و تصبحُ على يومٍ لم تكنْ تتوقعة، لربما تمنيه… و لربما أبدأ ما أردته، فجأة تجدُ نفسكَ تُلزَمُ البيتَ مع زوجتك و أولادك. و كان قبل شهرٍ من الآن يتمنى البعضُ و لو بالإمكانِ أن ينالَ قسطاً من الراحة، و أن ينامَ ساعةً أو ساعتين من الصباحِ الذي ألذَ ما فيه … و يفتقده الكثير منا… أن يختبأ َتحتَ أغطيتهِ الدافئة، و أن يُوقف تلك العجلةِ من الأحداثِ و ذلك الروتينِ المرهقِ كل صباحٍ من توصيلِ الأولادِ للمدارسِ و ثم الذهابِ الى عمله. و آه من الوظيفةِ و الأشغالِ و المسؤوليات و وجعِ الرأس و أه .. من هذا و ذاك
وجدَ نفسه في إجازةٍ، و فرحته بها ما تجاوزت الثلاثةَ أيامٍ، و هي حقُ الضيفِ لا أكثر. نامَ ولصباحٍ يتيمٍ في هدوءٍ و أولاده و زوجته، و استيقظَ الجميعُ بسعادةٍ عارمةٍ، و خصوصاً أطفاله الذين يكادون يطيرون من الفرحِ لغيابهم عن المدرسة، لكأنما كانوا في سجنٍ و أفرجَ عنهم قبلَ انقضاءِ محكوميتهم لحسنِ السير و السلوك. و زوجته استيقظت نشيطة.. لتعجنَ الفطائرَ، و تحضرُ ما طابَ من الطعام. و قبل أن ينتهي النهارُ، وجدَ قائمةً طويلةً بمستلزماتٍ و أطعمةٍ و مشروباتٍ و مشترياتٍ ..انقطعت أنفاسه .. و هو يرى زوجته كلَ حينٍ و حين .. تأتي مسرعةً، و القلمُ في يدها كأنه سيفُ عنترة .. لتسجلَ غرضاً تذكرته قبلَ فواتِ الأوان.
مصاريفَ فاقت توقعهُ و أغراضٌ و حاجياتٌ تكفي لشهرين و أكثر تكدست بها الأرففُ و الخزانات.و أتتهُ الأنباءُ بما لا يهوى … عليه انجازُ أعمالهِ من البيت، و اكمالِ معاملاتِ الشركةِ على الإنترنت، و أُلزِمَ الجلوسَ في غرفةِ النوم و على السريرِ بالتحديدِ حتى لا يشاركَ ولديهِ في الصفِ السادس و الثامن ِغرفةَ الطعامِ، و الجلوس على طاولةِ السفرة حيث يجب عليهم متابعةَ دروسهم على الانترنت أيضاً.
الإنترنت بطيئة ومتقطعة، و العمل يطولُ و يطول لينجزَ، من متابعةِ التعليمات الجديدة التي تتغير كل ساعة و ملاحقةِ إيميلات العملاء التي لا تنتهي بالشكوى. الأولاد يتأففون من الحاحِ والدتهم بارغامهم على انهاء الوظائف، زوجته تشتكى من التعبِ و من الطبخ و التنظيف. يجتمعون على الطعام مرغمين كأنهم يساقون إليه سوقا، و يتفلت الأولاد الى غرفِ النوم لمتابعة أصدقائهم على منصات التواصل، و زوجته تمضى الوقتِ القصيرِ من الراحةِ التي تحصل عليها بشقِ النفس … بالشكوى لأخواتها و جاراتها على تليفونها المحمول.
لم يعدْ الليلُ ليلُ … و لا النهارُ نهارُ .. أشغاله متواصلةٌ، و تليفونه لا يتوقف، و بدأ الصداع يلف رأسهُ لفاً كالعمامةِ الهندية. استعادَ ليلة البارحة حين أرادَ أن يمضي السهرةَ مع أولاده و زوحته، و حاصرتهم أخبارُ الكورونا وافلام الرعب ِو الكوارث و المسلسلات المعادة، فلم يجدْ ما يرفهُ عن نفسهِ و أسرته سوى الفلمِ الهندي، إنهم يضحكون قليلاً و يرقصون كثيرا، و لكنهم يقولون لك شيئاً تفهمهُ و تعقله في نهايةِ الفلم، ناموا جميعاً و هم يتمنون غدٍ مختلف.
التغييرُ صعبٌ، و الروتينُ قدرُ من هو مجبرٌ لا بطل. جالسٌ في سريرهِ .. متكأً على المخداتِ و لا يحتضنُ سوى اللابتوب، الزوجةُ متأففةُ من كسلهِ و اتكاليتهِ، و الأولاد يتجنبون رؤيتهِ لكثرةِ أسئلته و انتقاداته و ارشاداته و نصائحِهِ الملزمة. قالَ له ابنهُ الصغير: اشتقت للمدرسة و الله كتير أرحم من البيت. لا يدري ما قصد، و علقت زوجته: يارب تزيل هالغمةِ و الله روحي طلعت من الشغل و قعدةِ البيت .. ترى أيقصدونه أم يقصدون الكورونا.
و كالجندي المتأهبِ على جبهةِ ليس فيها حرباً، و لا يرى على الأفقِ عدواً يقاتله. أحسَ بالهزيمةِ في حربٍ لم يخضها، و من الواضحِ أنه لن يفعلْ. ترى أينَ الهزيمة؟ .. أفي بيوتٍ من ورقٍ صنعناها طارت مع أولِ عاصفةٍ ؟.. أم فيٍ علاقات أسريةٍ أهملناها و جعلناها في ذيلِ الأولوياتِ في الحياة! أم في استثنائنا لليومِ الرمادي من أقدارنا ؟ … حيث نجبرُ على معايشةِ ما رغبنا و تمنينا، و لكنا لم نعبأ كثيراً كيف سنعيش هذه الأمنيات و نتكيف معها.