(function(i,s,o,g,r,a,m){i['GoogleAnalyticsObject']=r;i[r]=i[r]||function(){ (i[r].q=i[r].q||[]).push(arguments)},i[r].l=1*new Date();a=s.createElement(o), m=s.getElementsByTagName(o)[0];a.async=1;a.src=g;m.parentNode.insertBefore(a,m) })(window,document,'script','//www.google-analytics.com/analytics.js','ga'); ga('create', 'UA-60345151-1', 'auto'); ga('send', 'pageview');
Print this page
Sunday, 19 November 2023 08:45

إلى من تكلني؟

Written by  الأستاذة رقية القضاة من الأردن الشقيق
Rate this item
(0 votes)

قريش في طغيانها تتمادى، و الوحي يتنزل بالتثبيت على الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم، و قريش تغلو في عداءها و تعلو في تفرعنها، و أبو جهل و ناديه يتفننون في إيذاء الرسول صلى الله عليه و سلم و المستضعفين من أصحابه، و الأمر الإلهي ماض، أنذر و بشّر، و ثبّت و اثبت، و بادر بالدعوة كل من تلقاه،

فالرسالة حق و المرسل حق و انت على حق و النصر للحق، فماذا يرجوه الباطل بعد؟ أيام و تدول دولته و ينتهي زيفه، فاصبر يا محمد لحكم ربك، و امض فيما اقامك فيه بثقة و اطمئنان.

و قريش ترسل ابي طالب ليفاوض النبي صلى الله عليه و سلم، ليفاضل بين المال و الجاه و السلطان و الملك و النعيم، و ترك ما جاء به من أمر هو في عرف الجاهلية فرقة و استخفاف بعقول الآباء و ديانة الاجداد! مساومة هي في عرفهم عادلة و لكنها في عرف الرسول و الرسالة لا تستحق الوقوف أمامها، ايتها الدنيا الزائلة تألقي ببريقك الزائف، و أشعي بشموسك المخادعة و نادي حتى لا يبقى لديك صوت ينادي، فأنت عند محمد صلى الله عليه و سلم هباء منثورا، و انت في نظره مصيدة مهلكة، و بريقك لا يصل إلى عينيه الشريفتين، و كلمات عمه أبي طالب تلامس سمعه و لا تجد القبول {يا ابن أخي أبق عليّ و على نفسك و لا تحملني من الامر ما لا أطيق} و تنطلق الكلمات الثابتة الرافضة للمساومة تحت أي ظرف و في اية حال، {يا عم، و الله لو وضعو الشمس في يميني و القمر في يساري، على ان أترك هذا الامر حتّى يظهره الله او اهلك فيه، ما تركته} 

الكلمات أمضى من حد سيوف الباطل، واثبت من رواسي مكة، وأعمق وأدق وأصدق ما تكون الكلمات، إنه يدرك ان الموت دون الإسلام أحد الخيارين {النصر أو الموت} ولا خيار ثالث بينهما، و قريش ترى في هذا الرد إهانة و تصغيرا لشأنها و آلهتها الخرقاء و جاهليتها الرعناء، فتصب جام غضبها على محمد و أصحابه و تطال عنجهيتها آل هاشم جميعا مسلمهم و كافرهم و تحاصرهم في شعب بني هاشم رجالا و نساء صغارا و شيوخا مريض و معافى، حمية لأصنامهم و ذودا عن مصالحهم الظالمة و مبادئهم الجائرة، و في جوف الكعبة تعلق وثيقة تقطع فيها الارحام و يقاطع فيها من انحاز إلى النبي صلى الله عليه و سلّم، يضيقون عليهم في طعامهم و شرابهم و معيشتهم في أعلى درجات الضنك والمشقة والإيذاء.

