أخبرتني والدتي عن قريتها عندما كنت في السادسة من عمري، و علمت فيما بعد سر هذا التوقيت الذي اختارته. تاريخ محفور في وجدانها، حفر في ذاكرتها يوم إرغامها مع أهلها على ترك القرية و كانت في السادسة من عمرها. لم تنسى أن تخبرني أدق التفاصيل من أجل الحفر أكثر و أكثر في الذاكرة المتوارثة أبا عن جد.
قصتها يوم النكبة كانت لا تشبه قصص الأطفال في الأدب الأميركي و لا الأدب الإنكليزي الذي كان لجنرالاته الدور الأبرز في حرمان والدتي من لعبها و حديقة منزلها، الجنرال الإنكليزي الذي كان يريد استخدام جدي للعمل في منشآته، لم يكن ينظر إلى الطفلة و حقوقها في ذاك اليوم، بل كان ينظر إلى طفلة يهودية ستأتي من بولونيا ربما لتأخذ مكان والدتي.
حدثتني عن رفيقاتها و هن يلعبن في كرم التين، و السلة التي تملأها تيناً ظنا منها بأنها ستحمل معها السعادة إلى البيت، و لكنها لم تكن تعرف هذه الطفلة البريئة بأن من يلبسون الثياب العسكرية من اليهود كانوا ينتظرونها مع رفيقاتها أثناء العودة، فقط لرمي التين من السلة لدوسها بالأرجل و تعود بعدها والدتي بسلة فارغة. هل كان لدينا حكام و ملوك عندما كانت دموعها و خوفها لا حد لهما عندما أطلقوا النار على الأطفال في كرم التين و قتلوا أحدهم. نجت والدتي و حدثتني عن مسكن محفور في ذاكرتها في قريتها صلحا لا زالت تذكر تفاصيله، عشت معها هذا التذكر و مع كل قصة كانت تسردها لي كنت أسافر جنوبا حيث قريتها و أتلمس حيطان المنزل و أشم رائحته.
شهدت والدتي التحرير عام 2000 و وقفت على تلة مارون الراس و عاينت منزلها المحفور في وجدانها، و لم أتفاجأ كيف اني لم أجد صعوبة في معاينته أيضا لأنه محفور في وجداني أيضا، و أيقنت بأن علي أن أبدأ بسرد قصتي عن الأرواح الحية التي تسافر، فروحي كانت مسافرة مع والدتي هناك حيث الرائحة الزكية و كنت أسكن مع أمي هناك طيلة هذه السنين، و بالتأكيد فإن المحتلين للمنزل لم يهنؤا به و لا للحظة لأن ارواحنا الحية كانت تطاردهم و لا زالت تطاردهم حتى نطردهم من الأرض و من الهواء و من البحر، بأرواحنا أو مشيا على الأرجل أو زحفا على الأيدي سنعود.
النكبة يوم العودة نزيهة صالح