لم تكن وثيقة المدينة تلك التي نظّمت علاقة المسلمين بالآخv، إلّا دليلا على رقي ّ الفكرة وعدالة المنهج، و صدق النوايا، المنطلقة من المنهج الرباني الجديد على البشرية بقيمه و معتقداته، و برّه و إحسانه و إحقاقه لكرامة الإنسان، و من هذا المنطلق وقّعت وثيقة المدينة، و فيها نصّ، يقرّ التعاون بين أهل الأفكار و العقائد المتباينة، إذا صدقت نوايا التعايش و التعاون، و هو المنطلق الذي انطلق منه الرسول - صلى الله عليه و سلم -، و هو يطلب مساعدة بني النضير في دية استحقّت على المسلمين و يظل اليهود يهودا، حتى و لو اختلف الزمان و المكان، و يظل الغدر أخا لهم، مهما وفى لهم النّاس، و ها هو النبي - صلى الله عليه و سلم - يقصدهم و يجلس إليهم، ليساعدوه حسب العهد بينه و بينهم، و هم في الخفاء يومؤون إلى فاتك منهم، ليرميه - صلى الله عليه و سلم - بصخرة من أعلى الحائط الذي يتكئ إليه، و ينزل الوحي من ساعته أن انهض، من بين أهل الرّجس الأذلة، و يحكم أيها الشرذمة الجبانة، يا من يخجل التّاريخ أن يكتب عنكم في صحائفه، و يندى جبين البشرية أن تنسبوا إليها، لقد خنتم عهد الله و رسوله فاستحققتم العقاب، و هو لا محالة نازل بكم فرسول الله و صحبه على منازلكم، و هو يناديكم بكل ما في قلبه من إخلاص لهدايتكم لعلكم تهتدون و لأن رسالة نبيّ الله هي ان يدخل النّاس في دين الله، فإنّه يعرضه عليكم: ((يا معشر يهود، اسلموا تسلموا، فقالوا بلّغت يا أبا القاسم، فقال ذلك أريد، فقالها الثّانية، فقالوا قد بلّغت يا أبا القاسم، ثم قال الثالثة: اعلموا أن الأرض لله و رسوله و إنّني أريد أن أجليكم، فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه، و إلّا فاعلموا أن الأرض لله و رسوله)).
و تبرز أعناق النّفاق كما برزت قبلا في غزوة أحد، فالمنافقون في المدينة يعدون بني النضير بالنصرة، و الله يعلم إن المنافقين لكاذبون، و اليهود يرفضون الجلاء و يهرعون إلى الأطم و الحصون، و هم الذين لم يواجهوا في حروبهم جيشا، و لم يتقدّموا بسيوفهم صفّا، حربهم دائما من وراء جدر و حصون، و لكن هيهات لهم و قد غدروا من وفى لهم، و هو رسول الله - صلى الله عليه و سلم -، و الله ما كانت حصونهم مانعتهم من الله، و لكنهم يظنون غير ذلك و يتحصنون بحصونهم و الحصار يحيق ببني النضير و قد رفضوا الانصياع لأمر الجلاء بأموالهم و أهليهم، فينطلق الأمر النبوي بقطع النخيل، و هو أمر فتّ في عضد اليهود، فنزلوا على حكم النبي - صلى الله عليه و سلم -، و حملوا أموالهم و متاعهم، حتّى إنهم ليقتلعون أبواب منازلهم ليحملوها، يخربون بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين، ليكونوا عبرة لمن يعتبر و يبصر و يتفكر، و يرتحل رؤوس الفتنة منهم و هم حيي بن أخطب و شيعته إلى خيبر، ليظل مدار الفتنة قريبا منهم، و يظل خبثهم يحيك الدسائس للمؤمنين، يساندهم في مكرهم جيش الحقد الخفي، و طابور النفاق، من منافقي يثرب و أهل الحقد فيها و يسير الرّكب الذليل يتهادى بحمله الشقي، و قد امتلأت النفوس غيظا حقدا، و هو يقصد الشام، حيث أول وفد إلى أرض الحشر التي وعد الله بها رؤوس الفتنة في الأرض، و حيث ستنبعث عليهم عبادا لله أولي بأس شديد، يجوسون خلال ديارهم، و ينفذون وعد ربّهم، أن لا تبقى لليهود باقية، و ان تظل الذّلة و المسكنة مسحتهم الخالصة، و لكي تكون هذه الرحلة التشتتيّة هي أول الحشر الموعود، لتطهير الأرض من دنس اليهود، هؤلاء القوم الذين لعنوا على لسان الأنبياء و ضجّت من سوء فعالهم الأرض و الفضاء، و هم في كل مرة يعودون لما نهوا عنه، و قد سرت فيهم روح الحقد، و نمت في قلوبهم بذرة العداء للبشرية كلّها، و ظلّوا على مدار الزّمان، مثيروا فتن و حروب، و محاربين لكل فكرة إصلاحي تسعى لخير البشرية، و تدعو إلى منهج الله، و لكنّ وعد الله حقّ، و الحشر الذي بدأ أوّله في المدينة المنورة سيحين أوان آخره في بلاد الشام، فالقدس لله و لرسوله و للمؤمنين إرثا خالصا لأمة محمد - صلى الله عليه و سلم -: (هو الذي أخرج الذين كفروا من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا و ظنّوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حي لم يحتسبوا و قذف في قلوبهم الرّعب يخربون بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار).