يعجب الناس من حال الجزائر، بلاد أكثر سكانها من الشباب، فسيحة الأرجاء، طيبة الهواء، كثيرة الثروات، متنوعة التضاريس، شبهها بعضهم بالقارة، و مع كل ذلك فاقتصادها متدهور، و الكل فيها يشكو و يتذمر، يدعو ربه صارخا ضارعا:” ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها و اجعل لنا من لدنك وليا و اجعل لنا من لدنك نصيرا”.
فلا أحد فيها راض بما قسمه الله له من نصيب، و لا أحد للعيش فيها يستطيب، بل الجميع يشكو من سوء الحال، و يتوجس خيفة من بؤس المآل، حتى أن أكثرهم فر منها هاربا، يطلب لنفسه النجاة، من شدة ما يلقاه فيها من ضنك الحياة، و ما كانت لتنتهي إلى هذا المآل، مع ما خصها الله به من خيرات، و حباها به من إمكانيات، لولا ما انتشر فيها من فساد، عم و طم، فأربك المشاريع و الأعمال، و بدد الثروات و الأموال، و أعيت مقاومته النساء و الرجال، حتى أن بعضهم بات يرى، أن ليس لها شفاء، من هذا المرض و الداء، إلا بمعجزة من رب الأرض و السماء، أما أن يتولى إصلاح حالها الرجال فذلك هو المحال.
لكن إذا سلّمنا بأن ما من شيء يحدث إلا و له سبب، لزاما أن نسلّم كذلك بأن ما شاع في الجزائر من فساد، لم يحدث صدفة و لا طفرة، و لكن مكنت لظهوره ظروف و ملابسات، و أننا من خلال تعرفنا إليها يمكن أن نهتدي إلى العوامل و المؤثرات التي مكنت لظهور الفساد و تلك التي ساعدت على تفاقمه و انتشاره، و إذا تحقق لنا ذلك، بات بمقدورنا القضاء على هذه الظاهرة و ذلك بالقضاء على أسبابها، و إذا فعلنا ذلك فسوف نجد أن ما ساعد على ظهور الفساد في الجزائر و استشرائه العوامل التالية:
1ـ فساد الحكم السياسي، و لا نعني بفساد الحكم خيانة الحاكم، و إنما افتقاده لمقومات الحاكم، من علم و استقامة و رشاد و قوة و حزم و قدرة على استشعار الخطر و التمكن من دفعه بأيسر السبل و أقلها تكلفة مثل تصدي أبو بكر لمانعي الزكاة، و تصدي عمر بن الخطاب لجائحة القحط و انعدام القوت، و تصدي المعتصم لغزو الروم لمدينة عمورية.
2ـ غيبة التخطيط، لا غنى لأي بلاد أو مجتمع عن التخطيط، و لا يمكن أن تُسيّر شؤونها باعتماد سياسة الارتجال و الحلول الآنية، فذلك لن يحل ما يعرض لها من مشاكل، بقدر ما يرهقها و يتسبب لها في إهدار الجهد و الوقت و المال، و الحاجة إلى التخطيط المحكم الدقيق، تمليها حاجتنا إلى ربح الوقت و الاقتصاد في الجهد، و توفير المال و حفظه، و لأنه يتيح لنا إمكانية المتابعة و المراقبة مما يجعلنا قادرين على ملاحظة الأخطاء، و التمكن من التدخل لإصلاحها و تلافيها، كما أنه يسمح لنا بالتدرج من الأهداف الصغرى، إلى الأهداف و الغايات الكبرى، أيمن سهل الإنجاز إلى ما هو أصعب، و غني عن البيان أننا كلما أنجزنا هدفا، تضاعفت إمكانياتنا و ازددنا قدرة على إنجاز ما هو أصعب.
3ـ رداءة التعليم و البحث العلمي، إن رداءة التعليم و تخلف البحث العلمي له علاقة بتمكن الفاسد و انتشاره، لأنه يفسح المجال لتولّي غير الأكفاء للوظائف و المناصب، فيتسببون في ارتكاب أخطاء فادحة و كثيرة، ترتد سلبا على الحياة الاقتصادية و الاجتماعية، و لا خلاف على أن أبرز أهداف التعليم تكوين المواطن الصالح و الصلاح المقصود هنا، هو صلاح العقل و صلاح الأخلاق، فإذا كنا اليوم نجد مواطنا عاجزا عن القيام بعمله المنوط به، فذلك العجز مرده إلى خلل في تكوينه العقلي، و إذا وجدنا مواطنا يكذب و يخلف الوعد و يخون الأمانة أو يرتشي، فمرد ذلك إلى سوء تكوينه الأخلاقي دون ريب، و إذا كانت مؤسساتنا الاقتصادية غير منتجة و غير محققة للأرباح، فمرد ذلك إلى افتقارها إلى الضوابط العلمية في التسيير و الإنتاج، و هكذا تتبين علاقة التعليم و البحث العلمي بالفساد الاجتماعي و الاقتصادي.
4ـ سياسة اللاّحساب و اللاّعقاب، تعتبر من أشد الأسباب تأثيرا في التمكين للفساد في المجتمع، و من أكثرها مساهمة في نشره و توسيع دائرته، و ذلك لأنها تقتل الإحساس بالمسؤولية لدى الفرد، و تدفعه إلى الاستهتار بالحق العام، فالحساب ثم العقاب من أهم الآليات التي تحتاج إليها الدول في تسيير الشأن العام، بل إن الله سبحانه و تعالى أمرنا بمعاقبة المفسدين في الأرض و ذلك لما يلحقونه من أذى كبير بالبلاد و العباد، و هل هناك أذى أكبر مما لحق بلادنا من اضطرار بنيها إلى هجرتها و طلب العيش فيما سواها، فلو أننا حاسبنا المفسدين و عاقبناهم على إفسادهم لا انتهى الآخر و لسلمت البلاد، و أمن العباد، و لنا في عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أسوة حسنة، فقد كان لا يغفل عن أهل الفساد من مواطنين أو ولاة و كان يضرب على أيديهم بيد من حديد حتى و لو كانوا من ذوي القربى، و ذلك ما جعل الأمور تستقيم له في عهده و أصبح عهد يضرب به المثل في استقرار الأحوال و حسن المآل، و هذا ما يجعلنا نعتقد أنه لن تسلم لنا البلاد إلا بالقضاء على أسباب الفساد…
الرابط : https://elbassair.org/50/