إن ظاهرة الانتحار التي تجذرت في المجتمع الجزائري و كادت أن تصير من أبرز السمات المميزة له عن سواه من المجتمعات العربية خصوصا، و المجتمعات الإنسانية الأخرى عموما، باتت تستلفت الأنظار و تستدعي التأمل و التفكير، لمعرفة الأسباب المسؤولة عن ظهورها، و العوامل التي ساعدت على التمكين لتطورها و انتشارها بهذه السرعة الفائقة التي تماثل تماما انتشار النار في الهشيم، و هي إلى جانب ذلك لم تختص بجنس بذاته أو فيئة عمرية معينة، بل شملت الجنسين معا و استغرقت كل الشرائح العمرية، أي أنها استحالت إلى وباء شديد العدوى لا تقف في طريقه سدود و لا حدود، و هي باعتبارها كذلك باتت تشكل خطرا يتهدد المجتمع الجزائري برمته، و إني لأعتقد أنها لو ظهرت في مجتمع آخر على النحو الذي ظهرت به عندنا لشكّل لها خلية أزمة من أساطين علم النفس، و علم الاجتماع، و علماء الإحصاء، و وفر لهم كل الوسائل و الأدوات و الأموال و ألزمهم بالتفرغ لدراستها لمعرفة حجمها و الوقوف على أسبابها و العوامل المؤثرة فيها، و وضع خطة لمحاصرتها و اجتثاث أسبابها، و لما وقف منها موقف اللامبالاة الذي نقفه منها اليوم في بلادنا هذه.
حقا إنه لممّا يحز في النفس و يملأها أسى أن نقرأ في صحفنا يوميا أخبار أولئك الذين وضعوا حدا لحياتهم بهذه الطريقة المأساوية لهذا السبب أو ذاك، ثم لا نجد فيها و لو مقالا واحدا لأهل الاختصاص و ما أكثرهم في البلاد، ينقد هذه الظاهرة و يعلق على أسبابها، و يستنفر السلطات الوطنية لتتصدى لها و تتكفل بوضع حد لها.
خاصة و أن الانتحار الذي تفشى في مجتمعنا لا يرجع إلى أسباب نفسية كما هو الحال في بقية المجتمعات، و كما يحاول بعضهم إيهامنا بذلك، بل إن معظم الحالات ترجع إلى أسباب موضوعية بحتة، كالبطالة و انعدام الدخل، أو الفشل الدراسي ، أو غلاء المعيشة، أو الادمان، أو الخلافات العائلية ، و هذه كما ترون كلها أسباب موضوعية، لكنها ترفع من حدة التوتر النفسي لدى الفرد مما يفرض عليه التفكير في الانتحار و يشجعه على الإقدام عليه.
و هذه أسباب يمكن للسلطة الوطنية التحكم فيها و الحد من تأثيرها فالبطالة و انعدام الدخل يحل عن طريق تنشيط سوق العمل، و الفشل الدراسي يمكن أن يعالج بالإصلاح الجدي للمنظومة التربوية و الدروس التدعيمية، و غلاء المعيشة يمكن تجاوزه بمحاربة التضخم و تحكم الدولة في الأسعار، و الإدمان يمكن الحد من تأثيره بتشريع أكثر صرامة يجعل من الإعدام عقوبة لمروج المخدرات مهما كانت الكمية المروجة و هكذا...
بقي أن نلفت الانتباه أن لا أحد يفكر في الانتحار أو يقدم عليه مختارا، و إنما يفعل ذلك مكرها و مضطرا، و لا أحد يقدم على الانتحار ما بقي له أمل في هذه الحياة، فإن انسدت في وجهه أبواب الأمل، ضاقت به سبل الحياة عندها و عندها فقط يندفع إلى الانتحار و هو مقدم غير محجم، و لذلك قال الشاعر :
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما
أضيق العيش لولا فسحة الأمل