إن للصدق معاني و مدارك لا يحق و لا ينبغي لأيّ مجتمع أن ينساها كيف أن يتناساها، فالصدق معراج تطور المدائن و سلّم وصولها إلى مبتغاها، و الكذب و الخيانة أوّل سبب و أوفر مرجّح لهدم الدول و تقويض الحضارات.
فالصادق أولى الناس بالنصر و التمكين، و غيره أحق الخلق و أجدرهم بالانتكاس و الخذلان.
و حديثي هنا لا يعني بالصادق و الكاذب آحاد الناس فقط، بل أعني كل شخصية سواءً كانت مادية كالأشخاص أو معنوية كالهيئات و الدول.
و قد قسّم علماؤنا الصدق إلى ثلاثة مراتب سنورد ما تيسّر توضيحا لكل مرتبة و الله المستعان.
أولا : الصدق مع الله تعالى
هو أسّ الأمر و أساسه، و رأس القوة و وقودها، و أول خطوة على طريق المنعة و أول درجة في سلم القبول، فهو الذي يُصلح حالك مع الله تعالى الذي إن حصل فكل ما عداه سهل ميسّر.
الصدق مع الله هو صدق التوجه و الانقياد إليه سبحانه و تعالى، و صدق التوكل و العزيمة عليه و صدق اللجوء و الخضوع إليه وحده جلّ شأنه.
الصدق مع الله أن ينعقد قلبك و يتيقن فؤادك بعبارة : يا الله أنا لا أرجو غيرك و لا أتوكل إلا عليك و لا ألجأ إلا إليك ، أنا أتخذ الأسباب التي شرّعتها لي لأنك أمرتني بذلك و حثتني عليها لا اعتقادا فيها أنها هي القادرة على الإبرام و الفسخ، فكل شيء منك و إليك.
أما ترى – أيها القارئ الفاضل – أنك بهذا أمسكت الدنيا و ملكتها و جررتها إليك فأنت سيّدها لا هي معبودتك، و إن كنت في بيت من ورق، أو لا يعلم عنك أحد من العالمين شيئا.
أما ترى أنّ الصدق مع الله يورث العزّة و يُكبر في النفس الكرامة ففي قصة سيدنا إبراهيم الخليل أنه أتاه جبريل الأمين و هو في الفضاء يطير نحو نار أوقدت لمدة أربعين يوما حتى أن الطير لم تعد تقدر على التحليق فوقها لشدة اضطرامها، فقال له : ألك من حاجة حتى أقضيها؟ فقال له عليه السلام و هو الصادق المتوكل: " أما لك فلا، و أما إلى الله فحسبي الله و نعم الوكيل"
أما ترى أنّ الصدق مع الله هو أعلى درجات الحرية و أرقاها، فأنت لا تسأل غيره سبحانه و لا تتوسل سواه، فقد قال الإمام علي رضي الله عنه " اسأل من شئت تكن أسيره، و استغن عمّن شئت تكن نظيره، و أحسن إلى من شئت تكن أميره"
أما ترى أنّ الصدق مع الله يورث عز الدنيا و الآخرة، فبه تكون أكرم الناس و أسخاهم لأن سيّدك له خزائن السماوات و الأرض "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه "، و به تكون أقوى الناس لأنك تستمد قوتك من القوي المتين ، و به تكون أشجع الناس لأنك متيقن أن أجَلك المحدّد لن يتقدم لحظة أو يتأخر فيكون حالك كقول القائل:
أيّ يوميّ من الموت أفرّ أيـــوم لــم يُقدرْ أَم يـوم قُـدِر
يوم لــم يـُقدرْلا أرهـبـه و من المقدور لا ينجو الحذر
و إذا أردت أن تعرف – أيها القارئ الفاضل – ما يفرزه صدق العبد مع الله فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ابن امرأة تأكل القديد بمكة و قد أصبح سيّد الدنيا و الآخرة، انظر إلى أبي بكر الصديق و كيف أصبح بصدقه " ثاني اثنين إذ هما في الغار "، انظر إلى الإمام أحمد و كيف صدق في محنته فأصبح إمام أهل السنّة و مرجعها الأكبر، انظر إلى ابن باديس و قد صدق عزمه و صلح توجهه فأصبح إمام المصلحين و قائد الصالحين.
هذا هو الجزء الأول من الصدق و لحديثنا بقية...
Comments
أخي الكريم مقالك رائع عن الصدق ، وإلى ما يؤول إليه المرء عندما يكون صادقا مع خالقه ومع نفسه ومع الذين من حوله...ليصل إلى مرتبة عالية من مراتب الأخلاق الحميدة ...
نشكرك على هذا المقال الهادف
RSS feed for comments to this post