالتساؤل الذي طرحه كتاب و علماء قديمًا و حديثًا: هل بالإمكان أن يتكرر جيل الصحابة في زماننا؟ و في تقديري أنه بإمكان ذلك ما إن صفت القلوب و ملئت باليقين و قويت العزائم و أخذ الوحي بالقوة لأن الذي صنعهم هو الوحي (كلام الله و كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم) و هو معنا إلى أن ينتهي عمر هذه الحياة و العلماء ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ﴾(الأحزاب:39) يضطلعون بوظائف الرسل عليهم السلام لأن (العلماء ورثة الأنبياء) و هذا من معاني هذا الإرث و مستلزماته مع التفاوت الواضح في ذلك بين العلماء و الأنبياء.

 

لن أراعي في تقديم هذه الرسالات القرآنية الترتيب الذي درج عليه الكاتب و إنما سأقدم ما أخره و أخر ما قدمه في أسلوب مختصر مع إضافات و إيضاحات واضعًا كلامه بين قوسين مشيرًا إلى رقم الصفحة في الهامش للرجوع إليه و أسميت تلك الرسالات الخمس بالمفاتيح إيمانًا مني أن من أخذها بحقها سيفتح له القرآن الكريم بها أعينًا عميًا و آذانًا صمًّا و قلوبًا غلفًا. فتعالوا معنا لتتلقى هذه المفاتيح النورانية من الكاتب رحمه الله بآذان واعية و قلوب يقظة و أرواح خالصة عسى الله أن ينفعنا بكتابه المبين.

 

 

  • المفتاح الأول: الإخلاص بوصلة الطريق

 

و يعرف الإخلاص بعبارات أدبية و إشارات روحية بقوله: (صمام أمان و بوصلة سير و ميزان عمل و ضمان وصول) و قد حذر المسلم من نسيان الإخلاص لله و لو للحظة (و من عاش لحظة من عمره بغير إخلاص يكون قد وضع مصيره على فوهة مدفع شيطان) فالمسلم يخلص النية لله في كل شعب حياته عواطف و مشاعر و أقوالاً و أفعالاً و حركة و سكونًا و يحررها من كل متع الحياة الدنيا و أعراضها و أغراضها و بذلك يصير عبدًا أخرويًّا (و المؤمن عبد أخروي حقًّا).

 

و لقد رسم ملامح المخلصين بريشته الماهرة (المخلصون هم الذين يحضرون في المغارم و يغيبون عند المغانم و لا يتزاحمون باسم العمل الإسلامي على المراتب و الرواتب) و لكن كيف سنحصل يا شيخنا على هذا الدواء لنتذوق حلاوة الإخلاص؟ يجيبنا و يقدم لنا هذه الوصفة: (الإخلاص قرار و مكابدة أو قل عزيمة و مجاهدة و دونك الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(البقرة:218).

 

فالإيمان إذًا لا يعبر عن الولاء الكامل لله إلا بالهجرة المادية و الروحية و هي تنبع من اتخاذ قرار و عزيمة و تعقبها مجاهدة النفس و الشيطان حتى الموت و الفناء). فمن رغب في تذوق حلاوة الإخلاص لا بد من دفع ثمن يتمثل في خطوتين أولاها: اتخاذ قرار نابع من عزيمة تهد الجبال و تفل الحديد قرار طافح برغبة في الالتحاق بقافلة المخلصين و ثانيها: مجاهدة و مكابدة و هي ترجمة عملية و تطبيق سلوكي للقرار السابق و مجاهدة النفس و تربيتها و تزكيتها و تهذيبها عملية و معركة مستمرة مدى الحياة و لم يفته أن يذكر الحركات الإسلامية ــ و هو أحد رموزها ــ بهذا الركن الركين و الأصل الأصيل و يحذرها و ينذرها بنسيانه و الشرود عنه و قد تجرعت هذه الحركات كأسًا دهاقًا من مرارة الانكسارات و الانتكاسات المتتالية و ذهبت مجهوداتها المبذولة طوال أربعين سنة هباءً منثورًا تأخرنا فيها بدل أن نتقدم  بسبب نسيانها لهذا المفتاح، و كلما تساءلنا أين الخلل يبادرنا الشيطان بإلقاء أسباب منطقية كاذبة و من المنطق ما هو كاذب تعمية عن جواب القرآن الواضح إنه الإخلاص لأن هذه الحركات الإسلامية كانت مبهورة بنشوة الشهرة و حب الظهور و اختراع مصطلحات نضالية و كلمات بطولية فأخرجت أجيالاً من المتكلمين مجردين من حقائق القرآن، و سبب وقوعها في هذا الفخ أنه لم يكن بحسبانها اعتراض الشيطان موكب الدعاة إلى الله بينما الحقيقة (أن حصون الدعوة الإسلامية هي أول شيء يقصده الشيطان بالإغارة و أن قوافل الدعاة أول المستهدفين بفتن التشتيت و التفتيت و عواصف التشريد و التبديد).

