تقول ميمي أونج، كبيرة مهندسي المشروع بمختبر الدفع النفاث (JPL) في مدينة باسادينا بولاية كاليفورنيا: "الآن، يمكننا القول إن البشر جعلوا إحدى المروحيات تحلق على كوكب آخر".

وتُذكرنا رحلة "إنجينيوتي" التجريبية القصيرة بتجربة الأخوين رايت على كوكب الأرض، عندما أطلقا طائرتهما فوق الكثبان الساحلية في بلدة كيتي هوك، بولاية كارولاينا الشمالية في عام 1903، وتخليدًا لهذه الذكرى، حملت المروحيةُ قطعة قماش قطنية رقيقة في حجم طابع البريد من طائرة الأخوين رايت، تُعلق أونج على هذا بقولها: "لكل عالمٍ رحلته الأولى في الطيران".

أقلعت الرحلة بعد تأخيرٍ استمر أسبوعًا، نتيجة مشكلات برمجية منعت المروحية من الانتقال إلى وضع الطيران قبل يومين من محاولة الطيران التي كان مخططًا لها الحادي عشر من أبريل، واليوم، في تمام الساعة 12:34 صباحًا بالتوقيت الباسيفيكي، نجحت "إنجينيوتي" في تدوير مراوحها المصنوعة من ألياف الكربون والتي تعمل بتقنية الدوران العكسي بمعدل يتجاوز 2400 لفة في الدقيقة لإعطائها قوة الرفع التي تحتاج إليها كي تُحلق في الهواء على ارتفاع 3 أمتار، وهناك حلَّقت المروحية الآلية التي بلغت تكلفتها 85 مليون دولار أمريكي، وبعد ذلك، وفي إطار مناورة خُطط لها، استدارت بمقدار 90 درجة وهبطت بسلام من جديدٍ على سطح المريخ، تقول أونج: "هذه ليست سوى رحلة الطيران العظيمة الأولى".    

فمن المزمع تسيير أربع رحلات طيران أخرى، تصل مدة كلٍّ منها إلى 90 ثانية، في الأسابيع القليلة القادمة، وفي هذه الرحلات، من المرجح أن تُحلق مروحية "إنجينيوتي" فوق السطح على ارتفاع 5 أمتار وتقطع مسافة 300 متر من نقطة الإقلاع، ستزيد كل رحلة طيران لاحقة من قدرات "إنجينيوتي" لمعرفة إلى أي مدى تستطيع المروحية الآلية أن تشق طريقها عبر الغلاف الجوي الرقيق لكوكب المريخ الذي تَعدِل كثافته 1% فقط من كثافة الغلاف الجوي للأرض.

لقد أرسلت وكالات الفضاء طائراتٍ مسيَّرةً إلى كواكب أخرى من قبل؛ فعلى سبيل المثال، أرسلت البعثتان السوفيتيتان "فيجا 1"Vega 1 و"فيجا 2" Vega 2 المناطيد إلى الغلاف الجوي لكوكب الزهرة في عام 1985، غير أن رحلة "إنجينيوتي" هي رحلة الطيران الأولى على سطح كوكب آخر التي تخضع للسيطرة.

والهدف من هذه الرحلة هو اختبار ما إذا كان بإمكاننا استخدام الطائرات المروحية في استكشاف عوالم أخرى أم لا، وستلتقط في أثناء تحليقها فوق التضاريس السطحية للكوكب صورًا بالأبيض والأسود للسطح أسفل منها، وصورًا ملونة باتجاه الأفق، وقد تساعد المروحياتُ المستقبلية المركبات الجوالة، أو حتى رواد الفضاء أنفسهم، على شق طريقهم عبر السطح، من خلال استكشاف المناطق المثيرة للاهتمام مقدمًا وإرسال صور لما يبدو عليه المشهد.

قد تصل المروحية الكبيرة أيضًا إلى مناطق يتعذر الوصول إليها بواسطة المركبات الجوالة التي تتدحرج على أرض الكوكب، وفق قول أنوبهاف داتا، اختصاصي هندسة الطيران والفضاء الجوي بجامعة ماريلاند بمدينة كوليدج بارك، والذي ظل عاكفًا على صياغة مفاهيم مروحية المريخ على مدار عقود، يقول داتا: "إذا كنَّا جادين بشأن إرسال البعثات البشرية إلى المريخ، فيجب أن نلزم الجدية كذلك بشأن إرسال مروحيات كبيرة لاستكشاف ما ينتظرنا هناك حقًّا، وأكثر الأماكن إثارةً للاهتمام التي نريد استكشافها ليست موجودةً على أرض مسطَّحة، بل على منحدراتٍ، وجروفٍ، وأسفل فوهاتٍ وداخل كهوف"، وربما تستطيع الكاميرات وغيرها من الوسائل الأخرى الموجودة على متن المروحيات أن تجمع معلوماتٍ عن مثل هذه الأماكن.

