حدّث أحدهم عن والده و هو من سكان قرى الحجاز، قال إن والده في نهاية كل أسبوع ينزل مع عدد من أصدقائه قادة القرية إلى تهامة حيث الدفء و الهدوء، و يشوون تيساً، ثم يتحدثون في السياسة الدولية، و ينتهون إلى أن سكان قريتهم هم خير سكان الحجاز.
و لكن الخاتمة الأهم أنهم ليسوا خير رجال الجزيرة العربية فحسب، بل هم خيرة العالم فهماً و ديناً و دهاءً. و ينتهي اللقاء إلى لقاء آخر غالبا ما تكون نتيجته هي نفسها ! ما دمنا في بلداننا لم نمر بمرحلة دولة حديثة، و لا دولة ديمقراطية تتبادل الاحترام بين أفرادها، إذ المحكوم و الحاكم يصنع كل منهم الآخر، و يتبادلون الأدوار، و أسوأ من هذا أننا لا نناقش الرأي و لا نتبادل الرؤية و المصير و لا نتحدث بحرية في الأمور، و لو كما كان سكان القرى يفعلون.
ما دمنا كذلك، فسيظل كل منا يكتم رأيه صوابا أو خطأ، و قد يأخذ حريته أيضا في الحديث لبعض المقربين جدا أو الموثوقين جدا ليعبر عما في باله، و قد يستطيع شرح خصوصياته الشخصية بلا خطر، و لكن الخطر الأعظم على نفسه و مستقبله و أسرته و ربما عشيرته أن يتحدث في الشأن العام، الذي هو شأنه أولا و شأن مجتمعه.
و لأن حرية الرأي في الدكتاتوريات أخطر من أي سلاح أو مخدر، و كل القرارات المهمة ضده، و العقوبات الأكبر تنال من يفكر أو يعارض برأي، و بما أن الرأي جريمة؛ فقد أصبح رأي الحاكم و المحكوم ضعيفا و مترددا و خجلا و مكسورا حتى قبل أن يعمل.
أما إذا عرض قوله أو رأيه في الخارج، فإنه يبعث على الضحك و السخرية، لأنه لم يسمح له بالنمو، و لا بالمواجهة الحرة، و لهذا تجدنا ننكب على الكتب المترجمة و المقالات المترجمة و الإعلام الأجنبي، و نهتم بقول السياسي الأجنبي، لأنه رأي مصدره إنسان حرّ و حكومة حرّة، مع هذا فإن ما يجعل "الحق يهمس بيننا و يقام للبهتان منبر" أن الباطل يصرخ في كل زاوية من حياتنا و من سياسات "حكومات"، لأننا لم نحاول حتى الهمس، و لا اقتحام عقبة قول الحق، فجريمة الصمت حاقت بنا نتائجها و شرّ الصمت يحيط بواقعنا و مستقبلنا.
لا أدعو إلى أن يدخل بقية نخبة مجتمع و مصلحيه و رجال الرأي فيه للسجون كما هي الدورة المعتادة عقوبة على كلمة الحق. و لكن على كل منا أن يمارس و يقول الحق و لو سراً، و لو في مجتمعه الصغير، و أن ينفي عن أسرته و زملائه و أصدقائه خبث و جراثيم التأييد الأعمى، فهو سرطان يفتك بالعقل و الخلق و السياسة و كل شيء، و يورث تسلطا أعمى، أدى في بعض المجتمعات إلى أن يتجسس الأطفال على والديهم و يكتبوا عنهم تقارير للسلطات.
أستحي من نفسي و أنا أكتب لكم هذا القول، و أقول "مارسوا قول الحق سرا في بيوتكم و بين أصدقائكم الموثوقين". لكن عقل القرية و داء الدكتاتورية العمياء الذي خسف بأمتنا في العصور الأخيرة و أخرجها من التاريخ، لتكون شراذم خائفة و ممتهنة و مهاجرة و هاربة و سجينة، أدى بنا لمطالب صغيرة جدا. فكيف نواجه سرطان الاستبداد الماحق إلا بكل وسيلة و منها كلمة الحق سرا، فقد تُبقي على بعض عقولنا و على شيئ من إراداتنا.
إن سوء الحال الذي نعانيه و المستقبل الأكثر قلقا يجعل الصراحة لا بد أن تتسلل لمقالاتنا و لِما نكتبه و نتحدث به. ليس هناك من مستبد يقبل سماع حقيقة أن الدكتاتورية و رأي شيخ القرية المتفرد بالسلطة هو ما أوصلنا لما نحن فيه من حال سيء و مستقبل مخيف.
كل شيء يحيط بنا يتقدم و يتطور فيما عدا العقل القرويّ الذي يسيّر حياتنا و يتحكم في مستقبلنا. و حتى لا أظلم القرى، فإنها كانت أسعد حالا من مدن الحكومات العربية، و ذلك لوجود صيغ مشورة "ديمقراطية" فيها و تصويت حقيقي للوصول للصالح العام. و لكن لما فوجئ العقل القروي فوجد نفسه يحكم شعبا، فإن الهيلمان ربما تغير، و لكن العقل لم يتغير، و استمرت عقليته التي لا تثق إلا بسكان قريته، و العباقرة أقاربه.