 

و لنا أن نتساءل: هل غياب الإخلاص هو العامل الوحيد الذي أخر الحركات الإسلامية و شتت صفوفها و شرد أتباعها و جعل تضحياتها الجبارة ضحية و رمادًا اشتدت به الريح في يوم عاصف؟ أم أن هناك معاول أخرى و فقدان الإخلاص أحد معاول الهدم و ليس جميعها؟ طبعًا هو أحدها و ليس وحيدها، و يجب الابتعاد في العمل الدعوي الإسلامي بمختلف مظاهره عن تمجيد الرموز و القيادات التي تتحول في قلوب الأتباع إلى أوثان معنوية خفية و هم لا يشعرون و تجنب المبالغة في مدح الزعماء حتى لا يورثهم الغرور و يزرع في صدورهم بذور العجب و ينسيهم الإخلاص فيسقطون في أوحال الشهرة سكارى و هذا واقع ما له من دافع ترى معظم الأتباع و الأنصار يحولون زعماءهم و روادهم إلى قديسين و أنبياء و رسل. و لم يسلم من هذا الداء إلا ثلة قليلة و يستوي في هذه الجائحة اليساريون و اليمينيون و الوسطيون.

 

و عصارة الباب أن الرياء و الشهرة و السعي وراء المراتب و الرواتب هو الداء و دواؤه الإخلاص و طريق تحصيله عزيمة و مجاهدة و قرار و مكابدة مستمرة مدى الحياة فإذا انتهينا من هذه الخطوة و ظفرنا بهذا المفتاح فلننطلق للبحث عن المفتاح التالي و هو…

 

  • المفتاح الثاني: إنه وحي فتعرضوا له

 