لقد صممت وكالة ناسا بالفعل مروحيةً ثُمانية بحجم السيارة أُطلق عليها "دراجونفلاي"، وتخطط الوكالة لإرسالها إلى قمر كوكب زحل المعروف باسم "تيتان"، ومن شأن هذه المروحية الثُّمانية، التي من المزمع إطلاقها في عام 2027، أن تستكشف الغلاف الجوي للقمر "تيتان"، الذي تَعدِل كثافته أربعة أضعاف كثافة الغلاف الجوي لكوكب الأرض، كما أنه غنيٌّ بالمركبات العضوية الأولية، وهذه بيئة تختلف بشدة عن تلك التي تُعايشها حاليًّا مروحية "إنجينيوتي" على كوكب المريخ، غير أن دروس الطيران الأولى المستقاة من تجربة "إنجينيوتي" سيُستفاد منها في تصميم مروحية "دراجونفلاي" الثُّمانية، تقول إليزابيث تيرتل، اختصاصية علم الكواكب بمختبر الفيزياء التطبيقية التابع لجامعة جونز هوبكنز، في مدينة لوريل بولاية ماريلاند، والباحثة الرئيسية في فريق "دراجونفلاي": "نتطلع إلى الاستفادة من تجربة فريق "إنجينيوتي" فيما يتعلق بالطيران في سماءٍ خارج حدود كوكبنا الأرضي".

هذا وقد وصلت مروحية "إنجينيوتي" إلى فوهة "جيزيرو" على سطح كوكب المريخ في شهر فبراير المنصرم، واستقرت تحت الجزء السفلي من بدن المركبة الجوالة "بيرسيفيرانس"، وتحركت المركبة "بيرسيفيرانس" من موقع هبوطها إلى "مهبط" مُسطح داخل الفوهة التي تخلو نسبيًّا من الصخور، وأنزلت مروحية "إنجينيوتي" هناك، ثم استدارت المركبة الجوالة لترتفع قليلًا مسافة 65 مترًا، وهو موقع أفضل رصدت منه إقلاع مروحية "إنجينيوتي" وطيرانها، وصورتهما بالفيديو.

وكان التحدي الأكبر أمام تصميم مروحية "إنجينيوتي" هو جعلها صغيرة الحجم وخفيفة الوزن بالدرجة التي تكفي لأن تُحمَل تحت الجزء السفلي من بدن مركبة "بيرسيفيرانس"، دون المساس في الوقت ذاته بقدرتها على الطيران، على حد قول أونج، ومن ثم، لم يتجاوز وزن المروحية 1.8 كيلوجرام في نهاية الأمر، وقد اختبرها المهندسون على كوكب الأرض في غرفة خاصة داخل مختبر الدفع النفاث، كانت مفرغةً من الهواء على نحوٍ شبه كامل، بهدف محاكاة الغلاف الجوي الرقيق لكوكب المريخ.

وإذا قارنَّا "إنجينيوتي" بمروحيةٍ ذات حجم مماثل على كوكب الأرض، فسنجد أن "إنجينيوتي" تمتاز بمراوح أكبر حجمًا تدور على نحوٍ أسرع بكثير، لترفعها في الغلاف الجوي الرقيق لكوكب المريخ، يقول داتا إنه سينتظر بشغفٍ معلوماتٍ تتعلق بمقدار القوة التي تحتاج إليها المروحية لتحلِّق عاليًا، وهذه المعرفة ستساعد المهندسين على الوصول إلى فهمٍ أفضل للديناميكا الهوائية على سطح المريخ.

ويتمنى باحثٌ آخر يُدعى ويليام فاريل -من مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة ناسا، بمدينة جرينبيلت بولاية ماريلاند- أن تُسهم "إنجينيوتي" في تشكيل رؤية أفضل لدى العلماء عن الخواص الكهربائية للغلاف الجوي لكوكب المريخ، واستنادًا إلى حساباتهم، توصل فاريل وزملاؤه مؤخرًا إلى أن مراوح المروحية المتحركة ربما تصير مشحونةً كهربيًّا من خلال ملامستها الغبار الموجود في الهواء المحيط، مثلما تتراكم الشحنات على مراوح المروحيات في العواصف الرملية على كوكب الأرض، وهذا قد يتسبَّب في وهجٍ خافتٍ بلونٍ أرجواني مزرق على طول المراوح، يمكن رؤيته على أفضل نحوٍ في ضوء الغسق الخافت، وقد سأل فاريل فريق "إنجينيوتي" عما إذا كان بالإمكان أن تدور المراوح في أثناء وقت الغسق في مرحلةٍ ما؛ وإذا ما حدث هذا، فسوف يراقب الوضع عن كثب.

ويُستدَل من الغلاف الجوي الرقيق لكوكب المريخ على أن الرياح هناك ليست قويةً للغاية، ومروحيةُ "إنجينيوتي" قادرةٌ على تحمُّل رياح تزيد سرعتها قليلًا عن 10 أمتار في الثانية الواحدة في أثناء الطيران، كما يمكنها أن تتعامل مع سرعة رياح أقوى من ذلك حين تكون مستقرةً على سطح الكوكب، وهي مزودة بألواح شمسية لتُبقيها دافئة في أثناء ليالي المريخ المتجمدة، حين تهبط درجات الحرارة إلى 90 درجة مئوية تحت الصفر داخل فوهة "جيزيرو".

صُممت مروحية "إنجينيوتي" لتصمد 30 يومًا مريخيًّا فقط، وستنتهي تلك المدة في الرابع من مايو، وبعد ذلك، حتى وإن كانت المروحية لا تزال قادرةً على العمل، فإنها ستكون قد أنجزت مهمتها وسينصبُّ تركيز الفريق العلمي على المركبة الجوالة التي سافرت المروحية على متنها إلى المريخ، وستستقر "إنجينيوتي" إلى الأبد في فوهة "جيزيرو"، بينما تمضي مركبة "بيرسيفيرانس" قدمًا في مهمتها الأساسية لجمع عيناتٍ صخرية والعودة بها في نهاية المطاف إلى كوكب الأرض.

الرابط : https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/features/liftoff-first-flight-on-mars-launches-new-way-to-explore-worlds/