كيف يكون الملل مضرا:
يعتبر الملل أزمة حقيقية تحتاج إلى العلاج الجاد، و إلاّ فإنها ستقود إلى الوقوع في أزمات أكثر خطورة و تعقيدا، فيجعل الملل صاحبه أكثر عرضة لحالات الاكتئاب و التوتر المستمر، كما يفتح المجال إلى اكتساب العادات السلوكية السيئة و غير السوية، كالعدوانية الشديدة، و الإدمان على التدخين أو المخدرات، و غيرها، بالإضافة إلى لجوء الفرد إلى الانزواء، و الانطوائية في محيطه الذاتي، و تدنّي مستوى مهاراته الاجتماعية، و من الممكن أن يقود الملل صاحبه باضطرابات التغذية و الأكل، حيث يلجأ إلى تناول الطعام بكميات كبيرة، محاولة منه لتخفيف الشعور بالملل و الضجر و يضاف إلى ما سبق أنّ الملل من مسببات انخفاض معدّل الإنتاجية في بيئة العمل، و تدني التحصيل الدراسي، و الأكاديمي في البيئة التعليمية.
انشغل بما هو أنفع لك:
العاقل يعرف قدرته على العمل، و هو العمل الذي ينتفع به، و الإنسان لا ينتفع إلاّ بما يقدر عليه، و يتقنه، فإن دخل في عمل لا يقدر عليه و لا يتقنه سيكون فتنة له و لغيره كما ذكر بن تيمية رحمه الله
سواء كان العمل للدنيا أو للآخرة، يجلس في المجالس التي ينتفع بها، يقرأ الكتب التي ينتفع بها، يعمل الأعمال التي تنفعه، و لا يجاري الناس، فلكل واحد طاقة معيّنة و ميول تختلف عن غيره، على العاقل ان يعرف مقدرته على العمل و ان يأتي من الأعمال ما يطيق، و أن يجد في نفسه الانشراح ذكر أهل العلم ضابطة في هذا الباب، تدل على إتقان العمل من عدمه، فقالوا:" العمل المقبول هو أن ينصرف منه العبد و هو راغب، و إن جاء وقته اشتاقت نفسه إليه" فإن لم يجد هذا فهذا خلل، إمّا أن يكون العمل متكلف لا نطيقه، و إمّا النفس بطبعها لا تقوى عليه.
التكلف يورث الملل، و الملل ينقص الأجر أو يذهب به كما في الحديث:( لا يمل الله حتى تملوا) و الملل هنا هو قطع الأجر من الله تعالى. الاقتصاد في العبادة، و في سائر الأعمال، الصحابة نالوا ما نالوا من الخير ليس بكثرة أعمالهم البدنية، و لكن بسلامة صدورهم، و سيرهم برفق و لين في دين الله عزّ و جل، هذا هو المنهج الصحيح، و لإخلاصهم لله عزّ و جل.
الاشتغال بما يشرح الصدر:
ذكر الإمام بن القيم في كتابه القيم زاد المعاد أنّ أعظم أسباب شرح الصدر التوحيد، و على حسب كماله، و قوّته، و زيادته يكون انشراح الصدر قال تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) الزمر 22 و قال تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقا حرجا كأنما يصّعد في السماء ) الأنعام 125، فالهدى و التوحيد من أعظم أسباب انشراح الصدر، و الشرك و الضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر و انحراجه، و منها النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، و هو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر و يوسّعه و يفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق و حرج، و صار في أضيق سجن و أصعبه. و منها العلم، فإنه يشرح الصدر، و يوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، و الجهل يورثه الضيق الحصر و الحبس، فكلّما اتسع علم العبد، انشرح صدره و اتسع، و ليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه و سلم، و هو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدرا، و أوسعهم قلوبا، و أحسنهم أخلاقا، و أطيبهم عيشا. و منها الإنابة إلى الله سبحانه و تعالى، و محبته من كل القلب، و الإقبال عليه، و التنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك، و من أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى و تعلق القلب بغيره، و الغفلة عن ذكره، و محبة سواه، فإن أحب شيئا غير الله عذّب به، و سجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه و لا أكسف بالا، و أنكد عيشا، و لا أتعب قلبا، فهما محبتان، محبة هي جنة الدنيا، و سرور النفس، و لذة القلب، و نعيم الروح، و غذاؤها و دواؤها، بل حياتها و قرة عينها، و هي محبة الله وحده بكل القلب، و انجذاب قوى الميل و الإرادة و المحبة كلّها إليه، و محبة هي عذاب الروح، و غم النفس، و سجن القلب، و ضيق الصدر، و هي سبب الألم و النكد و العناء، و هي محبة ما سواه سبحانه.
من أسباب شرح الصدر دوام ذكر الله على كل حال، و في كل موطن فلذكر الله تأثير عجيب في انشراح الصدر، و نعيم القلب، و للغفلة تأثير عجيب في ضيقه و حبسه و عذابه.
و منها الإحسان إلى الخلق و نفعهم بما يمكنه من المال و الجاه و النفع بالبدن، و أنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرا، و أطيبهم نفسا، و أنعمهم قلبا، و البخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرا و أنكدهم عيشا و أعظمهم هما و غما.
و منها الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر واسع البطان متسع القلب، و الجبان أضيق الناس صدرا، فلا فرحة له و لا سرور. و منها إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه و عذابه، و تحول بينه و بين حصول البرء، فإن الإنسان أتى بالأسباب التي تشرح صدره و لم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه، لم يحظ من انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوران على قلبه، و هو للمادة الغالبة عليه منهما، و منها : ترك فضول النظر، و الكلام، و الاستماع، و المخالطة، و الأكل، و النوم، فهذه الفضول تستحيل ألاما و غموما، وهموما في القلب، تحصره و تحبسه، و تضيقه، و يتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا و الآخرة منها، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب من كل آفة من هذه الآفات بسهم، و ما أنكد عيشه، و ما أسوأ حاله، و ما أشد حصر قلبه، و لا إله إلا الله ما أسعد عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم، و كانت همته دائرة عليها.
من المعلوم المقرر عند كل مسلم أنّ سعادته و نجاته و فلاحه هو قيامه بدينه، خلق الله الجن و الإنس لتحقيق العبادة، و هذه الغاية متى ما أدّاها على وجهها الصحيح استقامت له الأمور في الدنيا و الآخرة، و متى ما فرّط فيها فإنه مبتلى في نفسه و في أهله و ماله بقدر ما فرّط فيها.