تلك هي الحقيقة، فالقرار يتم على عشاء بين الأقارب، و ربما كُسرت العادة بأجنبي مقرّب. لكن المناقشة هي هي و النتائج نفسها. و لم يحدث أن عمّرت بلدان الاستبداد مناقشة جادّة لمصيرها، لا سرية و لا مفتوحة، كما يناقش العدو الصهيوني -طبعا عدو الشعوب و ليس عدو الحكام- قضاياه في مؤتمر هرتزيليا، و لا يُطمح مع عقلية القرية أن يحدث نقاش نافع عام بأي صيغة برلمانية كما يتم في برلمانات العالم الناجح.
إن أي حكومة لا تصل لمواقفها و لمستقبلها من خلال مؤسسات و أشخاص و نخب ترسم مواقفها، و تجد نفسها بسبب تعدد مراكز التأثير مجبرة على سلوك سياسي تكرهه قيادتها أحيانا، ليست حكومة حديثة، بل هي عقول مظلمة بظلمات الاستبداد.
ذلك أن عقل القرية صغير و مستبد يدمر ما حوله لينجو بنفسه أو بأقاربه، و هذا واضح جدا في تشكيل الحكومات القروية، فإن القرى الأخرى، التي خاصمت أجداد القروي قد حكم عليها بالحرمان من المشاركة في الغنيمة حتى و إن غزت معه و صنعت له نصرا، فقد حكم على عقولها بالطرد، و حكم على مستقبلها بالهامشية، و يجند سكان قريته لقراره، و يحذر أطفاله من مشاركة القرية الفلانية لأنهم قد يضمرون لنا عداء، و ذلك أنه و هو يحكم يستخدم عقلا قرويا صغيرا وصله الدور في مسلسل تخلفي طويل يهيمن على المصائر في مشرقنا الجريح.
مأساة العقل القروي و دكتاتوريته التي منحته الظروف أنه يمنع نفسه من النمو و يحول دون تطوره بنفسه، و يمنع مجتمعه من صياغة أي حل للمآسي التي يصنعها، و لا يقدر على التراجع عن أخطائه، لأن الضعيف يتخذ قرارا ضعيفا، و يتورط فيه و لا يملك الشجاعة للخلاص منه، و لأن قراراته -كما روج لها مروّجوه- تاريخية و موفقة، و سيجد من إمام القرية المستضعف تأييدا، لأن إمام القرية و معلم الغلمان عادة ما يجمع له سكان القرية معيشته من شيوخها و أغنيائها، و يعطي بكل سهولة مبررا دينيا لقول من يمنحه.
تلك بعض الحقائق الواقعية في حال مجتمعاتنا حين نفترض و نطلب مواجهة العقل القروي للعقل الإمبراطوري، فلم يعد السياسيون المتبصرون يناقشون هذه الحقائق الملمة بنا، فالقرى و عقولها المحافظة لا تستطيع فهم و لا مواجهة العقول الإمبراطورية، و ليس لديها تأسيس و لا مؤسسات و لا تسمح بالأفكار المنقذة أن تتدخل و لو كانت ستكون فعالة إلا في اللحظة الأخيرة للانهيار، و مع ذلك فهي تضمر و تستعد للغدر بالناصحين لأنهم أحرجوها يوما ما، و شرحوا لها و للعالم سوء حالها.
العقل القرويّ صغير و ينتقم انتقاما صغيرا لأشياء صغيرة و مواقف مثلها، يجيد الكيد و لا يجيد الإستراتيجية. و الشعوب المقهورة بهذا العقل لا تملك و لا تنفذ و لا تخطط لإستراتيجية لأنها تعاني من أثر العقل القروي الذي جعل من تكوينه ثقافة عامة.
العقل القروي يعاند و يكابر جدا، و لكنه يستسلم للخارج، و يتعالى على الداخل، و يكيد لسكان القرى المجاورة، و لمن يخالفه من جيرانه، فهو ضيق الأفق، و صغير الهدف، و لو ناطح الكبار.
و الكبار يعرفون تماما أنه و لو خالفهم فسيتبع، لأن ليس وراءه من شعب له رأي، بل رعاع و ضاربو طبول، و فداوية لشخصه لا للبلاد و لا للقضايا الكبيرة. و يعلم الخارج أن خصومه هم جيرانه سكان قريته و القرى الأصغر، و أنه يفكر في نهب قرية مجاورة أو كسر جار، بينما أهل مشروع الإمبراطورية يفكرون في العالم، يفكرون في هيمنة على المحيطات و ما وراءها من عوالم، فليس العقلان طرفي مواجهة، و شتان بين عقلين تباعد بينهما الغايات و التكوين و إن قاربت بينهما الجغرافيا.
حمى الله القرية -و الكل قرى- من تعدد في الرأي يسبب خلافا قد يذهب بمتعة الرحلة و لذة الشواء.