كنت أرى في طفولتي الأوروبيين رجالاً متفوقين، و أناساً غير عاديّين يمكنهم فعل كل ما نعجز عن فعله، ثم وجد اليابانيون ثغرة في نموذجهم الذي لا يُقهر و أثبتوا إمكانية قهر الأوروبيين في الحرب. كما أثبتت زيارتي إلى
اليابان أنه يمكن لغير الأوروبيين إتقان التصنيع و الصناعةـ و تساءلت لماذا لا يستطيع الملايويّون و غيرهم فعل
الأمر نفسه؟
عدت من هذه الرحلات متجدد النشاط، و زال الإحساس بالاكتئاب و سلمّتُ بقابلية فنائي، فلا أحد يعيش إلى الأبد،
و لذلك قررت استغلال معظم وقتي هنا. أمضيتُ في التأمل في حقيقة الحياة، هل هي مجرد أكل و شرب و تسلية؟
أنا أؤمن بالآخرة كوْني مسلماً، لكني لا أؤمن بأن الإسلام يريد منا أن نكون منعزلين و أنانيين، و نقضي حياتنا في
الطاعة لننال النعيم في الآخرة، و إن الاستعداد للموت ليس كل شيء في هذه الحياة.
عندما درستُ القرآن الكريم و الأحاديث الصحيحة، تعلمت أنّه يتعيّن على المرء في الحياة الدنيا الإسهام برفاهية
الأمة الإسلامية، و البشرية ككل؛ فارتفعتْ معنوياتي و صار في مقدوري أن أرى على نحو أوضح كيف يمكنني
بوصفي طبيباً الإسهام في حياة الناس بشيء نافع. و هذه الرؤية الجديدة مكنّتني من إعادة النظر في عملي و في
حياتي و كيف يمكنني الإسهام من خلالها في شيء نافع أكبر من نفسي.
لم أعرف كيفية القيام بذلك آنذاك، لكنّ طريقة أخرى تجلّت أمامي لتقديم شيء نافع للناس خلالها. و عندما عدت
من رحلاتي إلى اليابان و أوروبا، امتلأ ذهني بالأفكار و جلبتُ معي طاقة روحية و حماسة جديدة، و كانت رؤية
قوميٍّ ملايويٍّ بات ملتزماً الآن بالإسهام في التنمية الاقتصادية، و الحداثة التقنية، و أكثر القضايا الإنسانية جوهريّة
كوني مسلماً يستند فكره إلى التعاليم القرآنية الصحيحة. و عندما أصبحت في نهاية المطاف رئيساً للوزراء، كان
لحماستي للابتكار و الفاعلية التي عايشتها في اليابان أثر عظيم في عدد من مشاريعي و سياساتي.
من كتاب: طبيب في رئاسة الوزراء مذكرات الدكتور محمد مهاتير، ص 206-207