ها أنت يا رمضان تعود، ضيفا حبيبا و إلفا أليفا، و روحانية شفيفة تنبذ تلك الآفات التي تردينا في مهاوي الهلاك، و تحطم تلك الأسوار الدنيوية الواهية، التي تقيدنا اليها، و تجعلنا أسرى رغائبنا، و أرقّاء شياطين الهوى و الضلالة، فتهوي بسيف الطاعات عليها، و تستنقذنا من براثنها، و تضعنا على طريق السلامة في واحات السلام، و ترسل أشعة نورك النيرة شعاعا شعاعا، تبدد عتمة الأيام التي سبقت هلالك الميمون، فأرسلها خيوط ذكر، و إضاءات أمل، و حكمة و إدراك.{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان} إنه الهدى الرباني مطلب كل روح ظامئة للعتق، تواقة للقرب ،و كل قلب واجف، أيبست ينابيع آماله قسوة الذنب، و ذلة الخطيئة، و أحبطت مسعاه للعيش الرغد ، و المسير الآمن في أروقة الحياة، مسافات البعد بينه و بين خالقه، فالتفت إلى آيات هذا الكتاب الذي حظيت بشرف نزوله في لياليك الجميلة، و نهل من معين هداه و تفيأ ظلال حكمته و تقرب إلى ربه بخطابه، و إهتدى في حلكة ليل أحزانه بإضاءاته المشرقة الجلية، فغردت في قلبه الكليم و روحه المحزونة ترانيم الرجاء.
أيها الزائر الذي طال انتظارنا له، ها قد آذنت ليالي أنسك بالرجوع، و أهلت اعلامك المزهوة برياحين الجنان، و أقبلت تجلوا عن القلوب الحزينة همها و كربها، و هي تستودعك أسرارها، و تنثر بين يديك شكواها، و تضع عن عاتقها على أعتاب أيامك النيرة كل ما أثقلها من الأوزار و ما أحزنها من الذنوب، و ما أنّت تحت وطأة ثقله من المعاصي، و هي تعلم ان في نهاراتك المغفرة، و في لياليك التوبة، و القبول باذن الله.
أيها الزائر الكريم القادم من مواطن الرحمة بهدايا الرحمة، و هبات العفو، و تجليات الحنان و المنة و العطايا، تحمل رسالة المغفرة و الرضى لكل طالب لهما، مرهونة عطاياك ببذل الثمن، موصولة هباتك بين المعطي المتفضل العظيم جل شانه و بين الفقير الى عطاءه، الأسير لذنوبه، المكدود من إعراضه عن مشارق النور، و قد أشقاه عماه و أضلت طريقه ضلالته، فإذا أنت تشرق في طريقه شمسا و دليلا فاهتدى اليك، و وصلته بمنبع الود الندي فأفاضت عليه أوردة الندى و البركات، و لم تزل له ساحة ذكر، و ليل قيام، و نهار صيام، و ساعات مناجاة، حتى يئوب من رحلته معك، و قد امتلأ قلبه بالرضى و أفاض على من حوله، و كيف لا و قد عرف طريق ربه فأحبه، و أتصل بباب العطايا فنال و أنال، و دخل ساحة العفو فعفا و عفي عنه.
أضيء قناديلك يارمضان، ما بين قنديل الإهلال و الفرح بقدومك، إلى قنديل الصيام عن كل ما يضعف الإيمان و يعيب الخلق، إلى قنديل الدعاء و الضراعة، إلى قنديل القيام بين يدي المعبود، ليباهي بنا ملائكته، انظروا إلى عبادي، نصبوا أقدامهم في عزة المقبل على العزيز، و أفترشوا وجوههم في سجود المخبتين، و هم يعرفون أنني العفو الكريم، و يدركون أن العزة و الإرتقاء هي في السجود بين يدي، أي عبادي ماتبغون و ماذا تطلبون، إن كان رحمتي فقد سبقت غضبي، و إن كان عطائي فقد أعطيت العاصي فكيف بالمطيع، و إن كان إقبالي عليكم، فبوجهي أقبل على أهل محبتي المتحابين فيّ و إن كان الأنس بي فكيف لا تجدون حلاوته و قد سعيتم اليه و طلبتموه بصيامكم و قيامكم و صدقاتكم و ابتهالاتكم و دموعكم ؟
أضيء قناديلك يا رمضان فقد مللنا ساعات الظلمة، و إشتقنا إلى مطالع النور في قلوبنا و بيوتنا، و آن أوان رحلة التضرع و الدعاء نمدها جسورا موصولة بيننا و بين الذي يجيب المضطر اذا دعاه، و نحن مضطرون كأمة تعيش لحظات مخاض مصيرية، و كأفراد بلغوا حد الضنك، و درك العناء، مضطرون و نعلم أن لا مفرج للكرب إلا الله، و نعلم أنك يارمضان اوان نصر و إجابة، فيك ليلة خير من ألف شهر، ليلة نظرت فيها السماء إلى الأرض نظرة حنان و إشفاق، فامطرت نورا و بركة، و كان القرآن هدية الله إلى خلقه، و صرنا به محل رعاية الله و حبه، فأهلا بك شهر توبة و رحمة، و عافية و رضا، و هجرة إلى من ترحل إليه القلوب في كل حال، فتعود بخير حال و مآل.
اللهم أعنا فيه على الصيام و القيام و إجعله في ميزاننا يا رب العالمين.