إن من اشد ما يلقى الإنسان في حياته تنكر من حوله للصحبة، و كفرهم بعشرة طويلة، و انقلابهم على أيام وديعة، و جحدهم للحظات سعيدة.. نعم كم هو قاس أن يتنكر لك من بذلت له أيامك و سنواتك، و أعطيته نضارة شبابك، ثم ما يلبث أن ينقلب عليك بكل جرأة و صلف، متنكرا لكل ذلك، بل و جاحدا لكل لحظة وُدٍ عشتها معه، بل و غير آبه بالجروح التي خلفتها خناجر غدره و خيانته.
ما الذي تغيّر؟
إننا نعيش في زمن صار اللؤم طبعه الأول، و التنكر حال أهله، و لا ندري أتغيرت الطباع، أم تبدلت الأخلاق، أم انقلبت المقاييس، أم رحلت عن دنيانا القيم، أم اغتالت الماديات كل الفضائل و المحامد، حتى أصبنا في مقتل الوفاء و الإخاء
فكم غدر بنا من ظننا يوما أن الحياة من دونه تيه و ظلام، و كم خذلنا من حسبناه يوما شقنا الثاني، و توأم روحنا الصافي، و كم خيّب أملنا من اعتقدنا يوما انه نحن و نحن هو.. كم خذلنا هؤلاء بعد عشرة طويلة و ذكريات جميلة و أيام سعيدة و أسفار ممتعة.
عندما تقسو الحياة على الأب
كم من والد علم ابنه و رعاه و سانده في مراحل عمره كلها، حتى صار من كوادر المجتمع، لكنه بعد أن كبر و اشتد عوده تنكر له، و صرخ في وجهه بكل سفاهة:"الفضل لإرادتي و ذكائي" هكذا بكل بساطة..ثم ارتحل و ترك دموع الحسرة على خد والده المسكين، المكلوم من تقلب الزمان و تنكر الولدان
الأرملة الجريحة و الحياة القاسية
و كم من أمترملت أو طلقت، و قد تعلق بها أولادها، فأبت الزواج حرصا على لم شملهم، و تربيتهم على عينيها، و قد عزمت أن توفر لهم كل مقومات النجاح و الفلاح في حياتهم، فربتهم و سهرت على راحتهم و تعبت لأجلهم، بل لعلها عملت خادمة في بيوت الناس، و هي التي كانت قادرة على أن تتزوج، و يؤتى لها بمن تخدمها، لكنها الأم.. الأم المشفقة، الأم الحنونة.. حتى إذا صاروا كباراً، و قوي عودهم و فازوا بمناصب اجتماعية، تنكروا لها، و انفضوا من حولها، و تركوها غارقة في بحر من الأحزان، و هي التي ضيعت زهرة شبابها لأجلهم، فجازوها بالنكران و الجحود آخر حياتها.
عندما يهان الأستاذ
و كم منأستاذ ربى و علم، و نصح و أرشد، فلما دار الزمن دورته، و كبر الأستاذ و تقاعد، و تصادف أن التقى به طلبة الأمس، ضحكوا من انحناء ظهره، و شيب شعره و تهامسوا بالسوء و قهقهوا، و ما رعوه حق قدره، حتى إذا اقترب منهم أشاحوا عنه بوجوههم، كأنه لم يعرفهم و لم يعرفوه، فأي سفالة أكثر من هذه التي تجرح من كاد أن يكون رسولا.
زوجة وفية و زوج فرعوني
و كم من زوجة وفية عانت لافتقار زوجها، فصبرت على ذلك، و حرمت نفسها من متع الدنيا الحلال، و إن ساءت حاله أكثر تحملت ضعفه و مرضه فلما قوي و اغتنى تنكر لها و تغير حاله معها، و لعله طردها بعد أن طلقها، و لم يرع تلك الأيام التي وقفت فيها إلى جانبه في الشدة و الضراء و البلاء، فتركها في صدمة نفسية لا يخرجها منها إلا لطف الله بها، فأين الود و العرفان؟ أم صار النكران هو الديدن.. و قد قال تعالى " و لا تنسوا الفضل بينكم".
