من دأب أي استعمار استيطاني كالذي ابتلينا به طيلة 132 سنة أن يحاول توطيد أركانه، و إعلاء بنيانه و تشييد صرح حياته في الأرض التي ينوي استنزاف خيراتها و إذلال أهلها و محو آثار هويتها.
و الاستدمار الفرنسي ليس بدعا من هؤلاء، فقد بذل أقصى جهده ليمحو أي أثارة من إسلام و عروبة في هذا الوطن الكريم، فانتهج سياسة التجهيل و التقتيل، و التنصير و التدمير، و الإخلال و الإذلال، و التجويع و الترويع و التمييع ليسمخ هذا المجتمع و يمح معالم انتمائه.
و من بين هذه الخطوات العجيبة التي استفردت بها الإدارة الفرنسية " أم العجائب القانونية "...الذي نرى بعض كبرائنا في هذا الوقت يتسابق لإرضائها و تقديم الخدمات لها و لو على حساب دينهم و قوميتهم و وطنهم رغم ما تكنه لنا هذه الإدارة الخبيثة من كره و مقت داخليين يطفح من حين لأخر على ألسنتهم السمجة و تصرفاتهم الغبية.
أقول: من بين هذه الخطوات هو القانون الذي أصدره وزير المعارف الفرنسي آنذاك " شوتان " في 08 مارس 1938 الذي نص على تحريم استعمال اللغة العربية و اعتبارها لغة أجنبية في بلاد العروبة و الإسلام الجزائر، هذه البلاد التي أخرجت من صلب ديارها سيدي أبو مدين شعيب التلمساني و أبو مروان الشريف العنابي و أبو رأس المعسكري و عبد الرحمان الثعالبي الذين دوّخوا الدنيا بجلائل العلوم و نوّروها بمحاسن الفهوم.
هذه البلاد التي أراد المستدمر آنذاك و في كل وقت و حين أن يطمس تاريخها المشع اللامع، و يكسف ضوء شمسها القوي الساطع، و يزيح بحر عروبتها و إسلامها الهامع .
هذا القانون الذي خرق كل الاتفاقيات و داس على كل المواثيق و المعاهدات ليثبت للعالم حقيقة أن هذا الاستخراب الغبيّ لا يرج من هذه الأرض إلا الاستنزاف و الخراب و المسخ، مع أنه قد سبق لشيخ المجددين ابن باديس أن قرر من قبل و قال:
شعب الجزائر مسلــــم و إلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كـذب
أو رام إدماجا لــــــــه رام المحال من الطلب
و نأت اليوم بعد أكثر من نصف قرن من استرجاع السيادة و اتخاذ شعار " يا محمد مبروك عليك، الجزائر رجعت ليك " لنرى حال هذه اللغة اليتيمة في بلادها المنبوذة من أبنائها في هذا البلد الكريم المغتصب.
نرى رئيس ما يسمّى تنظيرا " المجلس الأعلى للغة العربية " و هذا يصرّح جازما: أن اللغة العربية في الجزائر في أحسن أحوالها و أزهى عصورها.
في حين نرى عيانا و بدون مونتاج أو زيادة أو نقصان حفلا ينقله التلفزيون الرسمي للدولة الجزائرية، حضره المدير العام للحماية المدنية الجزائري و بجواره السفير الأمريكي في حفل رسمي، فيتكلم الأول فرحا بلغة فرنسية يرطن بها أمام الحاضرين و كأنها لغة آبائه و أجداده، و تأتي المفاجأة ليتكلم الثاني الغريب عن ديارنا بلغه عربية فصيحة صريحة ليصفعنا صفعة عجيبة تضمّ إلى قاموس الصفعات المتوارثة ترغمنا على معاودة حساباتنا و تدفعنا دفعا لنتساءل مرة أخرى: هل نصدق ما قاله رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، أم نصدق ما نراه بأمّ أعيننا و على شاشات تلفزيوننا من انتهاك لحرمة هذه اللغة المقدسة و استعمال لعدوتها اللدودة التي أرادت يوما ما محوها و طمسها و انتزاعها من جذورها.
و رحم الله الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد لما وقّع قانون تعميم اللغة العربية و ثارث ثائرة الأزلام و المستأجرين قال قولة العارف المدرك: " ضربنا الحية في رأسها فتحرك ذنبها ".