و من عوائق الانتفاع بالقرآن الكريم إقبال الناس عليه (باعتباره مصحفًا ورقيًّا جافًّا لا حياة فيه) و(تعاملنا مع القرآن أشبه ما يكون بسقوط حجر أو نيزك من السماء حاميًا ملتهبًا و انبهر به الناس أول الأمر فما لبث أن برد و بلي و صار ينظر إليه باعتباره حجرًا من الأحجار) متميزًا عن الأحجار الأخرى بقصة سقوطه إلى الأرض فشعور المسلمين بأنه وحي شعور ميت و منطفئ أو خافت و بارد فالمسلمون رغم علمهم و معرفتهم العقلية بأنه وحي و إنما القرآن وحي حي و نور تتدفق أنهاره على مستنقعات الظلام (و ما كان لكلام الله أن يبلى أو يموت لأنه كلام الحي الذي لا يموت و إنما شعورنا به هو الذي يبلى و يموت) و قد استلهم هذه الدلالة من شرحه و تحليله لكلمة (الوحي و هي كلمة لها دلالتان أولاهما: معنى مصدري لفعل وحي يحي وحيًا و هو نزول خفي من السماء و بهذا المعنى المصدري للوحي يصح القول بأن نزول الوحي انقطع بموت النبي صلى الله عليه و سلم و ثانيهما: معنى اسمي وصفي أي أن الوحي اسم و صفة لازمين للقرآن و بهذا المعنى لم ينقطع الوحي بالتحاق محمد صلى الله عليه و سلم إلى الرفيق الأعلى و إنما هو نور حاضر يتدفق في الآيات القرآنية) و قد وصف الله القرآن بالوحي و سماه به في آيات كثيرة ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم:4). ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ (الأنبياء:45). فهو صفة لازمة له و علم دال عليه، و من المعاني القريبة من هذا المقصود الذي يدندن حوله المؤلف محاولاً إلهاب روحنا أنه سبحانه سمى كلامه بالروح في مواضع ثلاثة: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ﴾(النحل:2)، ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ﴾(غافر:15)، ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَ لاَ الإِيمَانُ﴾(الشورى:52). و قد بين جمهور المفسرين المقصود من الروح الواردة في الآيات السابقة بأنه هو القرآن و كفى بذلك دلالة على سره الإحيائي، و حتى الدراسات القرآنية العلمية أغفلت إحياء هذا البعد في قلوب المؤمنين و ذلك باهتماماتها بالبنية الشكلية للقرآن مثل الجوانب اللغوية و البلاغية و الفقهية ــو هي عناية مهمة و مطلوبةــ أكبر من اكتراثها بإحياء هذا المفهوم الذي يرقى بصاحبه في تعامله مع القرآن من مستوى المصحفية إلى مستوى القرآنية و إنما أهم فصل في تعريف القرآن أنه كلام الله، و يبوح المؤلف بسره لأهل القرآن العاشقين المتعطشين لحقائق الكتاب المبين بقوله: (و تلقي القرآن بوصفه وحيًا و كلامًا لله هو المفتاح الأساس لاكتشاف كنوزه الروحية و التخلق بحقائقه الإيمانية العظمى) فالداء إذن هو ضعف الإحساس في قلوبنا أو انطفاؤه و برودته تجاه القرآن بأنه كلام الله مع إدراكنا عقليًّا بأنه كلام الله و غياب الشعور بأن القارئ هو المقصود بكلام الله و الدواء هو الإقبال على القرآن بصفته وحيًا و كلام الله المتصف بكل صفات الكمال و الجمال و الجلال متذكرًا بأن ما يتم قراءته موجه للقارئ أولاً، فإذا انتهينا من هذه الخطوة و حصلنا على هذا المفتاح الثاني فلننطلق للبحث عن المفتاح التالي و هو…

 

  • المفتاح الثالث: تأسيس مجالس القرآن

 

و مما نبه إليه الشيخ للانتفاع بالقرآن الكريم ضرورة تأسيس و إنشاء مجالس لقراءة القرآن داخل الأسرة و خارجها لتلاوة كلام الله و الإنصات إليه كي يطهر القلوب و الأرواح من الأوساخ الفكرية و العاطفية التي انتقلت إليها عبر روافد قددًا كما يطهر الماء الأدران المادية، و قد يبدو هذا العمل قليلاً مقارنة بما تعج به الساحة الإعلامية العالمية من مناهج و برامج مضللة و خطط شيطانية، و لكن القرآن المجيد مع بياناته النبوية هو كل شيء و هو البرنامج و المنهاج بما للكلمتين من معنى، و يستدل الشيخ على هذا الدور الطلائعي للقرآن الكريم بحديث رسول الله صلى الله صلى عليه و سلم: (إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله و طرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا و لن تهلكوا بعده أبدًا)(أخرجه الطبراني وابن حبان).

 

و التأثير السحري لهذه المجالس رهين بصدق أصحابها و إخلاص جلاسها و أي مجلس انعقد لهذا الهدف بصدق و إخلاص لهو حلقة من حلقة الصديقين و مشكاة نور مستمدة من مصباح سيد المرسلين صلى الله عليه و سلم.

