في غفلة من الزمن، احتبَس الشوقُ و جَال في القلب الوَهَن، مرَّت تتخطَّر كحمامة، زَفَّت النَّسَمات إليه ريحَها، فوَقَفَ ينتَظِر و نارُ الوَجْدِ تتأجَّج في الجَوَى، لمَحته من بعيد، و على نهر نظَراته الشاردة، سَكبَت ابتسامةً، ترامَتْ على وَجْنتَيْهَا خَفَرًا.
تعثَّرَتْ ثَمِلةً لِمَرْآهُ، و تعثَّر قدرُهما في الحُظْوة بالوصل الحلال.
شابَّةٌ باسمةٌ حالِمةٌ، خرجَتْ مِن خِدْرها، ترمُقُ بلابل الدَّوْح إذ غرَّدَت، و تَرنُو إلى سِرْبها النائي في الأفق البعيد.
هو ابن العائلة المُحافِظة، خَلوقٌ ذو استقامة، به مواصفات الشاب الذي تهفو إلى كَنَفه الأنثى، فارسُ الأحلام و لا رَيْبَ، قَصَدَ أهلَها فاستأنَس و سَلَّم، إلَّا أنَّ البابَ بقيَ مُوصدًا في وجهه، و إنْ دقَّه حينًا بعدَ حين.
و تَتوالى السِّنُون تَتلوها السِّنون، تَحضُن بدفئها ألمَ النَّوَى، و تمحو خَرِيرَ الذكريات، عشرون سنةً أو ما يزيد، و تَلْقاه مِن بعيد، تتساءلُ في قَرارة نفسها: "أذاك هو؟ إي و الله هو، بلحمه و شحمه و دمه!".
ما حَرَّك اللقاءُ فيها شيئًا، فهي بنتُ اللحظة الحاضرة، و في صمتٍ تقاطَعَا، و الطريقُ خالٍ إلَّا منهما، ما زال على أدبه و حيائه، ما نَبَسَ ببِنْتِ شَفَةٍ، فالحياء إِهابُ النَّفْس و حِصْنُها الحصين.
أتُراه لم يعرفْها؟ كلا، بل عرفها.
أتغيَّرت؟ أجَل تغيرت، هي الآن أكثرُ مِرَاسًا للحياة، و أكثرُ شبابًا و تألُّقًا.
تعرف جيدًا أنْ لا شيءَ يستحق الدموع، و أنَّ نسيان المواجع سِرُّ كل نجاح.
عرَفَتِ الرجل و كيف يصبح حَمَلًا وديعًا في لحظةٍ ما، و يستأسد في باقي الأوقات، يملؤه الكِبر و الأنا، فينسى قلبه عند خوضه معترك الحياة.
و عرفَتْه قلبًا كبيرًا يحتوي المواجع و الآهات، يَغُضُّ الطرْف عمَّن سواها متى ما أخلصَتْ، فيَخْمُدُ كبركان يَحْسُنُ الحذرُ من ثَوْرته، و الاستعدادُ لها ترقُّبًا و تيقُّظًا في كل حين.
• • •
و تصطفُّ الأحرفُ متجافيةً، تنأَى و قد سلاها العناد، تلتفت إلى بقاياه في خاطرها، تمحو الذكرى، و تَلِجُ عالَم النسيان.
كبُرْعُمَةٍ غَضَّةٍ، رَسَمَكَ القَدَرُ في خيالها، زرَعكَ في كِيانها مخلوقًا مثاليًّا، رأتْ في ابتسامتك أحلى نغْمة إعجاب، و في نظراتك زهْو الروح و إشراقَها، و في هَمْسِكَ الدافئ حنينًا للحضن و الاحتواء.
لم تتجاوَزَا حدود التخاطر و الإعجاب مِن بعيد، و ما حدثَتْكما النفْسُ بما سوى ذلك؛ فتقاليد البيئة صارمة، و حُسْن التربية كان لكما خيرَ وِجاءٍ.
ما أكثرَ ما ردَّدَتْ شريطَ الأحداث، مِن أولِ نظرة و أولِ لقاء، متسائلةً في حيرة و تعجب: "لِمَ و كيف وقَع ما وقع؟!".
لِتَجْزِيَ لها الحياة جوابًا مُحَيِّرًا يحتاجُ إلى ألْف جواب، كطلسمٍ مِن طَلاسِمِ الغيب و أسراره.
هي الأرواح تشف و تسمو في عوالِمِها، جنودٌ مجنَّدَة، تتعارف فتتآلف!
أمَّا نحن، فنلتقي و نَنْتَشي فرحًا، تَخْفُق القلوب واجفةً مزهُوَّةً بالانتماء.
يحل الربيع فجأةً، و ترحل المتاعب و الأحزان.
أمَّا نحن، فنَغرَق في أحاسيسِنا، نُنَمِّقُها، نُثْقِل كاهلها بألْف عنوان و عنوان.
لا.. لا عناوين و لا تنميق هناك، في عالم شف و انكَشَف، تتراءى فيه السرائر، مُعلِنةً دَيْمُومةَ الحب و أبدية اللقاء.
ثم ماذا؟
تلاشَى الوَهمُ الجميل، سَلَبَها القدَرُ بفِراقك هَدْأةَ الليل، و هَجْعة الأصيل، لكنَّها سَلَتْ بقدَرٍ جميل خبأه صبرُها و الرضا، لتترفق كبرياؤها بسذاجتها التي بكَتْك، حين تنبَّهَتْ أنْ لا شيءَ يدوم، سوى العِفَّة و صَوْن النفْس.
• • •
أنصتَتْ لصدى صوت تردَّد مِن تلك السنين:
أتَشِي بقلب أحبَّك، و تترُكُه للحنين؟
للتَّسكُّع في دروب الذكرى!
ينخره الوجعُ، و يَنْكَؤه الأنين!
• • •
أُخالِجُ رُوحي، ما الذي يُنجي؟
سوى أنْ ألوذَ ببابك لحظةَ صفاء.
لكسرِ جُمُوح النفس؛ تلك الرَّعْنَاء.