من ينتج العلم في بلادنا؟ بل، هل ثمة من يحترف صناعة المعرفة في عمقها ؟ و هل لدينا مراكز للبحث العلمي جديرة بالإسهام في الخروج من أزماتنا؟ و أي علم نعني؟ هل العلم المنتهي بالصناعة و در المال؟ أم العلم المؤسس لروح المجتمع، و المعالج لتشوهاته الحضارية؟ أم أننا نقصد كل علم له أثر مباشر أو غير مباشر في مسارنا و مسيرنا؟
سيل من الأسئلة من هذا النمط ينتابني، ذلك أني لا أقرأ، و لا أسمع– في وطني المكلوم – أي ربط بين ما نحن فيه من تدهور في شتى المجالات و ما يقف عليه العلم من أرضية في مختلف المستويات و التخصصات؛ فقلة هم الذين يعرفون، و أقل منهم الذين يعترفون، أنَّ اهتزاز منظومة العلم يضرب بالضرورة في بنية المجتمع، و يشل بالتبع حركته، بل قد يصيبه بما يشبه “مرض فقدان التوازن الذي يحدث الدوخة ” و “يجعلك تشعر كما لو كنت تغزل حول نفسك، أو تتحرك عندما تكون واقفاً أو جالسًا”، و قد “يسبب لك السقوط و كسر العظام”.
هل الجامعة الجزائرية، و مخابر البحث العلمي، التي أسست قبل سنوات، على غير هدى، بأموال طائلة غير مدروسة؛ هل هذه الجامعة هي التي تجيب على هذا السؤال؛ و الحال أنَّها مثل النار في الهشيم تأكل الحطب، و لا تمدنا بثمرات يانعة مقبولة، من شأنها الإسهام في حل إشكالاتنا الحضارية الآنية، و المستقبلية القاهرة.
هل بعض المراكز التي أنشئت في تخصصات مغلقة، هنا و هنالك من أرض الجزائر؛ و التي ضخ فيها مال كثير، ثم انتهت إلى نوع من الجمعيات و هيئات إصدار المجلات بعناوين هي إلى التقعير التخصصي أقرب منها إلى التحقيق العلمي الرصين…هل هذه المراكز هي التي تجيب عن معضلة إنتاج المعرفة في بلدي؟
هل الجهود الفردية، المبثوثة هنا و هنالك في جغرافيتنا الواسعة، هي التي تترشح للقيام بديلا عن العقل الجمعي، و عن المؤسسات العريقة في شتى التخصصات العلمية و المعرفية و الحضارية، مع ما يكتنفها من ضعف و عجز و قلة في ذات اليد؟
طالعت “تاريخ الجزائر الثقافي” من جلدته إلى جلدته، و توقفت كثيرا في جملة من النقاط منها:
- أنه هالني ما بذله الشيخ أبو القاسم سعد الله، رحمه الله، من جهد متواصل عبر السنين، و ما قدمه من تضحيات جسام، ليخرج لنا هذا العمل العلمي التاريخي المتميز؛ و لقد عجزت وزارات و جامعات و مؤسسات عن مثله، بل عن نصيفه و عشره…
- و لقد أفزعني الفراغ الذي يرسم صورة ذاكرتنا، مما لا يسمح لنا بالعودة إلى الماضي لفهم ذواتنا الحضارية، و للاستفادة من أخطائنا المتجذرة، و الاستثمار في نقاط قوتنا المتوفرة و المتشكلة عبر التاريخ؛ و هذا الذي جعلنا اليوم و كأننا “بلد من خشب” لا طعم له و لا لون، لا ماض له و لا مستقبل، لا ثقافة له و لا دين…مجتمع يعيد ترتيب الأوراق من جديد، بل من فراغ.
- ثم إنَّ أهم محطة عذبتني و لا تزال، ما عنونه الأستاذ رحمه الله بـ”اللجان العلمية” التي سبقت “الحملات العسكرية الفرنسية” إلى الجزائر، ثم سارت معها جنبا إلى جنب، و حين غادرت فرنسا أرض الجزائر، بقيت تلك اللجان تعمل عن بعدٍ و لا تزال، و توظف ثلة من خيرة العلماء لفهم المستعمَر و لن تزال، و من ثم للتحكم فيه و مداومة استبداده. يقول سعد الله: “إذا كان في العهد الاستعماري ما يحمد عليه فهو البحث المستمر في مختلف المجالات، في شكل جماعيٍّ” و من هذه المشروعات: مشروع “اكتشاف الجزائر العلمي”، و مشروع “الاحتفال المئوي بالاستعمار”، و”لجنة دراسة الأوضاع الإسلامية”، و”لجنة ترجمة الكتب إلى الفرنسية”… الخ.
و لابد أن نعترف اليوم أننا ما لم نعد صياغة أولوياتنا الوجودية و المعرفية، و ما لم نضع البحث العلمي في قمة كل جهد و حركة نتقدم إليها، في أي مجال كان، و ضمن أي حقل من الحقول…ما لم نفعل ذلك، بوعي جمعي، و عقل جماعي، و بحوث طويلة النفس؛ فإننا سندور في مكاننا، و لن نبرح النقطة التي نقف عليها، و سنكرر ذات الأخطاء التي ارتكبناها البارحة، سنكررها اليومَ و غدًا، و سنغدو “موضوعا” للدراسة من هيئات عالمية علمية تكون أعرف بنا منا، و يكون أيسر عليها أن توجهنا حسب مخططاتها، و لن نتمكن أبدا من تحقيق أهداف لصالح بلدنا؛ و ذلك في جميع المجالات و التخصصات: التربية، و الطاقة، و الزراعة، و المجتمع، و الجغرافيا، و الفيزياء، و الفن، و الصناعة، و الفلك…
بدل المطارحات السياسوية لمشاكلنا، و التي تصدِّعنا صباح مساء، و التي تلطخ صفحات جرائدنا، و تسوِّد صفحات قلوبنا، و تخدر عقولَنا و أبصارَنا… بدلا عن ذلك، وجب علينا البدء في وضع الحجر الأساس “للعلم الجزائري”، و لن يكون ذلك بدعا في التاريخ؛ فلكل بلد حرٍّ كريم منظومته المعرفية العلمية، و هي مؤسسة على منظومته التربوية و المجتمعية؛ و بغير ذلك لا ننتظر نزول المهدي لينقذنا، ولا نأمل في البطل الذي يخرجنا من ورطتنا، و لا نؤمن بالسحر و لا بالمعجزات التي تخالف سنن الكون من أجلنا…
فهل نحن مدركون؟