.اصطفت النساءُ لصلاة القيام، و كانت هي بينهن.. امرأة بسيطة الهندام، هادئة الملامح.. تتحرك وسطهن، فتنهر من لا تلصق قدمها بقدم جارتها و تمسك بغلظة مَنْ تجرأت و تحركت قليلاً فلم تعد كتفها محاذية لكتف من تقف بجانبها! و كان طفلاها يلعبان.. و يدخلان و يخرجان من بين فرجات الصفوف، و يصدران أصواتًا عالية و صيحات طفولية صاخبة دون أن تحاول هي إسكاتهما، و عندما بدأت الصلاة كان الطفلان ما زالا على صخبهما.. و هي على صمتها، و لكنها عندما رأت أن كثيرات لفتن نظرها إلى أنهما يشوشان عليهن نهرتهما بصوت حاد و وجهت إليهما ألفاظ سباب لاذعة؛ فانكمشا في مكانهما، و بدا واضحًا قدر قذارة ملابسهما و أظافرهما و شعريهما! أما الأم، فقد ظهر جوربها - مع السجود - غارقًا في القذارة، تفوح منه رائحة مقززة.. و تتناثر البقع على عباءتها التي كان ذيلها مغبرًّا واضح الاتساخ! .. و انتهت الصلاة.. ليبدأ السؤال الحزين الذي يجسد همًّا كبيرًا: كيف تفهم هذه المرأة - و كثيرات و كثيرون مثلها – دينهم؟ و كيف يتعاملون مع قيمه الثابتة و أخلاقه الراسخة؟ ... و ما المعنى الذي يتداعى إلى أذهانهم بمجرد ذكر لفظة «دين» أو «إسلام»؟ إن مشهد تلك المرأة - بكل تفاصيله الصغيرة - يؤكد أن هناك أزمة كبرى في «الفهم»، فهم بعض المسلمين لأولويات عقيدتهم.. بل لعلة وجودهم، فهم لا يرون من هذه العقيدة إلا وجهها العبادي الفردي... وجه الأركان التي يحرصون عليها كل الحرص و يصرون على أدائها بلا تفريط.. أما ما بين هذه الأركان.. و ما بداخل بنيان العقيدة من أخلاق و معاملات، فهو مهمل تمامًا و قابع في هامش شعورهم! .. و في هذه الأزمة يكمن أحد أهم الأسباب و الأسرار التي أدت إلى التخلف و التراجع الذي صارت إليه أمتنا بعد قرون من السيادة و التمكين.. فعندما فهم المسلمون الأول و التابعون دينهم على شموله و توازنه.. و جسدوا قيمه و مقاصده في حركة حياتهم، و في علاقتهم بغيرهم.. تحققت لهم الخيرية، و صاروا سادة الأمم التي تتباهى علينا اليوم و تنظر إلينا من علٍ! .. أما حين اختل هذا الفهم.. و راج خطاب دعوي يعظم كثيرًا شأن العبادات الفردية، و لا يلقي بالاً لما أطلق عليه الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله) اسم «فروض اجتماعية و أخلاقية»، مثل: إتقان العمل، و احترام المواعيد، و النظافة، و الصدق، و عفة اللسان، و عدم انتهاك حرمة المال العام، و غيرها من القيم التي يجب أن تحكم علاقة المسلم بغيره و تصبغها بصبغة متميزة.. حين حدث ذلك انقلب الميزان و تحول السادة إلى عبيد لغير الله! .. إن علينا أن نصارح أنفسنا بالحقيقة المرة، و هي أن كثيرًا منا لا يحسنون فهم دينهم.. و من ثم تمثيله - و أن زهونا على الغرب بما «كنا» نتميز به من قيم أسرية و اجتماعية صار أشبه بـ «تعزية النفس»، و كأننا نخدر عقولنا و قلوبنا لكيلا نشعر بآلام التقصير و أوجاع التفريط، و نظل «نَجْتَرُّ» ماضينا الجميل لنتسرى به عن حاضرنا القبيح! و لعل الدعاة الذين يصرون على أن يلقنوا المسلمين فهمًا جريئًا و مشوهًا و مبتورًا لدينهم، يدركون أنهم سيحملون أمام الله أوزار أمة كانت بالأمس على القمة و تكاد اليوم أن تنسحق تحت أقدام من كانت تنظر إليهم من تلك القمة و هم غارقون في عرض التخلف تحت السفوح.
|
http://alzhour.com/essaydetails.asp?EssayId=1784&CatId=89 |
Comments
ما شاء الله عليك كاتبة مقال "متى نفهم:؟؟؟ وبالفعل متى نفهم ان المظهر ليس هو كل ديننا العظيم ؟؟ وما يحثنا عليه أكبر من ذلك تلك القيم التي هي بيننا اظنها اكبر قيمة لإسلامنا الكامل الشامل ...
RSS feed for comments to this post