بعث الله محمّدا صلى الله عليه و سلم بالحنيفيّة السمحة، و الدين القيم، و الصراط الواضح المستقيم، و إن لكل نبي أتباع، و أتباع نبينا صلى الله عليه و سلم أتقنوا رسم حياته للناس من بعدهم، فلا تجد شيئا من سيرته صلى الله عليه و سلم مطويّا عن الناس لا يُعلم.
و إن أعدل و أكمل من نقلوا هذا التراث الرباني - الذي ينبني عليه الدين و يسير عليه المسلمين – بالأقوال و الأفعال و الهيئات و الحركات و السكنات، هم من وصفهم سيّد البشرية صلى الله عليه و سلم بقوله " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، و انتحال المبطلين، و تأويل الجاهلين" رواه ابن جرير و تمّام في الفوائد.
و لسنا بصدد بحث تخصصيّ حتى نعرّف و نقنّن و نقسّم، و إنما أردنا إماطة اللثام عن صفة من صفات القوم و شِيمهم التي يمكننا الاتصاف بها.
و تشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبّه بالرجال فلاح
و هذه الخاصية هي: التماس الأعذار للناس و البعد عن التصنيف، تلك الصفة التي افتقر واقعنا إليها فأصبح حالنا لا يسرّ الحبيب، و لا يبعث على فخر القريب.
و ما نقصد من هذه الصفة هو حبّ تجميع الناس، و العمل على التفافهم حول الحق و الهدى، و إيجاد الأعذار و المخارج لأخطائهم، و حملها على أفضل المحامل، و إنّ البلوى الحاضرة هي تمييز الناس بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، و إخراجهم من دائرة الصلاح باحتمال شبهة في كلام أو تصرف.
و إن التصنيف داء لا يبنى إلا على سوء الظنّ، و عدم التثبت، و محبة نشر الفضيحة، و لا ينتج عنه إلا إضاعة شعيرة الأخوّة الواجبة، و إهدارا لأعراض و صلات المسلمين، و نشرا للتفرقة و التشرذم بين أهل القبلة الواحدة.
و ما لفتنا لهذا الموضوع إلا هذا التهارش المتفاقم الملاحظ بين أصحاب الملة الواحدة و القيمة و المصلحة الواحدة، و المعاد و المصير المشترك، تهارشٌ بلغ في قوته و استحمار الشيطان لفاعله، حدّ التبديع و التفسيق و التضليل و المتاجرة بالفضائح و نشر المثالب و المعايب.
و مما يؤسف له أن هذا الداء مما يمكن أن يُصطلح على نعته ب " المنتوج ذو الاختراع و التسويق العربي "، فلا تجد هذا عند أصحاب الثقافات الأخرى، و الملل المخالفة، مع ما يميّزهم من اختلاف شنيع، و تمايز واضح، و لكنّهم عرفوا طريق قوّتهم، فتوحّدوا و تفرّقنا، و تنافسوا و تدابرنا، و التحموا و طعن بعضنا بعضا، فما أحسنّا التقدم في دنيانا، و لا عرض ديننا ذاك العرض اللائق المهيب، الذي إن لم يقنع المخالف باعتناقه، ألزمه حجة ريادته و ضرورة احترامه و إجلاله، و لكنّ العكس ما حدث للأسف، فسوء تقديمنا أزهد الناس في مبادئنا، و زاد في نفورهم عن الالتحاق بركب الهدى و سفينة النجاة و قافلة الحق و الفلاح.
و رحمة الله على الشيخ محمد الغزالي حين قال: " الإسلام قضية عادلة، و لكن المحامي فاشل ".
أيها الإخوة القرّاء، إن أخلاقنا عنوان علمنا، و دليل صلاحنا، و سمة حسن اقتدائنا، و إنّ كثرة العلم مع سوء الخلق و جفاء الطبع و الممارسة، ما هو إلا حجة علينا لا لنا نسأل الله العافية للجميع.
ألا إني أناشدكم الله تعالى: أن يصلح كل واحد بينه و بين أخيه بأن يصلح نفسه، و يتمنى الخير للجميع، و أن يعمل على التجميع لا التفريق، و التكتيل لا التحزيب، عسى الله أن يلحقنا بالصالحين، و يشملنا قوله تعالى: " و نزعنا ما في صدورهم من غلّ، إخوانا على سرر متقابلين ".
هذا ما تيسّر و لحديثنا بقيّة...