القصص على وجه هذه الحياة كثيرة، و كثيرة جدا، حزينة كانت ام سعيدة فهي دائما تتسم بالعبرة التي نستخلصها منها، حتى يكون لها وجه من الحقيقة التي نعيشها عبر الأزمنة ...
تقول لي صديقة مقربة، و هي التي أنهكت نفسها لمدة عام كامل، في تكوين نفسها في مادة كانت تحلم بأن تدرسها و أن تصبح من النابغات فيها فهما و إتقانا، و كان لها ما صممت عليه، و كانت تعتقد أنها قد تفوقت فيها و بنت اعتقادها ذلك على ما بذلته من جهود...
و لكن حدث ما لم تتوقعه و لم يكن يخطر لها على بال فكانت الصدمة التي جعلتها تسرد هذه الحكاية بمرارة، أنها لم تتوقع أن عملها و نشاطها و جدها و كدها، و تخلقها لن يجدي عليها نفعا، و لن يكون له أي أثر أو قيمة، أمام أساليب الغش التي درج عليها الناس في عصرنا هذا، في بلدنا هذا، و محاباة المعارف على الكفاءة، فآلمها ذلك أيما إيلام و صمتت بعض الوقت لتبتلع دموعها ثم أردفت تقول:
كانت هناك بطبيعة الحال فروضا و اختبارات، و كانت هناك نقاط جيدة و متوسطة و ضعيفة، و تحصلت على أعلى نقطة و كانت الأولى، و لكنها فوجئت أنهم نصبوا واحدة في المرتبة الأولى رغم أنها كانت اضعف منها في النقاط...
و تساءلت المسكينة كما يتساءل كل من حرم من المرتبة الأولى، أو حرم من حقه بالمنصب الذي كان يعتقد أنه يستحقه بجدارة، و تساءلت عن كل من يعمل في المستشفى او البريد و المواصلات، أو أو أو و كل من اغتصب حقه لأنه ليس صاحب وجاهة، أو صاحب مال، أوليس لديه من يدعمه و يحميه من عبث من يتلاعب بالنتائج الدراسية و المسابقات الوظيفية غير عابئ بالألم الشديد، و الإحباط الأكيد الذي يسببه لمن كد و جد، و لا هم يبالون بما يتسبب فيه الذين جاملوهم و منحوهم المراتب الأولى و الشهادات من أضرار للمجتمع في مختلف القطاعات التي ينتسبون إليهم فيفسدون و لا يصلحون، بل سيخربون و يهدمون و لا يبنون...
سلوك المحاباة هذا هو الذي يجعل الأمر يسند الى غير أهله، في الطب، في الهندسة، في التعليم، في التكوين، بل في كل النشاطات، و مختلف القطاعات...
و مرض المحاباة هو الذي سبب لنا هجرة الأدمغة، و حرم مجتمعنا من كفاءات كان بمقدورها أن تنمي زراعتنا و أن تنمي صناعتنا، و أن تطور اقتصادنا، و أن تغير حالنا من أسوء حال إلى أحسن حال، هذا التصرف المقيت هو الذي جعلنا نرسف في التخلف و نبقى مرتهنين فيه بينما غيرنا يتقدم و يتطور يوما عن يوم و نحن قابعون في مكاننا لا نتحرك، لقد مرت خمس و خمسون سنة عن استقلالنا و لكننا مازلنا إلى اليوم نداوي مرضانا في الخارج، و مازلنا نشتري غذائنا و كسائنا من الخارج، و كذلك مركوبنا، و ما كان ذلك ليكون، لو أننا احترمنا الكفاءة و أحسنا تقدير الجهود المبذولة، و المثابرة الموصولة...
و نتألم اليوم "للحراقة" الذين يموتون قبل وصولهم إلى شاطئ الأمان، كما نتألم لمن انحرف و اختلس و زور و انتحل، و رشا، بينما نحن الذين تسببنا في ذلك كله، لأنا أخذنا بالمنهج المكيافيلي الذي تبرر الغاية عنده الوسيلة، في حين أن الوسيلة ينبغي أن تكون على نفس القدر من شرف الغاية، و إلا انفسح المجال لكل محتال و دجال لاحتلال المناصب و تسنم المراتب...
إن الشعوب تبنى أمجادها بكد شبابها، و بانضباطهم، و بالتحلي بالخلق الطيب في جميع مجالات حياتهم، حتى ينشأ جيل صالح جاد غير هازل، و مثابر غير متواكل، جيل صادق مع نفسه و مع غيره، قوي العزيمة يبذل و سعه لبناء وطنه، لا بناء وطن غيره، و لن يكون ذلك إلا إذا وجد عنده الصدق و الأمانة، التي تيسر له بلوغ المكانة الاجتماعية اللائقة به، التي لا يتأهل لها بالنسب و الانتماء، بل يستحقها بالجهد الصادق المبذول، و العمل المتقن الموصول، الذي يجعله أهلا لعطاء، و سببا قويا للازدهار و النماء...
فهل يا ترى تتفطن هذه العقول، أن ما يدمرونه أكثر مما يبنونه، أو يعطون له الأولوية في الظهور و الارتقاء من مرتبة إلى أخرى، فما كان لي إلا أن قلت لها صدقت يا أخية و يا ليتنا ننجو من هذه البلية؟...