الكتابة المبهرة هي التي تحتوي على عنصرين مهمين هما : الفكرة و البيان ؛ و إذا ما تخلفت الفكرة فالكتابة مجرد زخارف لفظية و محسنات و سجع قد يطرب لها السامع ثم يملها بل و يمجها حين يعرضها على عقله فلا يكاد يفهم منها معنى أو مغزى. و قد تكون الفكرة حاضرة لكن ينقصها البيان العذب و الكلمات الفخمة فتكون كأجمل إنسان لا يجد غير الخَلِق المرقع من الثياب فلا تنفعه ملامحه ما دامت بلا حلة تنجذب لها العيون و تنقاد لها النفوس ؛ و كم من حق ضاع بسوء التعبير و كم كم من باطل سرى بطلاوة الكلام و حلو الحديث. أما تلك التي تفقد العنصرين معاً فليست كتابة أصلاً و يصدق عليها وصف الهذيان و همهمات المجانيين و تكون كما قال ابن دقيق العيد بعد جلوسه إلى الصوفي ابن سبعين : " جلست معه من ضحوة إلى قريب الظهر و هو يتحدث بكلام تفهم مفرداته و لا تعقل مركباته " .
و قد ابتلي الناس بمطبوعات و وسائل نشر تقذف يومياً أو أسبوعياً أو دورياً أو غير ذلك مقالات و دراسات و كتباً يكاد يحلف قارئها يميناً مغلظة بين الركن و المقام أنها كتبت بالقدم لا اليد أو أنها كتبت ساعة مس أو صرع أو خبل منقطع أو متصل و ما حل بنا هذا البلاء المتناسل إلا من شهوة الكلام و حب التزيد و داء الغرور و مرض الشهرة و لو بشر حال و سوء مقال ؛ و بالله الحفيظ نستعيذ من الخذلان.
إن الفكرة عزيزة المنال صعبة البلوغ ول ا تتأتي لأي أحد ول ا تنقاد بسهولة و يسر بل قد تتمنع على الفطاحلة الكبار و الأساطين العظام حتى يقول الكبير المقدم فيهم : لا أجد ما أقوله أو لا أستطيع التعبير عما يجيش في نفسي و أضرابها من العبارات التى لا تخفى على من قرأ الكبار و قرأ لهم.
و الفكرة إما أن تكون جديدة لم يسبق إليها فيكون صاحبها أول من جاء بها، و قد تكون قديمة لكنها تطرح بطريقة جديدة أو من وجه لم يذكره أحد ؛ و كم ترك الأول للآخر. و يتبادر كثيراً إلى الذهن سؤال مفاده :كيف نصنع الفكرة ؟
لصناعة الفكرة عدة طرق منها :
1. التفكير : و هو أكبر مصنع لها ؛ و بواسطته تتولد الأفكار من الطرق التي بعده فكلها يجتاز من خلاله إلى العالم الخارجي.
2. الملاحظة و التأمل : و هما فرع من التفكير و إنما خصصتهما بالذكر لقربهما و سهولة استخدامهما ؛ و كم من شيء أو مشهد يمر بنا كثيراً و لو تأملناه لظفرنا بفكرة أو خاطرة.
3. الانصات : حيث أن سماع أحاديث الناس منجم للأفكار ؛ و لا يذهب بك الظن بعيداً ؛ فلست أعني صنفاً واحداً من البشر ؛ بل كل من سنحت لك الفرصة أن تستمع إليه _ دون تضييع الوقت _ فاستفد منه و لو كان طفلاً أو عامياً أو ضعيف إدراك، و قد روي عن الجاحظ أنه كان يجلس لكل أحد مما جعل ذهنه متوقداً متدفق الأفكار عن أصناف الناس.
4. أحداث الساعة : و هي من أكثر المصادر استخداماً من قبل المتحدثين و الكتاب.
5. التخيل و الافتراض : و لا بأس في ذلك إن شرعاً أو عقلاً حتى لو كان المفترض ممنوع الوقوع مستحيلاً بدلالة غير آية من التنزيل الحكيم.
6. الحوار و المناقشة خاصة عندما يكون مع شخص مُلهِمٍ للأفكار حتى لو كنا نخالفه تماماً ؛ و لاقتناص الأفكار من المتحدثين براعة قل من يجيدها و قليل من المجيدين من ينسب أفكاره.
7. استخدام الأفكار المتداولة اختصاراً أو زيادة أو استفساراً أو تعقيباً و هذا من أسهل ما يكون.
8. الاستفادة من الموروث الشعبي المحلي أو العالمي لتوليد الأفكار، و يدخل ضمن ذلك الأمثال و القصص. و كذلك النظر في عادات الشعوب و أخلاقهم.
9. و من جملة تسخير الحيوان للإنسان أن في طباعها و نظامها منبعاً لا ينضب للأفكار و من نظر في حياة الحيوان الكبرى للعلامة الدميري أو غيره تيقن من ذلك.
10. القراءة : و مهما قال الناس في الكتاب و لذة التنزه في عقول الرجال فلن يوفوه حقه و لا معشاره ؛ و أجل و أكرم و أنفس ما يقرأ كتاب الله العزيز و سنة المصطفى صلى الله عليه و سلم ثم كتب العلم فكل كتاب استيقن الواحد منا فيه المنفعة أو أمن منه المضرة ؛ و يحسن التنبيه إلى أنه لا يجوز السماح للبوارق و القدحات الذهنية أن تجعل صاحبها مستسهل التقول على الله و رسوله بغير علم ؛ بل يجب الرجوع إلى التفاسير و الشروحات السلفية كي لا تزل قدم بعد ثبوتها.
و بعد ولادة الفكرة و صناعتها ينبغي التريث حتى تنضج على نار هادئة من الفكر النير المتزن قبل نشرها ؛ ثم يبحث صاحب الفكرة ما وسعه الجهد و أسعفه الوقت عن فكرة مماثلة أو مناقضة لتجويد الصناعة و حمايتها من العوارض ؛ و إن حادث المفكر عقلاً يأنس إليه و روحاً يشعر بطهارتها قبل النشر فخير على خير .
و تبقى مسائل لابد من الإشارة العاجلة إليها و هي :
1. هل الفكرة حسنة لك عند الله أم سيئة ؟
2. هل تنفع فكرتك البلاد و العباد ؟
3. هل هذا هو التوقيت المناسب لعرض الفكرة ؟ و ما هو المكان المناسب لنشرها ؟
4. هل الأفضل لك كثرة الأفكار أم قلتها ؟
5. سجل أفكارك كمشاريع مستقبلية إن ضاق عنها وقتك .
6. للفكرة المبتكرة حق الأقدمية و السبق لكنها قد تواجه بمعارضة شديدة فتنبه !
7. ثمة فرق كبير بين الدرر الغرر و بين العجر البجر ؛ فاختر لنفسك و فكرك ما تحب.
و إذا فرغنا من صناعة الفكرة فلا مناص من صياغة الفكرة على الوجه الذي يجلو البهاء و يبين المحاسن ؛ و كنت قد كتبت مقالة بعنوان " خطوات نحو الكتابة الراقية " و آمل أن تكون معينةً لقارئها على مزيد من إتقان الصياغة بعد ضبط الصناعة لنحصل على أعلى درجات جودة المنتج الذي يمكث في الأرض و ينفع الناس .