 

و هل يشترط في المنخرطين في هذه المجالس و المنتسبين إليها درجة علمية و كفاءة شرعية؟ يجيب الشيخ: (لا يلزم أن يكون الداعية بالقرآن و المنخرط في مدرسته و العاقد لمجالسه و المكابد لتكاليفه من أهل العلم المختصين به) و إنما هو حق ممنوح و مكفول لكل مسلم شريط (أن يكون له رصيد من العربية لفهم خطاب القرآن إجمالاً و لقد كان العرب بداية الأمر أميين لا يكتبون و لا يقرؤون و لا معرفة لهم بمبادئ العلوم ما عدا اللسان العربي) و سهولة فهم المعاني الإجمالية للآيات القرآنية و تيسير إدراكها لهي من صفات و ملامح هذا الكتاب المبين ﴿وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ و هي آية تكررت في سورة القمر 4 مرات، “و تيسيره للذكر يتضمن أنواعًا من التيسير: إحداها: تيسير ألفاظه للحفظ، الثاني: تيسير معانيه للفهم، الثالث: تيسير أوامره و نواهيه للامتثال”. و مع أن التخصص الشرعي غير مشروط في المعتكفين على قراءة القرآن و مدارسته فإن حضور العلماء في الإشراف على مسيرته الدعوية ضرورة شرعية حفاظًا على سلامة سيرها و حماية من شرود بوصلتها و تعليمًا و تزكية لروادها العاشقين للقرآن مطلعين بالأدوار و الوظائف التي أنجزها رسول الله و هو يصنع جيل الصحابة و هي أدوار خلدها كتاب الله في آيات منها: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾(الجمعة:2). و إنما العلماء ورثة الأنبياء كما قال عليه الصلاة و السلام.

 

و للشيخ فريد كتاب فريد في بابه (مجالس القرآن) تحدث فيه عن الضوابط المنهجية لحماية هذا المشروع القرآني من الانحراف و الشرود و أوصلها إلى عشرين ضابطًا (فمن يبادر إلى إنقاذ نفسه مع من وفقه الله إلى إصلاحهم فيعود بهم من متاهات الشرود إلى هدى القرآن القويم و يتحلل من شكوى رسول الله إلى ربه ﴿وَ قَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾(الفرقان:30). فإذا انتهينا من هذه الخطوة و حصلنا على هذا المفتاح فلننطلق للاطلاع على المفتاح التالي و هو…

 

 

  • المفتاح الرابع: قراءة القرآن بتدبر

 

من موانع الانتفاع بالقرآن فكريًّا و روحيًّا و تربية الإعراض عن تدبره و هو أحد مقاصد نزوله يقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(ص:29) و قد انصرفنا عن تدبره رغم هذه الصرخة المدوية الربانية ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(محمد:24)، فالذي لا يتدبر القرآن على قلبه قفل و مادامت أبواب قلوبنا مقفلة و نوافذها مغلقة فأنى تنتفع بالقرآن الكريم؟

 

فما هي إذن أسباب انصرافنا و إعراضنا عن تدبر القرآن؟ يجمل الشيخ هذه الأسباب في عدم إدراك قيمة القرآن، ثم التهيب من عملية التدبر باعتبارها اجتراء على كتاب الله بدون أهلية علمية و هذا التهيب و الإحساس بالذنب ناتج عن التصور الخاطئ و المغشوش لمعنى التدبر و جعله مرادفًا لمعنى التفسير، و قد كنا نتدارس مع بعض الإخوان كتاب: قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله للعلامة عبد الرحمن حبنكة فوجدناه كتابًا في قواعد التفسير و هو كتاب من العمق و الدقة بمكان لكنه لا تدبر فيه بالمعنى القرآني للكلمة.

