على جذعِ شجرةٍ قديمةٍ قويةٍ متينةٍ اتكأت،
هي صديقتها منذ زمنٍ بعيدٍ، تحبها و تحكي معها،
تزين بيتها، و تُعَّلم مكانه، و تُجمِّل أيامها، و تقيها حر الصيف، و تحميها من أشعة الشمس،
بينهما عِشْرة عمر، قد عرفتها و هي صبية، و رعتها عندما كبرت،
ترويها إذا عطشت، و تقلمها إذا شذت أغصانها، و نأت عن الأصل فروعها،
تُسر إليها و تسمع نجواها، فهي الصديق القديم الباقي الذي لم يتغير،
تحن عليها و تكاد نسمع أنينها، و تحس بحزنها إن حزنت، فهي الكائن الحي الجميل الندي الخالص الطاهر،
تعرف الصغار و تحب الكبار، و تحنو على الجميع، و تراهم يحيونها حباً كلما مروا تحتها،
يرفعون رؤوسهم لينظروا إليها، و تشخص عيونهم نحوها إذا تأملوا فيها،
يهتمون بها، و يخافون عليها، و تحت ظلالها يستريحون،
تأوهت، و قالت يا الله، لك الحمد،
جذورنا في الأرض كما الشجرة،
عميقةٌ ممتدة، تستمد من الأرض الحياة، و تتسامى بأغصانها قبلة السماء،
تلمستها بيديها المعروقتين المرتعشين،
قد أشقاهما الزمن، و أضناهما التعب، و نالت من نضارتهما الحياة،
إنها شجرةُ كافورٍ كان قد زرعها زوجها، و تعهدها في حياته، و أورثها من بعده أولاده،
تكاد تعانقها و قد أحاطتها بذراعيها، ففيها الماضي كله، و الذكريات الجميلة التي مضت،
قبلتها بحبٍ و شغف، و شوقٍ و حنين، فهي رفيقة العمر، و أنيسة الزمن، و كاتمة الأسرار،
حدثتها و خاطبتها، الحمد لله قالت، أنك هنا باقية، جذعٌ في عمق الأرض صامدة،
أنت أصلٌ و منك كان الفرع أصيلٌ كالأصل، من ماء الأرض يرتوي، و قبلة السماء يتجه،
ما بال أوراقك قد تساقطت، أهو الخريف الذي يزورك كل عام،
و ما بال أغصانك قد تكسرت، أهي الرياح و العواصف،
أم هي يدٌ عابثةٌ مخربة، هوجاء مدمرة، غاظها وقوفك، و أغضبها ثباتك، و استفزها في عمق الأرض وجودك،
فاستهدفك العدو الغادر كما البشر، و قصفوك كما الحجر، و أنت خير الشجر،
ظنوك ستركعين، و لهم ستخضعين، و تحت وابل نيرانهم ستحترقين،
ظنوا أنك ستصبحين رماداً يتطاير، و بقايا حطبٍ يتبعثر، و جذعاً في الأرض قد ماتت جذوره،
كانت هامتك المرفوعة تحزنهم، و قامتك المنتصبة تخيفهم، و فروعك المتنامية ترعبهم،
خافوا من نسلك، و أقلقهم خلفك، و ما تفرع منك، و البذور المتساقطة من زهرك، تزرع الحياة و تبقي الأمل،
قصفوك بلا رحمة، و حرقوا أغصانك بلا شفقة، و أطلقوا النار غزيراً على ساقك المنتصبة،
لكن قد خاب ظنهم، و طاش سهمهم، و انقلبت حساباتهم،
لم تنحنِ لك قامة، و لم ينكسر ساقك، و لم تضعف كل أغصانك، و لم تسقط كل أوراقك،
بل بقيت تقاومين الموت، و ترفضين الاستسلام، و تصنعين بشموخك الحياة،
و كأنك تقولين أننا ها هنا باقون، نورث الحياة لمن بعدنا، ما بقيت الأرض و السماء،
ستعودين يا شجرة الحياة وارفةً كما كنت، كبيرةً كما عرفتك، نستظل تحت فيئك كما عهدنا،
و ستعود إلى أغصانك و دوحك العالية عصافير الصباح و بلابله المغردة، بألوانها الزاهية، و أصواتها الطربة،
تزقزق و تشقشق، و تبعث في الدنيا الحياة، و تبشر بصباحٍ آخر، و غدٍ جديد،
كل شئٍ حولها مبعثرٌ مهشمٌ مدمرٌ محطم،
الجدران منهارة، و السقوف ساقطة، و أواني المطبخ مبعثرة، و كراريس الأطفال ممزقة، و ألعابهم الصغيرة محطمة،
لكن الحياة من حولها باقية، الشجر و البشر ما زالوا هنا، رغم عصف القصف ما زالوا باقين،
نادت على أولادها و أحفادها أحمد و محمد و حسين و علي، و فاطمة و مريم و خديجة،
قالت لهم بصوتٍ لا يعرف التردد، ول ا تعوزه القوة، و لا ينقصه اليقين، و منه يشع الأمل،
هاكم شجرتنا، ما زالت باسقة الأفنان عالية، تعاند بكبرٍ، و تتحدى بصلابة،
تساقطت بعض أوراقها، و تكسرت بعض أغصانها، و احترقت أطرافها في أكثر من مكان،
لكنها أبت أن تركع، و بقيت واقفةً لم تنحنِ، و لم تخضع،
ستبقى شجرتنا و سنبقى، و سنبقى واقفين كما الأشجار و لن نخضع،
ستخضر يا أولادي أرضنا، و ستورق أشجارنا، و ستنبت تربتنا من جديد،
احفظوها عهداً كما حفظناها، و اجعلوها إرثاً كما تسلمناها،
هي يا ابنائي العهد و الوفاء، و هي البقاء و النماء، و هي العطاء و للصبر خير الجزاء،
أما عدونا فسيبور جهده، و سيفشل سعيه، و سيفل عزمه.
سيرحل عن أرضنا، و سيحل عليه بأيديكم الفناء،
كونوا واثقين يا أولادي أن الغد لنا، و أن النصر حليفنا، و أن هذه الأرض ستعود لنا.
هذه هي صورة عن الأم الفلسطينية، الصابرة المعطاءة، الصادقة المضحية، المخلصة الوفية، التي تعطي بصدق، و تربي بأمل، و تنشئ على عقيدةٍ و بصيرة، فلا يموت عندها الأمل، و لا يخبو في صدرها الرجاء، و لا تنطفئ في قلبها جذوة الحنين إلى الوطن، و الشوق إلى الديار، و ستبقى تحفظه و لو كان شجرةً باقية، أو كومة حجارةٍ مدمرة.
الرابط: