الكلُّ يرقب الدقائقَ و الثواني، يختلس النظر إلى ساعة جوَّاله:
الأستاذ يحاول لَمْلَمة و جمع شتات أفكاره؛ لتسجيلِ حوصلة الدَّرس على السبورة، أو الاكتفاء بإملائها بخفَّة على التلاميذ!
التلاميذ لم تَعُدْ لديهم القدرةُ على الصبر، لا طاقة لهم بالتحمُّل أكثر، تزايَدَتْ تَمْتماتُهم، و عَلَت همساتهم، الحركةُ دؤوب بينهم لجمع الأدوات.
و فجأة، و فجأة يرنُّ جرسُ العاشرة، هو ذا وقت الاستراحة!
و كأمواج هادرةٍ يتدفَّق التلاميذ إلى الساحة، تَعِجُّ بهم فضاءاتُها الرَّحْبة و تموج، يغمرونها بحيويَّة و مرح.
أما الأساتذة، فيُهرَعُون خِفافًا سِراعًا صوب قاعتهم، لارتشاف القهوة و شرب الشاي، ينادي أحدهم:
"القهوة خضرة، الشاي صيني، و النعناع ازنيني..".
و ينتاب الجميعَ شعورٌ غامر بالغبطة و الابتهاج، و كأنهم في حفلٍ صغير!
مشهد يتكرَّر كلَّ يوم دراسي، إلا أنَّه لا يُمَلُّ، فهو جديد بتجدُّد الأيام، له طعمه الرائق، و نكهته الخاصة، التي لا يكاد يسلو عنها من عاشها حقًّا، و عاينها صدقًا.
♦♦ ♦ ♦♦
يتجمَّع الأساتذة حِلَقًا داخل قاعتِهم المخصَّصة: هذا يُطلِق مزحة، و الآخر يستلطفها فيرد عليها معلِّقًا أو ضاحكًا، و ذاك يشكو همًّا و يفتح جرحًا، و أولئك يتنصَّلون.
يتنصَّلون؟! خوفًا مِن نشر النشارة، فما أكثرَ الجراحَ و النُّدوب و الخلايا السَّرطانية في جسد منظومتهم التَّعِسَة!
أما هنَّ - و ما أدراك ما هنَّ؟! - فالحديث بينهنَّ ذو شجون، فمِن كيفيات صنع الحلوى، إلى طرائق تحضير الأطباق و الأكلات، و ربما كان لبعضهنَّ شأنٌ آخر، الاتجار بالملابس و أدوات الزينة، فكثيرًا ما تكون السوق هنا رائجةً، إي و اللهِ، و رابحة أيضًا!
و تنتهي عَشرُ الدقائق بضجيجِها و صَخَبِها، و كأنها عشرُ ساعاتٍ؛ لكثرة ما فيها من أحداث و لقاءات، و حتى شجارات أحيانًا!
يعود الكل إلى الأقسام، و يثَّاقَلُ الزمن في السَّاعتين الأخيرتين؛ لتُصبِحَا بطول عامين مِن عمر ذاك الأستاذ البائس، و هذا التلميذ الطائش، ليدقَّ الجرس عند تمام منتصف النهار، معلنًا انتهاء الدوام الصباحيِّ.
و هنا يهتف البعض مُردِّدًا: "تحيا لثناعش[2]!".
أجل، بعد كرٍّ و فرٍّ!
[1] ازنيني: نسبة إلى مدينة (ازنينة) الإدريسية حاليًّا، من مدن "الألف عام"، تقع شمال صحراء الجزائر، كانت ممرَّ قوافل التجارة و طلاب العلم قديمًا، يحرص أهل المنطقة على استخدام (نعناع ازنينة)؛ لنكهتِه الخاصة.
[2] لثناعش: تعني الثانية عشرة (باللهجة المحلية)، و في الهُتاف هنا معنى: تحية إكبار لمن عمل من الثامنة حتى الثانية عشرة، و فيه أيضًا معنى أن الثانية عشرة أزاحت عنا التعب بحلولها أخيرًا.
الرابط : http://www.alukah.net/literature_language/0/126060/