(function(i,s,o,g,r,a,m){i['GoogleAnalyticsObject']=r;i[r]=i[r]||function(){ (i[r].q=i[r].q||[]).push(arguments)},i[r].l=1*new Date();a=s.createElement(o), m=s.getElementsByTagName(o)[0];a.async=1;a.src=g;m.parentNode.insertBefore(a,m) })(window,document,'script','//www.google-analytics.com/analytics.js','ga'); ga('create', 'UA-60345151-1', 'auto'); ga('send', 'pageview');
طباعة
الجمعة, 07 شباط/فبراير 2014 14:39

الارتباط بين القول والعمل

كتبه  الدكتور عبد الحليم عويس رحمه الله
قيم الموضوع
(0 أصوات)

كان سعيد بن المسيب تابعيًّا جليلاً، عالمًا ورعًا، جمع بين العلم و الدين و الثراء، و الزهد و الفقه، و البعد عن الجاه و المناصب و أصحاب الدنيا.

و قد عاصر سعيدٌ عددًا من خلفاء بني أُمَيَّة (41 - 132 هـ) على رأسهم عبدالملك بن مروان، و الوليد بن عبدالملك، و كانتْ له بعض الآراء و المواقف التي يُبدِي فيها استقلاله الكامل و نزاهته في الفقه و الفتيا و الوعظ..

و نظرًا لثقة ولاة الأمور في إخلاصه و مكانته و حبِّ الناس له؛ تركوه لشأنه، فلم يقع بينه و بين أولي الأمر خلاف كبير، مع أنه كان يرفض أُعطِياتِهم، و قد رفض قبولَ ثلاثين ألف درهم، و هبات أخرى كثيرة أرسلها إليه الخليفة عبدالملك بن مروان (65 - 86 هـ).

و أكبر من هذا كُلِّه ذلك الموقف الذي يذكره التاريخ بالمجد و الفخر، حين رفض أن يزوِّج ابنته من وليِّ العهد (الوليد بن عبدالملك)؛ لغرس قيم معيّنة في نفوس تلامذته الذين كان يربِّيهم، و كانوا عنده في موضع الأبناء و المُرِيدين، لا يبخل على فقيرهم، و لا يمنعهم علمَه و فضله في ليل أو نهار.

و كان (سعيد بن المسيب) - إمام التابعين - يعلم أنه ليس بدروس الوعظ وحدها، و لا بالعلم وحده يعرف حقيقة الناس، فعلمٌ دون عمل صالحٍ لا قيمةَ له، و القدوةُ بالفعل أهمُّ من كُلِّ صور البلاغة بالقول، و عظمة الأنبياء - عليهم السلام - و خاتمهم إمام المتقين محمد - صلى الله عليه و سلم - إنما تتجلَّى في تحقيقهم (القدوة المثلى) في كُلِّ ما يقولون.

و النفاق هو مخالفة القولِ العملَ، و العملِ القولَ، و الإخلاصُ و الصدقُ يتأكَّدان في التطابق بين القول و الفعل؛ هكذا كان سعيدٌ ينصح الناس و يعلِّمهم.

و قد وقف سعيدٌ مرَّة وقفة من وقفاته تلك، و أخذ يتحدَّث إلى الناس، و يقول لهم: "أتعرفون أن غضب الله لاحق بكم، ما ذاك إلا لأن سُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - قد ضاعتْ بينكم، و الرحمة قد نُزعت من قلوبكم، و تكالبتم على حبِّ التفاخر بالأنساب و الأموال، و إنَّ أحدَكم لو خُيِّر بين أن يتزوَّج من سلالة النبي أو يزوِّج لهم، أو أن يتزوَّج من أولياء الأمر و أصحاب الحكم أو يزوِّج لهم، لغلبه شيطان الدنيا و أضلَّه هواه و اختار الثانية، إنِّي لأراكم تُؤثِرون لبناتكم كُلَّ ذي مال و نسب، و ليس كل ذي علم و أدب، و أراكم تغالون في المهور، و تطلبون منها الباهظ، و تؤثرون الكثير منها على القليل، و في ذلك - كما يعلم الله - انتقاص لإنسانية بناتكم المؤمنات؛ حيث تضعونهن موضع السلعة التي يُشتط في طلب ثمنها، و في ذلك دليل على ضعف إيمانكم و مخالفتكم لأوامر نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم" (أو كلامًا هذا معناه).

و استرسل الشيخ سعيدٌ في حديثه، و انخرط في كل أسلاكه، و ذهل الحاضرون من وقع هذا الكلام في نفوسهم، و انتقلوا بدَوْرهم إلى عالَم الروحانية الصافي، و طأطؤوا رؤوسهم، و بدوا و كأنهم ما أصابوا من الدنيا و ما أصابت الدنيا منهم.

و قد كان الذين يسمعون هذا الكلام يعرفون مدى صدقه؛ فهم قد رأوا صاحبه سعيدَ بن المسيب يرفضُ زواج ابنته من وليِّ العهد (الوليد بن عبدالملك)، و يعرفون أنه زوَّجها لـ (أبي وداعة) تلميذه الفقير، الذي ماتتْ عنه زوجته و لم يتزوَّج، فأعطاه سعيد ابنته بمهرٍ قيمتُه لا تزيد عن درهم و خاتم من حديد!

لقد حقَّق سعيدٌ - أمامهم عمليًّا - ما كان يروى عنه من مثل قوله: "الله الله؛ إن الدنيا حقيرة، و هي إلى كُلِّ حقير أميَل و أحَب، و أحقرُ منها مَن أخذها بغيرِ حقِّها، و طلبها من غير وجهها، و وضَعها في غير سبيلها".

أيها الناس:

لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلم إلا بالإنكار عليهم في قلوبكم؛ حتى لا تحبط أعمالكم، يد الله فوق الجميع، فمَن رفع نفسه و وضع غيره، خفضه الله، الناسُ تحت كنف الله يجازون بأعمالهم، فإذا أراد الله فضيحة عبدٍ، أخرجه من تحت كنفه فبدتْ للناس عورته، الله الله؛ إيَّاكم و ذِكرَ الناس بما ليس فيهم، و رميَهم بما لم يفعلوا.."!

لقد عاش سعيدٌ إمامًا تقيًّا، و معلِّمًا يَمضِي على درب النبوة، و يقدِّم للناس المواقفَ العملية التي تتجسَّد فيها أخلاق تلامذة رسول الله - صلى الله عليه و سلم.

و لقد أثبت سعيد بن المسيب و جيلُ التابعين الذين عاشوا في عصر بني أُمَيَّة أنهم استمرارٌ لعصر الصحابة، و أن نهر التقوى و الصلاح كان زاخرًا، و أن الذين يريدون القول بأن انتقال الأمور إلى بني أميَّة أوقف تيَّار الشرع و القيم الإسلامية - إنّما يَهْرِفون بما لا يعرفون، و يركِّزون على جانب و يهملون المساحة الكبيرة الوضيئة.

و سيبقى في كُلِّ عصر - وإلى أن يرث الله الأرض و مَن عليها - دعاة ثابتون عاملون فَقِهُون، ظاهرون على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خالفهم، و رحم الله سعيد بن المسيب التابعي الجليل، الذي كانتْ حياته سلسلة من المواقف الرائعة الخالدة.

 
المصدر : موقع الدكتور عبد الحليم عويس، الألوكة.
قراءة 1832 مرات آخر تعديل على الأحد, 05 تموز/يوليو 2015 21:29