 

و استعمال الكلمتين (التفسير و التدبر) على سبيل الترادف غير صحيح (لأن التفسير هو كشف و بيان لمعنى الكلمة، أما التدبر فهو النظر في دبر الشيء و التأمل في عواقبه و نتائجه الواقعة أو المتوقعة و هو اتعاظ و اعتبار بمعنى الكلام و هو نوع من محاسبة النفس و تربيتها بتذكيرها بخالقها و ما ينتظرها  و لا يشترط في المتدبر في كتاب الله الإلمام بالعلوم و الفنون الشرعية و الأدبية، لأن التدبر لا ينبني عليه حلال و لا حرام و لا تصدر عنه فتوى و لا قضاء و إنما هو مسلك روحي يقود القلب للتوبة و الإنابة و مجاهدة النفس، و إنما يكفيه فهم معنى الآية أو الكلمة فهمًا عامًّا لأن القرآن كتاب ميسر للجميع ﴿وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾، فإذا علم المسلم معنى كلمة الفلق = الفجر في ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾(الفلق:1) أمكنه التأمل في ولادة اليوم و الصبح إذا تنفس و هي ظاهرة كونية ساحرة، فكل من قرأ القرآن متدبرًا متحققًا بإخلاص و فهم عام لما يقرؤه سيأخذ نصيبه من نور القرآن و ان كان نصيب العالم أكبر حظًّا من غيره (و علم العالم و خبرة المفسر تعطيه فرصة أكبر بكثير لتعميق التدبر و الوصول به إلى أرقى منازل الإيمان) و قد يحصل الأمي المخلص على وجبة قوت أفضل بكثير من العالم المجرد من الإخلاص (و لربما سبق القنفذ الفرس).

 

ويلخص الفرق بين المتدبر و المفسر بقوله: (المفسر عالم و فقيه يقوم ببيان الحقائق القرآنية و الأحكام الشرعية و التصدر للفتوى بينما المتدبر مجرد واعظ و متعظ و قد يجمع الله للمرء بين الخيرين و العالم الحق لا يصلح له إلا ذلك).

 

و قد قدم نماذج كثيرة من أحوال المتدبرين بدءًا من الرسول صلى الله عليه و سلم مرورًا بالصحابة الكرام و ختامًا بأحوال السلف الصالح و قد استغرق بسطها ثمان صفحات، كما تطرق إلى توضيح أوجه الفرق بين ثلاث مصطلحات قرآنية و هي التدبر و التفكر و التذكر (التدبر ينصرف استعماله غالبًا إلى تأمل القرآن بينما التفكر ينصرف استعماله إلى تأمل الكون المنظور و إذا تأملت وجدت نتيجتهما واحدة و هي الاتعاظ و الاعتبار و التذكر) و بما أن عملية التدبر ليست حكرًا على المفسرين و ذوي الخبرة شرعية كما تقدم بيانه فإن عملية التفكر في الكون ليس عملاً عقليًّا معقدًا خاصًّا بعلماء الفيزياء و الكيمياء و الفلك، وإن كان العلماء أولى به.

 

و إجمالاً لهذه الرسالة نحدد بواعث إعراضنا عن تدبر القرآن في عدم معرفة قيمة القرآن و اختلاط مفهوم التفسير بمفهوم التدبر الذي نشأ عنه خوف و رهب من تدبر آي القرآن و هو من تلبيس إبليس حيث يوسوس للمسلم في صورة وعظ و إرشاد و يقدم نفسه ناصحًا أمينًا و قد انطلت صورة هذا النصب و الاحتيال حتى على أبينا آدم عليه السلام ﴿وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾(الأعراف:21). و دواء هذا المرض هو المبادرة و المسابقة و المسارعة إلى تدبر القرآن مستعينًا بكتب التفسير و اللغة إن دعت الحاجة لذلك مستشعرًا عظمة من يخاطبه مستصحبًا الإخلاص لرب العالمين. فإذا انتهينا من هذه الخطوة و أدركنا هذا السر الدفين في هذا المفتاح وجب علينا ترويض أنفسنا على تدبر القرآن لفتح الأقفال المهيمنة على قلوبنا ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ لتحرير قلوبنا من هذه القيود ثم بعد ذلك سننطلق للبحث عن المفتاح التالي و هو…

 

  • المفتاح الخامس: في تحديد الوجهة

 

