يميل قدر غير يسير من الكتاب و الباحثين الى الاعتقاد بأن “الكورونا” قصم ظهر العولمة، و ان الانكفاء مرة أخرى نحو ” الدولة القومية” و العودة بهذه الدولة لوظائفها التقليدية و تفكك النظم الإقليمية و استعادة مفهوم السيادة الذي صقله جان بودان في القرن السادس عشر، و أن “الكورونا” سينتهي بتفكك بنية النظام الدولي القائم حاليا.
أنا أقف على النقيض تماما من هذا الرأي، بل أن “الكورونا” بانتقال آثاره العضوية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية عزز الإحساس باتساع نسيج العولمة، رغم بعض ردات الفعل الآنية عليه من زاوية العولمة.
من الضروري بداية، أن نفرق بين ظاهرة العولمة كعملية إجرائية ( Process ) و بين المنظور المعياري لها (Normative)، أي ضرورة التمييز بين العولمة كتعبير عن تداخل و تشابك آليات و أطراف المجتمع الدولي لتشكيل نسيج عنكبوتي (cobweb) و بين المنظور المعياري القائم على تحديد من المستفيد و من المتضرر و المحاكمة الأخلاقية و الإنسانية لها، فالجزء الثاني ( المنظور المعياري ليس هو ما أريد مناقشته هنا لأن الباحثين قتلوه بحثا)، ما أريد التركيز عليه هو سؤال محدد : هل سيسير المجتمع الدولي نحو تمزيق خيوط عنكبوت العولمة…أنا اقول لا مع الإقرار بأن عملية النسج ليست ذات طابع خطي (Linear).
من الضروري التنبه لثنائية الترابط و التفاعل الدولي كما شخصها اميل دوركهايم، فهناك الترابط الآلي (اللغة و الدين و القومية و العرقية و الطائفية و المذهبية و اللون …الخ) التي قد يرتد لها الفرد في اللحظة التي يشعر فيها بخيبة امله من الترابط العضوي القائم على الترابط الاقتصادي و التنظيمي و الهم الإنساني مثل القلق من التلوث البيئي أو الأوبئة (مثل الكورونا) أو من أسلحة الدمار الشامل أو غير ذلك.
إن الارتداد إلى الترابط الآلي ( العودة لمنظور الدولة القومية) مرهون بتراخي و تفكك مؤسسات الترابط العضوي، فهل يحتمل البناء العالمي حاليا تفكك مؤسسات الترابط العضوي، هنا لا بد من التوقف أمام المؤشرات التالية التي تكشف عن عمق و كثافة نسيج العولمة :
أولا: الشركات متعددة الجنسية
طبقا لتقديرات الاتحاد الأوروبي تسيطر هذه الشركات على نصف التجارة العالمية، و حيث أن هناك 60 ألف شركة متعددة الجنسية و لها حوالي نصف مليون فرع تغطي كل أرجاء المعمورة، فهل ستفك هذه الشركات العملاقة مصانعها و فروعها التي تغطي الإنتاج و التسويق و الخدمات ما بعد البيع …الخ، ؟ قد تحدث تعرجات في نشاطات هذه الشركات كما حدث قبل حرب الكورونا عندما انخفض حجم التجارة العالمية 1.1% بين 2018 و عام 2019 الماضي و قبل الكورونا.
ثانيا : التجارة العالمية
اتسعت التجارة الدولية من 1950 الى 2019 من حوالي 62 مليار دولار الى حوالي 19 تريليون دولار، أي بمعدل اكثر من 306 اضعاف. و بمعدل 4.4 اضعاف سنويا، فالتراجع في هذا الحجم سيحدث بالتأكيد لكني اعتقد انه سيعود للانتعاش بمجرد اللحظة الاولى بالاطمئنان على جبهة الكورونا.
