يَهِلُّ علينا شهر رمضان. فتبادِرُ أنفسنا إلى التوبة ؛ تبتغي منه أن يكون مُنطلقا لتصحيح مسار النفس ، و عزمًا على ألا يلتفت أحدنا إلى ماضيه اجتنابا لتكدير الخاطر ، و إقبالا على مستقبله أملا في جعله مُشرقا ..فمن أقبل على ربّه أشرقت له الدنيا.
و هذه النوايا حسنةٌ مطلوبة ؛ و كلما تحلّت بالعزم و الصدق أثمرت ؛ فرأيتَ البدنَ مطيعًا للقلب، و رأيته يستخفُّ ما كُلِّف به، يَلتذُّ بالطاعة – و إن ثَقُلَت – و هو عليها مقيم ؛ مستحضرًا عظمة الله في كل أمر و نهي؛ فتجده حَذِرًا وَجِلا يرجو رحمة ربّه ..
مضى من رمضان ثُلثُه – و الثلث كثير – و النوايا على هذا القدر في صراعٍ على الثبات يتورّع الصائمون و يحذرون على صيامهم أن يصيبه ما يُفسده، و يسألون عن كل صغيرة و كبيرة، و الشك يعمل عمله ليقيم بين شُبَهِ المُفطرات و بين صحة الصيام برزخَا. و تَرِد على أئمتنا كثير من الأسئلة مصدرها وَرعٌ يَقِظ في النفس؛ و قلقٌ على صحة الصيام يُنْبئ عن تعظيمٍ لأمر الله : هل الإبرُ مفطرة ؟ و قد أذَّن المؤذن و اللقمة في فمي و ابتلعتها؟ و قد سافرت مسافة كذا و كذا و لم أفطر ؟ و آلمني من جسدي ضرسي أو بطني و تحمّلت حِمل الألم و هو عليّ ثقيل دون أن أترخّص بالإفطار ؟ و هان عليّ ألم كذا و كذا لأن الصوم عزيز ؟ و تجد العامة دينهم العزيمة في ذلك و يجتنبون الرخصة و كأنها شبهة – و هذا وَرَعٌ محمودٌ في نفسه – و إن كنتُ أقول : إن العلم يجعلك تعبد الله على بصيرة ؛ فإن الله لا يريد منك تعذيب نفسك ..و إن الله بك رحيمٌ أشدُّ رحمةً من نفسك لها... و أن الذي فرض الصيام هو الذي شرّع من الرُخص ما يجعل العبادة تَصِلُ بالعبد إلى مقاصدها.
لكن الورع أعمق من هذا بكثير و مقاصد الصيام أكبر من أن تُحصَر في المفطرات، و ليس الصيام عن الأكل و الشرب، و أن يمرّ يومك كله حَذِرًا أن يَلج بطنك شيئٌ ما ، و أنت عن قلبك غافلٌ لاهٍ ؛ كأنه غيرُ مَعنيٍّ بشيء في صراعك مع بطنك، و كأن نفسك بمَعزِلٍ عن هذا الصراع أيضا ؛ لا ترجو لها نصيبًا من زكاةٍ في هذا الشهر الفضيل.
أيّها الصائم : المقصد الأسنى من صيامك أن يُحرّرك من ربقة العبودية مما هو ضروري، و أن تجتهد في الانتصار على أقوى شيء قد يُذلك في صراعك أمام الشيطان : شهوة البطن و الفرج، و أن تكون حرّا لا تخضع لمثل هذه النواميس؛ و إن كان سلطانها عليك قوي؛ لكن إرادتك في أن تكون حرّا أقوى، فإن انتصرت في هذه؛ انتصرت في ميادين أخرى، فتكون حرّ العقل و حرّ البدن و حرّ النفس من مخاوفها و شهواتها، من أجل ذلك كان الجزاء من جنس العمل فكان جزاء جهادك في طلب هذه الحرية : {كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَ أَنَا أَجْزِي بِهِ }.متفق عليه
و لكي تصل إلى هذه الحرية فإن وَرَعَك غيرُ كافٍ، و لن يَكْفُلَ لك خروجك من ربقة العبودية إلى الحرية الخالصة، فمن الورع ما مرّ عليك آنفا؛ لكنه لا يقتصر على باب التروك؛ فليس الورع أن تَحذَرَ الأكل و الشرب و الكلمةَ الفاجرة، ثم أنتَ مُقصِّرٌ عن آداء الواجب، مُهملٌ للسنن، محجوبٌ عن نفع الخلق، فإن ورعك حينها ناقص، و أخشى أن تأتي – بإهمالك - ما يَنْقُضُهُ. لأن في فهمك قصور الورعِ على معاني الحيطةِ و الحذرْ؛ و هذا غلط !!
و الرخصة من الله عزيمة – إن كانت بشرائطها –و هي دين تَدين الله بها؛ فمن تمام الورع أن تترخص في مواطن الرخصة، فإن الله يحب أن تُؤتَى رُخَصُه كما يحب أن تؤتى عزائمه. و كيف تطلب أعلى مراتب العبودية و أنت تخالف من شَرَّعها، و قد يكون في ذلك من سوء الأدب مع الله و رسوله ما يَهْدِمُ ورعَك كله قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم {ما بال رجالٍ يتنزهون عن أشياء أترخَّص فيها، و الله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله و أخشاهم. و في رواية: أخشاهم و أعلمهم بحدوده له}. البخاري.
و بعدُ :
فما بقي من رمضان استدراكٌ لما مضى. و عبادة الله تَفضُل في مواسمَ ؛ و لكنها لا تقف عندها. و كلما كان همّك الإخلاص زرعت في أيِّ زمن !!.
تقواكَ زادٌ فاعتقِدْ أنه ** أفضلُ ما أودعتَه في السِّقاءْ[1]. و السّلامْ
و كتب
الأندلسي
[1]شيخ المعرّة
Comments
RSS feed for comments to this post