يظن كثيرون أن انتصار المسلمين على اليهود و نهاية وجودهم في الأرض المقدسة في فلسطين هو من علامات الساعة، و أنه لن يكون إلا في آخر الزمان؛ لأنه الإفساد الثاني الذي تحدث القرآن عنه، و هو الإفساد الأخير لهم، و الذي لن تكون نهايته إلا آخر الزمان.
و هذا فهم خاطئ ناتج عن تأويل خاطئ لآيات القرآن التي تحدثت عن علو بني إسرائيل و إفسادهم في الأرض، و عن أن الله يبعث عليهم عبادًا له أولي بأس شديد فيهزمونهم ويخرجونهم من الأرض المقدسة.
و الآيات الواردة في هذه المسألة تتحدث عن علو بني إسرائيل مرتين، و عن أن الله يبعث عليهم في كل مرة من يخرجهم منها و يسومهم سوء العذاب.
و لم تقطع الآيات بأن علو بني إسرائيل سيكون مرتين فقط، بل إن الله في نهاية الآيات قال: {وَ إِنْ عُدتُّمْ عُدْنَاۘ} [الإسراء: 8] و هذا هو الأصل القاطع في المسألة.
تحدثت الآيات عن أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض مرتين، و أن نهايتهم ستكون بالهزيمة لهم، و بالإجلاء عن الأرض المقدسة، و المرة الثانية ستكون المرة الآخرة (أي التالية للأولى) كما وضحت الآيات، و لن تكون المرة الأخيرة أي آخر المرات، فالأمر مفتوح بعد المرتين، إن عادوا عاد الله عليهم بقضائه فيهم، و بعث عليهم عبادًا له مثلما بعث في المرتين المشار إليهما.
ذهب المفسرون القدامى، إلى أن المرتين الذين علا فيهما بنو إسرائيل و أفسدوا في الأرض ثم دالت الدولة عليهم قد حدثا فيما مضى قبل مجيء الإسلام.
عن الإفساد الأول الوارد في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} [الإسراء: 5]، قال ابن كثير: "و قد اختلف المفسرون من السلف و الخلف في هؤلاء المسلطين عليهم: من هم؟ فعن ابن عباس و قتادة: إنه جالوت الجزري و جنوده، سُلط عليهم أولًا ثم أديلوا عليه بعد ذلك، و قتل داود جالوت.
و قال: "و عن سعيد بن جبير أنه ملك الموصل سنجاريب و جنوده"
أما عن الإفساد الثاني الوارد في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} [الإسراء: 7] يقول الطبري: "عن مجاهد قال: بعث الله ملك فارس ببابل جيشًا، و أمّر عليهم بختنصر.
و عن قوله: {وَ إِنْ عُدتُّمْ عُدْنَاۘ} [الإسراء: 8]، قال ابن كثير: "قال قتادة: قد عاد بنو إسرائيل، فسلط الله عليهم هذا الحي - محمد صلى الله عليه و أصحابه - يأخذون منهم الجزية عن يد و هم صاغرون.
و قال الطبري: "قال قتادة: ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحي من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة، قال تعالى: {إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِۗ} [الأعراف: 167]"
و بعض المفسرين المحدثين يرى أن الإفساد الثاني هو الحاصل بقيام دولة إسرائيل اليوم على أرض فلسطين، و في هذا يقول الشيخ بسام جرار: "من هنا نجد أن المفسرين القدماء قد ذهبوا إلى القول بأن النبوءة... قد تحققت بشقيها قبل الإسلام بقرون، و نحن اليوم نفهم تمامًا سبب هذا التوجه في التفسير، لكننا أيضًا ندرك ضعفه و مجافاته للواقع، و من هنا نجد الغالبية من المفسرين المعاصرين، تذهب إلى القول بأن وعد الإفساد الثاني قد تحقق بقيام دولة إسرائيل عام 1948م"
و بعض المفسرين المعاصرين يرى أن مرتي الإفساد ستكونان بعد مجيء الإسلام، و أن المرة الأولى هي إفسادهم وقت النبوة، بتآمرهم على النبي و صحبه في المدينة.
و الخلاصة أن هناك اختلافًا كبيرًا في تحديد مرتي إفساد بني إسرائيل، هل كانتا قبل الإسلام، أم ستكونان بعده، أم أن واحدة كانت قبل الإسلام و واحدة ستكون بعده.
و خلاصة الخلاصة: أن إفساد بني إسرائيل ليس موقوفًا على مرتين اثنتين، فقد قال تعالى: : {وَ إِنْ عُدتُّمْ عُدْنَاۘ} [الإسراء: 8]، و هو ما يفتح الباب أمام احتمال إفساد بني إسرائيل في الأرض مرات و مرات، ليبعث الله عليهم عبادًا له في كل مرة، يخرجونهم من الأرض المقدسة، و يسومونهم سوء العذاب.
و يظن الكثيرون هذا الظن أيضًا، من فهم و تأويل خاطئ لأحاديث واردة عن رسول الله - صلى الله عليه و سلم - فقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه و سلم – قوله: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر و الشجر، فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" (متفق عليه) و عند البخاري: "تقاتلون اليهود، فتسلطون عليهم، ثم يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي، فاقتله"
فيظن الظانون من هذه الأحاديث، أن هذا القتال الذي سيكون في آخر الزمان، هو الذي سينهي دولة إسرائيل القائمة اليوم، و ستكون معه علامته، بحديث الحجر و الشجر، و تكون القيامة من ورائه.
و هذا ظن خاطئ؛ فهذه الأحاديث تتحدث عن آخر الزمان، أما ما يحدث في فلسطين اليوم فلا علاقة له بهذه الأحاديث، و كل الشوهد دالة على ذلك.
من الممكن أن تكون هذه الحرب هي الحرب الأخيرة بين المسلمين و اليهود أما الحرب التي ستحصل في آخر الزمان، سوف تكون حربًا بين اليهود الذين يريدون دخول الأرض المقدسة، و التي يكون المسلمون حينها ملوكها و مالكيها.
و من الممكن أن تكون حربًا بعيدة عن الأرض المقدسة بالكلّية.
و قد جاءت أحاديث كثيرة، تبين أن هذه الحرب الأخيرة بين المسلمين و اليهود على أبواب قيام الساعة ستكون متعلقة بخروج المسيح الدجال، و اتباع اليهود له، و قتالهم معه.
روى الإمام أحمد حديث الرسول - صلى الله عليه و سلم - الذي يقول فيه: "يخرج الدجال من يهودية أصبهان، يتبعه سبعون ألفًا من اليهود عليهم التيجان"، و في الحديث الذي رواه أحمد أيضًا: "يخرج الدجال ثم يسلط الله المسلمين عليه، فيقتلونه و يقتلون شيعته، حتى أن اليهودي ليختبئ تحت الشجرة أو الحجر، فيقول الحجر أو الشجرة للمسلم، هذا يهودي تحتي فاقتله"، و قد علق الحافظ ابن حجر على ذلك في فتح الباري فقال: "فالمراد بقتال اليهود، وقوع ذلك إذا خرج الدجال و نزل عيسى" و يقول ابن تيمية: "اليهود إنما ينتظرون المسيح الدجال، فإنه الذي يتبعه اليهود، و يخرج معه سبعون ألف مطيلس من يهود أصبهان، و يقتلهم المسلمون معه، حتى يقول الشجر و الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله"
و بالتالي: فبهذه الأحاديث و شروحها، و بالآيات التي قبلها و شروحها، يتبين لنا أن معركة المسلمين مع اليهود في فلسطين اليوم، ليست لها علاقة من قريب و لا بعيد بمعركة آخر الزمان بين المسلمين مع عيسى المسيح من جهة، و بين اليهود مع المسيح الدجال من جهة أخرى.
و يتبين كذلك، أن علو بني إسرائيل و إفسادهم في الأرض، ليس موقوفًا على مرتين اثنتين، بل من الممكن أن يكون مرات و مرات، و من الممكن أن تكون معركة آخر الزمان و اليهود مشتتون في ذلة و هوان، يبتغون دخول الأرض المقدسة، و يبتغون العلو و الإفساد باتباعهم للمسيح الدجال عند خروجه، و هو الذي ينتظرون خروجه ليل نهار.