ثالثا: الاستثمارات الخارجية
تبلغ قيمة الاستثمارات الخارجية دوليا حوالي 1.3 تريليون عام 2018 بتراجع للسنة الثالثة ( أي قبل الكورونا) عن ارقامها عام 2015، و لكن هذه المبالغ الهائلة كيف سيتم تفكيكها، بل قد تعرض الدول التي فيها هذه الاستثمارات مزيدا من الإغراءات على الجهات المستثمرة لتبقى و تحول دون انهيار الاقتصاديات لهذه الدول.
رابعا: العمالة الاجنبية
هناك حوالي 164 مليون عامل اجنبي طبقا لأرقام منظمة العمل الدولية يعملون خارج بلادهم، و يقومون بتحويل مبالغ هائلة سنويا لاقتصاد دولهم، فهل سيترك هؤلاء أعمالهم ؟ و ثرواتهم؟ إنهم يتوزعون في مناطق الجذب، (32% في أوروبا، 23% في أمريكا الشمالية، 13.9% في الدول العربية، 13.3% في دول آسيا الاخرى، و 7.9 في إفريقيا و7.1 في الباسيفيكي…الخ).
خامسا: الطلاب الأجانب و الفروع الجامعية الخارجية
(فروع الجامعات على غرار فروع الشركات متعددة الجنسية)
فمثلا، هناك 5.3 مليون طالب أجنبي يدرس خارج بلاده بزيادة 3 ملايين خلال الفترة من 2000 إلى الآن ( منهم حاليا 330 ألف طالب امريكي خارج الولايات المتحدة) و هناك على المستوى العالمي 255 فرعا لجامعات اجنبية، فهل سيترك هؤلاء الطلاب جامعاتهم الأجنبية، و هل ستقفل الجامعات الأجنبية أبوابها، و هل تستطيع الدول تحمل استيعاب الطلاب العائدين و العمالة العائدة و كل ما يترتب على ذلك من خلل اقتصادي و إجتماعي؟
سادسا: شبكة المنظمات الدولية غير الحكومية
خلال الفترة من 1990 إلى 2020 ارتفع عدد المنظمات الدولية غير الحكومية من ستة آلاف منظمة إلى 40 ألف منظمة تغطي تقريبا كل قطاعات الحياة، و أصبح لهذه المنظمات نفوذا سياسيا و قانونيا و إنسانيا عابرا للحدود القومية …الخ، فكيف سيتم تفكيكها؟
لا وقف العولمة بل ” تنظيمها أكثر” و التنبه لأبعاد جديدة بغض النظر عن التقييم المعياري لها
في ظل ما سبقت الإشارة له، فإن “الكورونا” سيدفع قوى الترابط العضوي إلى تكييف نفسها في بداية الأمر، و سيدفع الترابط الآلي بعض الشيء، لكن الترابط التقني ( المواصلات و الاتصالات و الانترنت) و الترابط المناخي ( بالمناسبة فإن “الكورونا” نتيجة شلل المصانع و الطيران و المواصلات البرية دفع لانخفاض حاد في نسبة العناصر الملوثة مثل ثاني أكسيد الكربون بل إن الصين خفضت من استخدامها للفحم بنسبة تقارب 40% طبقا لبعض التقارير) و المؤشرات التي أشرت لها سابقا ستكون استراتيجيتها القادمة هي لا وقف العولمة بل ” تنظيمها أكثر” و التنبه لأبعاد جديدة بغض النظر عن التقييم المعياري لها، فالعنكبوت باق، و النسج مستمر و بطرق جديدة و قديمة، و قد تُحدِث الصدمة بعض الارتداد لمدة عامين أو أكثر ثم تعود حليمة لعادتها القديمة. فكما وجد العالم في عصبة الأمم مخرجا بعد الحرب العالمية الأولى و الأمم المتحدة بعد الحرب الثانية، سيتكيف مع الزائر الجديد و يواصل مسيرته…ربما.
الرابط : https://islamonline.net/34387