تواصلنا في الحلقتين السابقتين و قد تحدثنا عن نوعي الصدق المرتبطين بضمير الإنسان و ربه، و كذا فكر الإنسان و نفسه، و سنتحدث هنا عن النوع الثالث المتعلق بسلوك الإنسان و واقعه، و هو الصدق مع الناس.
و قبل بدء الحديث أود الإشارة إلى شيء تربوي، و هو أن سلوك الإنسان بصفة مجملة ثلاثة أثلاث، اثنان منها مرتبطان بعقيدة الإنسان و تربية النفس، و الثلث الثالث هو ما يرتسم على واقع الحياة، و في حالتنا هذه فإن سلوك الصدق في الواقع يسبقه صدق مع الله و صدق مع النفس، و هذا ملمح وجب على الآباء و الأمهات و كل من يتصدى للتربية و التوعية أن يدركه و هو أنه إذا أردت تغيير أي سلوك لأي إنسان فابدأ في ربط السلوك بالله تعالى و بدّل إدراك الإنسان في نفسه حول السلوك تكون النتيجة تلقائية بإذن الله ترضي الله سبحانه و يسعد به الإنسان في الآخرة و الأولى.
ثالثا: الصدق مع الناس
هو النوع الذي يترجم النوعين السابقين و يكون تابعا لهما، فإذا وجدت إنسانا غير صادق مع الناس فمكمن الخلل – لا محالة – إما في صدقه مع الله أو صدقه مع نفسه أو منهما معا.
الصدق مع الناس مطابقة الأقوال و العناوين للأفعال و المضامين، فلا يقول الإنسان قولا و يكون فعله عكسه، بسم الله الرحمن الرحيم " كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون "
الصدق مع الناس هو علامة المؤمن الحق فقد أنكر النبي صلى الله عليه و سلم و اشتد نكيره أن يكون المؤمن كذابا ، كلاّ... أتعلم لماذا؟
لأن الكاذب يستبيح كل شيء و لا يتورع عن أي فعل مهما كانت شناعته ثم ينكر اقترافه إياه، فهو يزني و يسرق و يشرب الخمر...
أما المؤمن فإن أقواله صادقة على طول الخط و لو على نفسه أو والديه، بسم الله الرحمن الرحيم " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله و لو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين ".
و هو يفعل هذا امتثالا لأمر الله سبحانه و كذا اعتقادا منه أن الصدق منجاة و الكذب مخيّب، بسم الله الرحمن الرحيم " ...فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم " و أن عاقبة الصدق دوما إلى فلاح و حسنى و الكذب إلى خسران و بلوى.
و المؤمن يصدق في أقواله و مواقفه لأنه متيقن من كلام ربه أن تأشيرة النجاة يوم العرض الأكبر هي الصدق "قال الله هذا يومَ ينفع الصادقين صدقهم... " و إذا فُقدت هذه العملة فقد صعٌب على الإنسان مصيره - نسأل الله السلامة -.
و يتجنب المؤمن الكذب لأنه علامة المنافق قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " آية المنافق ثلاث:... و إذا حدّث كذب ... " و هو باب الشر و مفتاح الخسارة و عبّارة الندامة و مرسى الخطيئة و موئل المنحرفين.
و المؤمن يصدق لأن دوام الصدق يورث مرتبة عظيمة عند الخالق و المخلوق هي مرتبة الصدّيقيّة و هذه لا ينالها إلا من تحلى بالصدق و عمل به و عُرف عنه.
و إن من الصدق أيضا الوفاء بالعهد و إنجاز الوعد " و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون ". لأن من لم ينجز ما وعد به و لا يفي بما عاهد عليه فقد خيّب الناس الذين وضعوا عليه آمالهم و كان حقا على الله أن يخيّبه فيه – نسأل الله العافية -.
فاللهمّ إنا نسألك تمسكا بالصدق و أهداب الصادقين، و أن تقِيَنا الكذب و سوء منقلب الكاذبين، و أن تطهر قلوبنا من النفاق و أعمالنا من الرياء و ألسنتنا من الكذب و أعيننا من الخيانة، إنك تعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور.