أيها الأخوة الكرام, البارحة: كان الحديث حول الحكمة التي حينما يؤتاها الإنسان من قبل الله عز و جل, فقد أوتي خيراً كثيراً, و ذكرت بالمقابل: أن الدنيا بكل ما فيها من متع, وصفها الله بأنها متاع قليل:
﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾
﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾
ما الحقائق التي يمكن أن نستنبطها من هذه الآيات؟ :
1-رحمة الله هي الجنة :
أيها الأخوة, تطرقت البارحة إلى عطاء آخر, لا يقل عن الحكمة: إنه رحمة الله عز و جل, و قد رغبت أن أتعرف إلى الآيات الكريمة, التي تتحدث عن رحمة الله, فهناك آيات كثيرة, لكن يستنبط من هذه الآيات حقائق .
الحقيقة الأولى: يقول الله عز و جل:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ﴾
معنى ذلك: أن الإنسان الذي يؤمن, و يستقيم, و يجاهد في سبيل الله نفسه و هواه, إنما يرجو رحمة الله؛ المؤمن يرجو رحمة الله, و الكافر يرجو الدنيا؛ يرجو مالها, يرجو نساءها, يرجو سمعتها.....
فالإنسان عليه أن يتبصر, هل يرجو رحمة الله من عمله ؟ غير المؤمن يبحث عن مصلحته, يبحث عن شهوته, يبحث عن لذته, يبحث عن مكاسب مادية, بينما المؤمن يرجو رحمة الله, هذا هو الفرق الجوهري, رحمة الله هي الجنة, قال تعالى:
﴿وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
الحقيقة: من المعاني الجامعة, المانعة, الواسعة, الشاملة, هي رحمة الله عز و جل, هي الجنة, الهدف من الإيمان, و العمل الصالح, و المعاملات, و الأخلاق, و ما إلى ذلك, هو أن المؤمن يرجو رحمة الله, وصل للجنة, الجنة: هذه رحمة الله عز و جل.
2-مكارم الأخلاق سببها رحمة الله :
أيها الأخوة, كل مكارم الأخلاق, مجموعة في رحمة الله:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
إذاً: هي السبب, و هي الهدف, و هي المصير, مكارم الأخلاق سببها:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾
اللين, و اللطف, و الرحمة, و الشفقة, و العطف, بسبب ما استقر في قلب رسول الله من رحمة, من خلال اتصاله بالله, فهي السبب, هي الهدف:
﴿يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ﴾
هي المصير:
﴿وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
هي الأمل:
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً﴾
3-الباعث الحقيقي لكل معالجة هي رحمة الله
أيها الأخوة, ما تشاهد في الدنيا؛ من مصائب, و من كوارث, و من فيضانات, و من زلازل, و من حروب أهلية, الشيء الذي لا يُحتمل, يُفسر برحمة الله:
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَ لَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾
تقتضي رحمة الله عز و جل: أن يسوق هذا المجرم إلى الجنة, أن يسوقه إلى الهداية, أن يسوقه إلى التعريف بمهمته في الحياة.
لو أن الإنسان خلق ليكفر, أو خلق كافراً, لا يوجد داع لكي يعذبه الله:
﴿وَ لَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾
لو أن الإنسان مخلوق لجهنم, أو لم يكلف بالهداية, لا يوجد داع أن يكون مع الكفر, هناك تعذيب.
الآن: هذه الرحمة التي هي السبب, و الهدف, و المصير, و الباعث لكل معالجة.
4-الرحمة ثمنها الإحسان :
يقول الله عز و جل:
﴿وَ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾
﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾
هذه الرحمة ثمنها الإحسان:
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَ لَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾
عطاء الله هي رحمة الله :
أيها الأخوة, إن أردت رحمة الله, هذا العطاء المطلق, و الحقيقة: لو دققت بالتفاصيل, لوجدت رحمة الله في كل شيء, تعني الشيء المادي, تعني الصحة, تعني السلامة, تعني الطمأنينة, تعني الثقة, تعني الراحة, تعني السعادة, تعني أن يكون القبر روضة من رياض الجنة, تعني الجنة.
فالعطاء الجامع, المانع, الشامل, الواسع, أو الأصح أن نقول: مطلق, عطاء الله هي رحمة الله.