من العقبات التي تحول دون الاستفادة من القرآن عدم اتخاذ القرآن مشروع حياة و الاشتغال به بدل الاشتغال حوله و هذه أزمة وقع فيها المسلم المعاصر فردًا و جماعات و مؤسسات، و تتجلى أعراض هذه الأزمة في اشتغالنا حول القرآن و ليس في القرآن فالذي يشتغل حول القرآن إنما يجعله شعارًا ـ من حيث لا يشعرـ بينما هو منشغل في الحقيقة بآرائه الشخصانية أو الجماعية، أما الاشتغال في القرآن و بالقرآن فهو اتخاذه أساس المشروع و منطلقه و منتهاه تلاوة و تعلمًا و تعليمًا و تزكية و التحقق بحقائقه و التخلق بأخلاقه. و أخْذُ القرآن بهذه الصورة هو منهاج رسول الله و الصحابة الكرام في استقبالهم لنزول القرآن، و ما كان نزول القرآن منجمًا و مفرقًا إلا خدمة لهذا المقصد التربوي الرباني و قد استغرق نزوله 23 سنة و هي مدة بناء الإنسان في كل أبعاد شخصيته، و لم يكن واحد من الصحابة ينتقل من آية لأخرى حتى يفرغ منها حفظًا و فهمًا و عملاً و هذا وجه من أوجه اختلاف تعامل الصحابة مع القرآن مع تعاملنا و عادتنا السيئة التي لا تتجاوز حناجرنا غالبًا، و اشتغال المؤمنين بالقرآن بالمنهاج ذاته الذي اتبعه الصحابة هو أساس تجديد هذا الدين و استنبات جيل الفتح المبين (و إن ذلك لهو السبيل الأساس لتحرير هذه الأمة من الأهواء و الأعداء).

 

و يذكر المؤلف أن أول من سيخضع لعمليات هذا المنهاج القرآني و جراحاته العميقة هو حامل رسالاته لأن نور القرآن لا يمتد شعاعه إلى الآخرين إلا باشتعال قلب حامل كلماته و توهجه بحقائقه الإيمانية، و لقد رأينا بركة هذا المنهاج و تأثيره الذي يكتسح كل الأسوار و القلاع و الحصار على يد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فكان الله معهم عبر التاريخ، و الاشتغال بالقرآن بهذا المنهاج ليس معناه إلغاء وسائل العمل الإسلامي الاجتهادية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية و ثقافية و إنما يجب أن تخضع لتوجيهات القرآن و أولوياته.

 

و يذكر الكاتب في أسف و حسرة أن أغلب فصائل الحركة الإسلامية في شغل شاغل عن هذا المنهاج و لقد سجلنا في غير ما ورقة و كتاب تشخيصنا لأزمة العمل الإسلامي المعاصر.

 

و تلقي القرآن بهذا المنهاج تلاوة بمنهج التلقي و تزكية للنفوس بمنهج التدبر و تعلمًا و تعليمًا بمنهج التدارس سيستغرق عمر الإنسان كما استغرق حياة الصحابة و النبي قبلهم (و أحق ما توهب له الأعمار كتاب الله). و بهذا نكون قد أتينا على آخر المفاتيح التي قدمها الشيخ و أعدنا صياغتها في حلة مختلفة شكلاً متحدة روحًا و معنى.

 

ختامًا

 

آمل أن يكون مسك الختام و خلاصة لهذه الرسائل الخمس، أنه يلزمنا أن نجاهد أنفسنا على قراءة القرآن بإخلاص، و أن نروض عنفوانها على تدبره مستشعرين أن الله يكلمنا و يقصدنا بخطابه، متخذين مجالسًا لتدارسه و مدارسته داخل أسرنا و معارفنا المقربين، لإنارة قلوبهم عازمين على جعل القرآن مشروع حياتنا من خلاله نبني أنفسنا على مكث مقتفين منهج رسول الله صلى الله عليه و سلم في صناعة الإنسان الصالح و المصلح. و ما أصعبها من وظيفة و ما أعظمها من مهمة و هي يسيرة على من يسَّرها الله عليه و أسأل الله أن ييسرنا لليُسرَى و نعوذ به من أن ييسرنا للعسرى.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى