عندما انتشر الإسلام بين العرب و غيرهم انتشر العلم؛ لأن الدين مرتبط بالعلم الشرعي و بالقرآن الكريم، فقد كان مَن يعرف القراءة يأخذ بيد مَن لا يعرف، و يعلِّمه القرآن الكريم، و يتبادلانِ ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأحاديث.
كما أن النبي صلى الله عليه و سلم حثَّ بعضَ أصحابه أن يتعلَّموا لغةً غير اللغة العربية، عندما دَعَتِ الحاجة إلى ذلك؛ ففي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت قال: أُتي بي إلى النبي صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة، فقيل: هذا مِن بني النجَّار، و قد قرأ سبعَ عشرةَ سورةً، فقرأتُ عليه، فأعجبه ذلك، فقال: ((تعلَّم كتاب (كتابة) يهود؛ فإني ما آمَنهم على كتابي))، ففعلتُ، فما مضى لي نصف شهر حتى حذِقتُه، فكنتُ أكتب له إليهم، و إذا كتبوا إليه قرأتُ له.
و في حديث آخر عن زيد بن ثابت، قال: قال لي النبي صلى الله عليه و سلم: ((إني أكتبُ إلى قومٍ فأخاف أن يزيدوا عليَّ أو ينقصوا، فتعلَّم السريانية))، فتعلَّمتُها في سبعةَ عشرَ يومًا، و هذا يعكس لنا مدى الإخلاص في طلب العلم من الصحابة تنفيذًا لأمر الرسول صلى الله عليه و سلم، كما يدل على العبقرية القوية التي يتمتَّع بها زيد بن ثابت[1].
و قد كثرت بين العرب القراءةُ و الكتابة - بصورة ملحوظة - في عهد التابعين رضوان الله عليهم، كما أن غير العرب الذين دخلوا في الإسلام اضطروا إلى تعلُّم العربية لمعرفة شعائر دينهم، و لأمور دنياهم.
أضِفْ إلى ذلك أن الفتح الإسلامي استتبع الحضارة، فبُنِيت في عهد عثمان و مَن بَعده الدُّور و القصور، و اقتنى كثير من الصحابة الأموالَ و الجنان و العيون؛ كالزبير بن العوام، و عبدالرحمن بن عوف، و سعد بن أبي وقاص، و المقداد، و هذا - من غير شك - يستتبع رقيَّ الصناعة و منها الكتابة[2].
و من المعروف أنَّ القرآن الكريم و السُّنة الشريفة قد قدَّما علمًا كثيرًا، تمثَّل في حديثهما عن آدم، و نوح، و إبراهيم، و يوسف، و موسى، و يونس، و داود، و سليمان، و غيرهم، عليهم السلام، كما أنهما تحدَّثا عن الأمم الأخرى؛ كاليهود و النصارى، تاريخًا و دينًا، فنتج عن ذلك نوعٌ من الثقافة أفاد جميع المسلمين من عربٍ و غير عرب.
كما شجَّع الإسلام أتباعَه على طلب العلم حين رفع قدر العلماء و العلم، كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، و قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ أُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾ [آل عمران: 18].
و قد أقسم الله تعالى بالعلم و بأدواته؛ حيث قال تعالى: ﴿ ن وَ الْقَلَمِ وَ مَا يَسْطُرُونَ ﴾ [القلم: 1]، كما أمر الله سيدَنا محمدًا صلى الله عليه و سلم بالاستزادة من العلم؛ حيث قال تعالى: ﴿ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
و إلى جانب هذه المعارف التي قدَّمها القرآن و السُّنة، أضاف القرآن بُعدًا آخر عندما دفع العقل إلى النظر إلى ما في العالم من ظواهر: ﴿ أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 185]، ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَ قُعُودًا وَ عَلَى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191]، ﴿ وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحثُّ على العلم و الفكر و النظر في الكون[3].
