ما كان يشدني إلي قصص "فرن" كان وصفه الدقيق للأماكن و الأشخاص، و قد كان يراهن علي عنصر التشويق بشكل كبير، فلا تملك إلا إنهاء الكتاب في أقصر مدة ممكنة. و كانت الحبكة القصصية التي ينسجها ببراعة شديدة، تأخذ القاريء الصغير و الكبير علي السواء إلي عوالم مختلفة. و المزج بين السرد العادي و االخيال العلمي، أعده إحدي مميزات تلك القصص.
فالكاتب الفرنسي كان يسعي في كتاباته إلي ترسيخ في ذهن الطفل، ضرورة الربط بين الواقع و التاريخ و العلم و صفات كالشجاعة و الجرأة و الإقدام و الصبر عند الشدائد. فتتكون لدي القاريء الصغير معطيات بسيطة ذات مغزي عميق، مع مرور الزمن سيحسن فهمها و إستغلالها. فقد كنت أحرص في مطالعاتي علي القراءة كوسيلة تثقيف عظيمة. فما غنمته من معلومات علي حياة البحر و مخلوقاته، و كيف يقود القبطان الباخرة الشراعية أو باخرة تمخر عباب البحر بالبخار. فمتابعة تفاصيل قصة و التركيز علي بطل أو بطلين، يمكن القاريء من إحاطة عامة بالموضوع الرئيسي و هذا تعلمته مع قصص "جول فيرن".
و في سياق الرواية، يضيف الكاتب بعض آراءه الغير المنصفة بشكل غير مباشر في أقوام و حضارات، بإمكاننا غربلة ما نتلقاه. و إن كنا نستغرب بعض الشيء هذا المنحي من "جول فيرن"، غير أن آراء و مواقف بعض الكتاب الغربيين، فيها دلالة كبيرة حول قضايا إنسانية كالرق و الإستدمار و حقوق الإنسان، فالنظرة الإستعلائية تطبع حتي أولئك الذين يصنفون أنفسهم من كبار الإنسانيين !
فقد كان عقلي يتعامل بحماس مع قصص "جول فيرن" و بتحفظ شديد مع مشاهد فيها الكثير من العنصرية، فقد كان وصفه للعرب جد مهين و أما سكان إفريقيا فهم من آكلوا لحم البشر و الرجل الأوروبي هو الآت بالحضارة و القيم و المنقذ !
إذا ما كان يري الشاعر "فيكتور هوغو" مهمة العساكر الفرنسية في الجزائر مهمة حضارية لتطهير أرضها من القرصان، فكيف ب"جول فيرن" ؟
والدي الكريمين كانا حريصين علي تنويع مصادر ثقافتي، فعرفت باكرا أدب الأطفال الأمريكي، مع مطالعتي لمجلات الأطفال العراقية و أما مطالعتي للقصص باللغة الفرنسية، فقد كان الغرض الأساسي منها تعليمي بحت. كنا في بلد أنجلوفوني و كان أمامي برنامج جزائري بعد ما تقرر عدم تسجيلي في المدرسة الفرنسية و هكذا إغتنمت الفرص المتاحة لأجمع جل عناوين "جول فيرن" و الإستفادة منها. لغته غنية بالتراكيب البديعة و كان علي بالمناسبة أن أثري زادي اللغوي في الإنشاء بالفرنسية و الذي كان يسهر علي التصحيح والدتي الكريمة، فهي لم تتركني كلية للأستاذة الأندونيسية التي كانت تلقنني دروس الفرنسية طبقا للبرنامج الجزائري.
مع مرور الأيام، صرت أميل لتدوين إنطباعاتي و قصص قصيرة أتخيلها، أرويها في المرحلة الأولي ثم أدونها و أضعها جانبا. بفضل مطالعة مكثفة، تمكنت من التعبير الحسن باللغة الفرنسية و قد قمت بمقارنة بين أسلوب "جول فيرن" و كاتب فرنسي حديث مثل "جورج بايار" و فهمت أن ملكة الأول في الكتابة القصصية مبنية أكثر علي التثقيف من الثاني و هذا الأخير إعتمد عنصر التشويق أكثر من شيء آخر لجذب القراء.
و صلابة اللغة عند كتاب القرن التاسع عشر أفضل بكثير من تابعيهم. فالطريقة التي إتبعتها، جعلتني لا أقف عند مشاهد مغلفة بلهجة الإحتقار و الإزدراء. بصراحة، لم أكن اشعر أنني معنية، و لم أحاكم "فيرن" علي نواياه، فقط كنت أرثي لحال القاريء الغربي، فالصغير الأوروبي سيتأثر حتما بالنظرة الإستعلائية للكاتب الذي كان فاقدا لإحدي مقومات الحضارة : الموضوعية. فتحامل أمثال "جول فيرن" علي الشعوب العربية و الإفريقية غيب عنهم مساويء الشعوب الأوروبية و حركة الإستدمار التي خلفتها نهضتهم الحضارية.
فالجشع الغربي أهلك الحرث و النسل و استعبد شعوب كاملة بإسم المهمة الحضارية، حاولوا أن يجملوا دورهم القبيح و ما استطاعوا إلي ذلك سبيل.
عندما كنت أقرأ علي ألسنة بعض أبطال "فيرن" إستهجانهم للرق، كنت أتساءل، لماذا يستنكرون ذلك و هم أول من قنن لهذه الظاهرة اللاإنسانية و حتي بعد ما حرروا علي الورق الأفارقة لم ينل هؤلاء حريتهم إلا بشق الأنفس. لم ينجح " فيرن" في إخفاء النفاق و الكيل بمكيالين و كوني كنت مطلعة علي تاريخ فرنسا، كنت أعلم بأن الثورة الفرنسية رافقتها إنتهاكات خطيرة جدا لحقوق الإنسان !
كنت أحدث والدتي الكريمة عما أقرأه و كانت تصحح نطقي لبعض الألفاظ و تجيب عن أسئلتي الكثيرة :
-لماذا يبدو قاسيا "فيرن" مع العرب ؟
- إنه ليس قاسيا عفاف، بل متحاملا و الفرق ظاهر.
-طيب، أليس عجيبا مثل هذا الموقف من شخص زار الدول العربية و خالط ناسها ؟
-بلي، لكن ما الذي تنتظرينه من كاتب يري في حضارته القدوة و المثل الأعلي و ما سواها دونها ؟ كانت ردود والدتي الفاضلة مقنعة. و عند الكبر، أصبحت أنظر إلي تلك القصص بكثير من المرح، كم سلتني و كم تعلمت منها و كم عجبت لتعالي كاتبها !
هذا بعض ما عرفته من خلال مطالعتي لقصص "جول فيرن"، طبعا أنتم بدوركم تكونوا قد قرأتم له و لكم حكمكم الخاص الذي أحترمه.