من معاني الرحمة :
من معاني الرحمة قال:
﴿وَ إِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ﴾
معناها: المطر رحمة, الجفاف ضرَّاء, المرض ضراء, الصحة رحمة, الفقر الشديد ضراء, الكفاية رحمة, الخلافات الزوجية ضراء, السعادة الزوجية رحمة, الأولاد المشاكسون ضراء, الأولاد الصالحون رحمة, هذا معنى آخر:
﴿وَ إِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾
الآن:
﴿وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾
معنى ذلك: كل شيء مريح, رحمة الله كل شيء مسعد, رحمة الله كل شيء يسر لك أمرك (رحمة) .
الأولى: جاءته رحمة من بعد ضراء, الثانية: أذقنا الإنسان منا رحمة, ثم نزعناها منه, يعني: السلب بعد العطاء, المرض بعد الصحة, الفقر بعد الغنى, ممكن الغنى بعد الفقر, لكن الثاني أصعب: إنسان كان فقيراً فاغتنى, أما كان غنياً فافتقر, كان مريضاً فشفي, لما كان في صحة طيبة ثم وقع في مرض شديد, مؤمن بين أناس شاردين, مؤمن له يدان, و له رأس, و له أرجل, و يأكل و يشرب كأي إنسان آخر, طيب أين عطاء الله؟ قال:
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾
قد لا تُرى رحمة الله بالعين, شخص مؤمن يشبه أي إنسان, قد يكون شكله أقل مما ينبغي؛ ليس عنده الجمال الزائد في شكله –مثلاً-, في دخله, في بيته, في أولاده, لكن باستقامته, و اتصاله بالله عز و جل, في قلبه رحمة, و سعادة, و طمأنينة, لو وزعت على أهل بلد لكفتهم:
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾
أحياناً: تجد بيتاً عادياً, لكنه محفوف برحمة الله:
﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾
إذا الله عز و جل أحاط أسرة برحمته, فالأسرة موفقة, متفاهمة, بدخل محدود, الله يبارك لها في دخلها, يبارك لها في وقتها, يبارك لها في حاجاتها, و الأمور كلها ميسرة, يبارك لها في عملها الصالح, هذا الذي لا يعبأ برحمة الله, هذا ضال أشد الضلال:
﴿وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾
لا يرجو رحمة الله, يقنط من رحمة الله.
قال تعالى:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
هؤلاء الذين لا يرجون رحمة الله, هم الضالون.
ما هو المطلوب منك؟ :
أيها الأخوة, حينما تُضطر من أجل أن تنال رحمة الله؛ أن تعاكس من حولك, أو أن تعاكس أقرب الناس إليك, قال: أنت مكلف مع هذا الهدف النبيل, و الوسيلة المزعجة, أن تكون ليناً:
﴿وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً﴾
يعني: و أنت في طلب رجاء, رحمة الله ينبغي أن تكون ليناً مع من حولك.
هذا ما أراده الله :
أيها الأخوة, أحياناً: الإنسان يؤمن, يستقيم, يكون قاسياً مع والدته, قاسياً مع والده, قسوة لا مبرر لها, فمن أجل رحمة الله, يقف موقفاً قاسياً, هذا ما أراده الله عز و جل, حتى و أنت ترجو رحمة الله؛ أن تكون معتدلاً, أن تكون ليناً, و أن ترعى من حولك:
﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾
﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾
هذه ما تتمثلها رحمة الله :
في شيء آخر: قال:
﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً﴾
الأمطار, النباتات, هذه الأساسيات في حياة الإنسان؛ الهواء, و النبات, و الماء, و الطعام, و الشراب, و الأطيار, و الأسماك.......:
﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾
﴿آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾
هذا الدعاء الأساسي, الأهم:
((اللهم رحمتك أرجو, فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين))
سيدنا الخَضِر, هذا الذي وردت قصته في القرآن الكريم, قال:
﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾
و الإنسان بأكمله, بكل ما عنده, بوجوده, بإمداده, برشاده, هو كله كلمة واحدة. قال:
﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾
يعني: رحمة الله تتمثل بالإيجاد, و الإمداد, و الهدى, و الرشاد.
خاتمة القول :
أيها الأخوة, آيات كثيرة جداً من رحمة الله, لكنه موضوع مهم: أن ترى رحمة الله هي كل شيء, و أن تسعى إليها, و أن ترجوها, و أن تكون هي المصير, و هي الهدف, و هي السعادة, و هي الشيء الذي يتمايز به المؤمنون, و رحمة الله تأتي من طاعته, و تأتي من الإحسان إلى خلقه, فكلما كنت أكثر إحساناً للخلق, كنت أقرب إلى رحمة الله.