زوج كسرته قسوة الجحود
و كم من زوج جعل زوجته تاج رأسه و أميرة بيته، و رعاها حق الرعاية و صان عرضها و حمى شرفها،، و أحسن إليها كل الإحسان، لكنها كفرت بالعشرة و قالت "ما رأيت منك خيرا قط'' فأي تنكر هذا و أي ظلم بعد هذا الظلم؟
و بكى الشيخ
و كم من شيخ درس و شرح و فصّل و فسر لطلبته، فلما كبر الواحد فيهم و ظن أنه قد تعلم، تنكر لشيخه و لعله سفّهه، و عيّره بالقصور و الجهل و قلة العلم، فاعتزل الشيخ مكلوما بجراحه، ممن ظنهم أولياء الله في صغرهم، فأين الود و العرفان أم أن الجحود صار دينا في هذا الزمان؟
ذبحتها بسكين الصداقة
و كم منفتاة قضت نصف عمرها وفية لمعاني الصداقة مع صديقتها الوحيدة، فكانت تسهر معها الليالي في مذاكرة الامتحانات، و تلخيص الدروس، بل و ساندتها في محن مريرة، فكانت تحزن لحزنها و تبكي لبكائها.. و كانت شمس نهارها، و بدر ظلمتها، و الأخت التي لم تلدها أمها، و كم فرحت لفرحها فأهدتها أغلى الهدايا، و لكن هذه الصداقة تحولت إلى كابوس بعد أن تزوجت صديقتها، فقد تنكرت لها، و ارتحلت عنها، فإن رأتها في عرس أو قرح أشاحت عنها بوجهها، كأنها لم ترها و لم تعرفها، فكان فعلها سببا لانهيارها و انزوائها في زاوية، تبكي الأيام الملاح التي خلفتها لحظات قسوة و جحود، و غدر صديقة ناكرة، كيف لا و قد طعنتها غيلة و غدرا في ظهر صداقتها.
هكذا باعه إخوته
و كم من أخ تيتم إخوته فترك دراسته، و تفرغ للعمل لإعالة إخوته و تربيتهم؛ مخافة أن ينحرفوا و يضيعوا، لكنهم كبروا و تغيروا بل تنكروا له، بل لربما طالبوه بالرحيل عنهم، و طردوه شر طردة، فإذا هو كالمجنون لا يعي ما حدث له، و هو الذي أبى الزواج يوما حتى يكفلهم، و أبى أن يعيش شبابه من أجلهم و أنفق كل ماله ثم رموه من أعلى عمارات التنكر.
و داس على شمعة حياته
و كم من ضال كان تائها في طرقات الغواية و الضلال، فسخر الله له صديقا أو أخا أخذ بيده إلى طريق الإيمان و السلام، لكنه تغير بعد أن ظن أنه قد وصل، فهجر أخاه و سفهه، بل حتى السلام عنه قد قطعه، فيا له من موقف تهد منه الأبدان في زمن التنكر للخلّان.
فليعد الوفاء إلى حياتنا
إن الحر الأصيل ليأنف أن يسقط في سفالة النكران و مهاوي الجحود، لأنها من طباع اللئام و خصال أهل النفاق، و طبائع القلوب المريضة، و الحر يأبى أن يتلبس بصفات الجحود؛ لأن من كانت تلك صفاته كان جاحدا بنعمة الله تعالى، و كان ذلك مدعاة لغضب الرب تبارك و تعالى قال ابن الأثير في النهاية: "من كانت عادته و طبعه كفران نعمة الناس و ترك شكره لهم، كان من عادته كفر نعمة الله عز و جل و ترك الشكر له"، فليعد الوفاء إلى حياتنا، حتى يعم السلام مجتمعنا، و تنكفيء الدموع و الأحزان عن أيامنا، و خير الناس من حفظ أمانات العِشرة، و كان وفيا لمن أعطوه يوما جزء من حياتهم، و كانت مكانته عندهم بمثابة الروح من الجسد، فلنشع الوفاء لننعم بمشاعر الهناء في حياتنا، و لنعد بناء جسور الوفاء في حياة مجتمعنا و أسرنا، لننعم برضى الله، و محبة الناس أجمعين.