بداية الحركة العلمية:
و لئن كان المسلمون خلال العقود الأولى من ظهور الإسلام قد انشَغلوا بتغيير العالم و نشر الإسلام، و إزالة العقبات التي تعترضُ تعرُّف الناس الحقيقي على هذا الدين، في ظل حملات تشويه رومانية و فارسية، تشبه حركات الأوروبيين (المستشرقين بخاصة)، في التجني - بأساليب كثيرة - على حقائق الإسلام و مصادره و رسوله صلى الله عليه و سلم في عصرنا؛ فإنهم سرعان ما أصبحوا قادرين بعد موجة الفتوحات الأولى، و بتوجيه من القرآن الكريم، و السُّنة الشريفة على تقديم حقائق الإسلام للإنسانية، و ذلك جنبًا إلى جنب، مع نشرهم للإسلام، و تفاعلهم الحضاري مع الشعوب التي اختلطوا بها، و قد ظهر ذلك مبكرًا؛ حيث كانت روح الدعوة و ثقافة الإسلام و قِيَمه الحضارية تمضي مواكبة لحركة التقدُّم في قارَّات الأرض، فلم تكن الفتوحات، و لم يكن أصحابها طلابًا للدنيا، بل كانوا طلابًا للدين، و هم لا يقدمون الدين إلا و معه ثقافته و نظرته الربانية إلى الكون و الحياة والإنسان[4].
و يؤكِّد هذه المواكبة العلمية للدعوة و الفتوحات ما سجَّلته المصادر الوثيقة عن طبيعة الفتوحات الإسلامية على أنها فتوحات للأرض و العقل و القلب في نسيج واحد.
و لعلَّ مما يُوضِّح هذا - إلى جانب مواقف الرسولِ صلى الله عليه و سلم بعد الهجرة في المدينة - ما ألمحنا إليه سلفًا مِن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم، كان هو الإمام و القدوة في رعاية الحياة العلمية؛ ليس في المدينة وحدَها، بل في كل موقع يهيمن الإسلام عليه، فعندما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم (مكة) خلَّف فيها معاذ بن جبل يُفقِّه أهلها، و يُعلِّمهم الحلال و الحرام، و يُقرِئهم القرآن، و كان معاذٌ من أعلم الصحابة بالحلال و الحرام، و من أقرئهم للقرآن، و قد شارك معاذًا في تعليم أهل مكة الصحابيُّ الجليل عبد الله بن عباس، و أشهر مَن تخرَّج في المدرسة المكية من التابعين الموالي مجاهد بن جبير، و عطاء بن أبي رباح، و طاوس بن كيسان رضي الله عنهم أجمعين.
أما في المدينة: فقد تصدَّر للعلم و التعليم فيها عمرُ و علي بن أبي طالب، و لكن زيد بن ثابت كان الأكثر تفرغًا للعلم، و تبِعه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
و حول علم (زيد) قال سليمان بن يَسار: (ما كان عمرُ و لا عثمان يُقدِّمانِ على زيد بن ثابت أحدًا في القضاء و الفتوى و الفرائض و القراءة).
و كان ابن عباسٍ يأخُذُ برِكاب زيد بن ثابت و يقول: (هكذا يُفعل بالعلماء و الكبراء)، و كان ذا عقل رياضي، فكان أعلم الناس بالفرائض (المواريث)[5].
أما عبدالله بن عمر رضي الله عنه، فكان متخصِّصًا في جمع الأحاديث و روايتها، و كان يتحرَّج من الفتوى.
أما في العراق، فقد برز الموالي بصورة كبيرة، فقد كان هؤلاء الموالي هم البارزين في الحِرف و الصناعات و التجارة في العراق، بينما انشغل العرب بالسياسة و الحرب و طلب الرئاسة؛ كما ذكر ابن خلدون[6].
و قد نزل في الكوفةِ مِن أصحاب رسول الله كثيرون؛ أشهرهم الإمام علي بن أبي طالب، و عبدالله بن مسعود، رضي الله عنهما، الذي كان أكثر تفرغًا لمجال العلم و التعليم، فأخذ عنه كثيرٌ من الكوفيين و أصبحوا تلامذته و ناشري علمه و فضله، في مجال الدراسات القرآنية، و في رواية الأحاديث التي سمِعها من رسول الله صلى الله عليه و سلم، كما كان يُفتي استنباطًا من الكتاب أو السُّنة أو القياس، إذا لم يَرِد كتاب و لا سنة، و قد خلفه تلامذته: علقمة، و الأسود، و مَسروق، و عبيدة، و الحارث بن قيس، و عمرو بن شرحبيل.
أما البصرة، فقد نزل بها عدد كبير من علماء الصحابة، أشهرهم أبو موسى الأشعري، و أنس بن مالك، و كان الأشعري فقيهًا، فوق معرفته القرآن و الحديث، أما أنس بن مالك، فكان آخر مَن تُوفِّي بالبصرة من الصحابة؛ حيث توفى سنة 92 ه رضي الله عنه.
أما أهل الشام، فقد بَعَث إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مجموعةً من الصحابة الأخيار، و قد أورد البخاري في التاريخ: أن يزيد بن أبي سفيان كتب إلى عمر: (قد احتاج أهل الشام إلى مَن يُعلِّمهم القرآن و يُفهمهم، فأرسل معاذًا و عبادة و أبا الدرداء)؛ فكان هؤلاء أولَ مُؤسِّسي المدرسة الدينية بالشام.
و قد بعث عمر بعد هؤلاء عبدالرحمن بن غنيم، فتخرج على أيديهم جميعًا كثير من التابعين؛ كأبي إدريس الخولاني، ثم مكحول الدمشقي، و عمر بن عبدالعزيز، و رجاء بن حَيْوة.
أما مصر: فقد كان مِن الصحابة الذين نزلوا إليها علماء علَّموا بها، و أشهرهم عبد الله بن عمرو بن العاص؛ و كان مِن أكثر الناس حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و يُعد عبدالله بن عمرو بن العاص بحقٍّ مؤسِّسَ المدرسة المصرية، فقد أخذ عنه كثير من أهل مصر، و كانوا يكتبون عنه ما يحدث.
و قد اشتهر من مدرسة مصر - بعد جيل الصحابة - يزيد بن أبي حبيب، و هو نوبي الأصل من دنقلة، ثم جعفر بن ربيعة من العرب، و من الموالي يزيد بن أبي حبيب، و عبدالله بن أبي جعفر، و كان من أشهر تلاميذ يزيد (عبد الله بن لَهِيعة من حضرموت، و الليث بن سعد)، فكانا القمة في علمهما و فضلهما، و إن كان الليث قد أُطلق عليه لقب (فقيه مصر)، و فضَّله الإمام الشافعي على الإمام مالك، مع أن الليث كان على صلة حسنة بمالك، و كان يساعده على أعباء الحياة المعاشية، فرضي الله عن الجميع.
أهم المؤسسات العلمية[7]:
1- المساجد: المسجد هو النواة الأولى للمدرسة في الحضارة العربية الإسلامية؛ يتعلَّم الناس فيه القراءة، و الكتابة، و القرآن، و علوم الشريعة و اللغة، و العلوم الأخرى.
2- الكتاتيب: و قد كان الكتَّاب في الأصل ملحقًا بالمسجد و يقام إلى جانبه؛ لتعليم القراءة و الكتابة و القرآن، لكنه استقلَّ عن المسجد بعد ذلك.
3- مجالس المناظرة: و تُقامُ في الدُّور و القصور و المساجد، و ذلك في علوم اللغة و الفقه و النحو و الصرف و الدين.
4- المكتبات: مثل بيت الحكمة في بغداد، و مكتبة الإسكندرية و غيرها[8].
و كانت العلوم التي تدرس في هذه الأماكن هي التي تتَّصِل بالقرآن الكريم، و يطلق عليها العلوم النقلية أو الشرعية، و تشمل علوم الحديث و التفسير و الفقه و اللغة و النحو و الصرف و الأدب و غيرها.
و علوم أخرى أطلق عليها اسم (العلوم العقلية)، و أحيانًا (علوم الأوائل)، و تشمل التاريخ و الجغرافية، و الرياضيات و الأرصاد، و علم النبات و علم الحيوان، و علم الأرض، و الكيمياء، و الطب، و الصيدلة، و غيرها.
[1] أحمد أمين: فجر الإسلام، ص (84، 85)، بتصرف.
[2] توفيق الطويل: قضايا من رحاب الفلسفة و العلم، ص (224)، دار النهضة العربية، القاهرة 1986.
[3] السعيد الورقي: في مصادر التراث العربي، ص (279)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الإسكندرية 1979.
[4] السعيد الورقي: في مصادر التراث العربي، ص (379).
[5] توفيق الطويل: قضايا من رحاب الفلسفة و العلم، ص (246).
[6] ابن خلدون: المقدمة، ص (236).
[7] أحمد شلبي: التربية و التعليم في الفكر الإسلامي، ص (46 - 115)، موسوعة الحضارة الإسلامية، مكتبة النهضة المصرية 1987.
[8] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا، ص (100 - 107).