ثلاث سنوات عجاف مرّت على هؤلاء الصابرين، و حملت في طيّاتها للمصطفى صلى الله عليه و سلم، و لأصحابه، من الاحزان و الشدائد ما يوهن الصخر، و يضعف الجبال، و لكنه الإسلام، تهون من أجله الارواح، و تنصب في سبيله الأبدان دون منّة و لا شكوى، فالحبل الموصول بالله لا يسهل قطعه، و القلب المعلّق بجنة عرضها السماوات و الارض لا يقبل الأقل، و الثقة بالرب الجليل العظيم لا تهزها مواقف ابتلاء مصدرها كافر، هيّن على الله محتقر عنده، و يمضي ركب الدعوة في تبليغ كلام الله للخلق، و تنتهي المقاطعة، و تمزّق، و يخرج المحاصرون كأشدّ ما يكون الثبات و التصميم على انفاذ كلمات الله

و لكن المشاعر الرهيفة و القلوب الشفيفة تتفاعل مع أحزان الفقد والفراق، و تنتابها أحاسيس الاسى و اللوعة، المنظبطة بالصبر و الرضى و اليقين، فهاهو ابوطالب، الدرع الذي التف على الرسول صلى الله عليه و سلم يحميه و يذود عنه، يرحل عن الدنيا، و لا تلبث خديجة ان تودّع الزوج النبي، الذي حملت معه العبء، و أعانته بمالها و جهدها و حنانها و فيض مشاعرها الحانية، و تلحق بالرفيق الأعلى، مبشّرة ببيت من قصب، لا صخب فيه و لا نصب، و يحزن النبي صلى الله عليه وسلم لموتها، و يظل يذكرها حتى لحق بربه نفي لفتة وفاء عظيم، لا يقدر عليه إلا العظماء، و لكنه لا يتوقف عن حمل الأمانة الربانية، و يستمر بالدعوة الى الاسلام، و تتمادى قريش في غيّها و ظلمها، و يصبح البحث عن فضاء أوسع و أرحب لدعوة الله ضروريا، و تبدأ مرحلة الخروج بالدعوة إلى خارج مكة، فاين تكون المحطة القادمة، و ما الذي ينتظرك يا رسول الله فيها، عليك أطيب صلوات الله ؟

الطائف تلك البقعة الجميلة في جزيرة العرب، ببساتينها الغنّاء، و عناقيدها الدانية، كانت مقصد المصطفى صلى الله عليه و سلّم، قصدها ليعرض على أهلها الإسلام العظيم، و في قلبه الإشفاق على أهلها من النار و العذاب فقابلوه بالرفض و التسفيه و الجبروت، خلفه السفهاء يرمونه بالحجارة، و رفيقه المشفق المحب، زيد بن حارثة، يتلقى ما يستطيع من الحجارة عنه، و يفتديه لو استطاع بالنفس و الروح، و يلجؤه، جبابرة الطائف و زعماء الجهل فيها إلى بستان، و هناك في ظل السكون و رحابة اليقين، و انطلاقة الروح الملهوفة على الرضى، و الحريصة على نجاح المسعى، و في غمرة مشاعر التذلل للإله العظيم، و الاستكانة الكاملة و الانقياد التام لأوامره، و التصميم على الثبات، و طلب الرضى و حسبه الرضى، فينطلق اللسان بلغة الروح و الوجدان، يناجي ربه {الّلهم إليك أشكو ضعف قوّتي، و قلّة حيلتي، و هواني على النّاس، يا أرحم الراحمين انت ربّ المستضعفين و أنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدوّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، و لكن عافيتك هي أوسع لي، اعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، و لا حول و لا قوّة إلاّ بك}

و يعود الرسول صلى الله عليه و سلم و معه زيد بن حارثة إلى مكة، و لكن مكة الحبيبة الأحب و البقعة الأرحب تضيق به، و لا يمكنه دخولها إلاّ بجوار أحد الكبراء، و زيد مشفق على نبيه الحبيب، كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك، فتشرق البشارة من بين ثنايا الانكسار {يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا و مخرجا، و إنّ الله ناصر دينه و مظهر نبيه} إنّها الثقة الكاملة بصدة و نبالة و خيرية ما يدعو إليه، و يدخل النبي صلى الله عليه و سلم و زيد مكة بجوار المطعم بن عدي، ليبدأ فصل آخر من التبليغ و الإيذاء و الرفض و القبول و الرّحيل و الاحتساب.

Read 230 times