المسلمون يسيّرهم الوحي من جهة و تسيّرهم قلوبهم و عقولهم مثل جميع البشر من الجهة الأخرى، ذاك هو النسب الرباني و هذا الانتماء الإنساني، و لا يكتمل إسلامهم إلا باستقامة هذه المعادلة و استوائها على التصوّر النظري و الواقع العملي.
المسلم الذي يُخرجه كتاب الله و سنة رسوله يكون جامعا بين الربانية و الإنسانية، صالحا، نافعا في الدنيا مفلحا في الآخرة، مجاهدا لنفسه شاهدا على غيره، فإذا أصيبت معادلة الربانية و الإنسانية بخلل ما انعكس ذلك سلبا على المسلم و مشروعه كله، فلا مكان لرهبانية باسم الربانية، و لا مكان لعلمانية باسم الإنسانية، لأن المعادلة الشرعية المحكَمة تتيح التماس الايجابيات و المحاسن على كل المستويات في انسجام متوازن يحصّن من التبعيض و التشتّت سواء في التصوّر أو التكوين أو السلوك بالنسبة للفرد و المجتمع.
يستمد المسلم من نفخة الروح الأولى نسبه السماوي الذي يورثه العبودية لله و ما تقتضيه من إخلاص و خشية و خوف و رجاء و توكّل، فيكون صاحب قلب سليم و نفس زكية و ذهن صاف، و يتقلّب بين المشاعر الرقيقة الجياشة و الأفكار الحية القوية النابعة من تفاعله المتواصل مع القرآن و السنة و اتّصاله المتجدّد بالملأ الأعلى، و يستمدّ من قبضة الطين بُعده الإنساني الممتدّ طولا و عرضا و عمقا مع الكون و من فيه و ما فيه، فهما و تآلفا و تعارفا، لأنه بُعد يؤصل لعلاقات ودّ و تعاون و تناغم مع محيطه بكل مكوّناته بناء على وشائج العقيدة و الدم و الأرض و البنوّة لآدم و العبودية لخالق واحد اقتضت حكمته أن يجعل من الاختلاف سنّة تحكم الحياة و الأحياء لتكتمل صورة التنوع الإيجابي و التعاون المتعدّد الأشكال الضروري لتوفر شروط العيش المشترك بين الجميع في أرض الله وفق سنن الله.
إذا تحرك هذا المسلم بمعادلة الربانية و الإنسانية كان هو الإنسان النموذج و القدوة للبشرية المشرَئبّة العنق تطلّعا للدليل الثقة الحجّة في طريق الحياة الحائرة بين الفلسفات و التصوّرات المتشعبة الدروب، و تلك هي وظيفته بمقتضى ميثاق الإيمان و البيعة لله و رسوله.
هذا الإنسان يجب على الأمة أن تنشئه تنشئة جديدة و تبعثه بعد غياب عن الشهود الحضاري طال أمده.
في التصوّر الإسلامي الوحي لا يختص بجانب العقدية و العبادة فقط، و الإنسانية ليست انقطاعا عن الوحي و استئثارا بشؤون الحياة الدنيا، فنصوص القرآن و السنة تتناول هذه و تلك، كما تأخذ بالاعتبار الموروث الإنساني في مجالات الإبداع و الاستكشاف و الاختراع و التقدم العلمي و العواطف و الأحاسيس و نحو ذلك.
المسلم –الفرد و الأمة– متميّز بإتباع المنهج الرباني في حياته الفردية و الأسرية و الاجتماعية، لكن هذا لا يقطعه عن البشر مهما كان دينهم، لديه عقل يفكر مثلهم و لديه قلب ينبض مثلهم، هذه الإنسانية تشمل الجانب البشري أي استخدام العقل، كما تشمل البُعد الإنساني أي الرابطة الطبيعية الناشئة عن الأخوة في الدم و التراب و ما تحويه من مشاعر طيبة هي قاسم مشترك بين البشر الأسوياء.
هل نعطل الجانب البشري لأن غير المسلمين يشاركوننا فيه كما ترى المدرسة التراثية الحرفية المتشنجة التي ألفت التقوقع و القراءة النصية الحرفية الغليظة للقرآن و السنة؟ سنكون إذًا خاسرين على طول الخط لأن الحضارة هي تراكم الأفكار و الانجازات البشرية كلها، نضيف إليها مقاييسنا الدينية المتميّزة التي تستبعد ما خالف الشرع فقط، و تحتضن كل ما هو إرث بشري نافع.
و هل تقتضي مرجعيتنا الإسلامية مقاطعة الأمم و الشعوب غير المسلمة رغم منحاها الإنساني و انخراطها في عمل الخير و إشاعة مشاعر الرحمة و العطف و الشفقة و الإحساس بآلام الناس و آمالهم؟ هذه المرجعية بذاتها هي التي تدفعنا دفعا إلى العناية بالجانب البشري و الانخراط في البُعد الإنساني لأن هذا بالضبط مقتضى الربانية، كلّ هذا و نحن على صلة وثيقة بالله تعالى في نشاطنا الدنيوي –الفردي و الجماعي– كما في أعمالنا التعبدية لأنه لا يجوز أن نعتمد على أنفسنا و ننسى الله، بل نبذل كل وسعنا، نعطي أقصى ما يمكن و نتوكل على الله، هو الناصر و الموفق، إذا كان معنا فمن يغلبنا؟ الدنيا مبنية على الأسباب لكننا نعبد الله الذي يتحكم في هذه الأسباب ابتداء و انتهاء.
ثم صلتنا نحن البشر بآدم عليه السلام صلة علم: ﴿وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (سورة البقرة الآية 31) فإذا قلّ العلم كانت الصلة بآدم واهية و ضعف الجانب الإنساني و تحوّل الدين إلى مجرد مراسم، و إذا توفر الذكاء مع الخواء الروحي غدا الدين مجرد مصيدة للغنائم (كما يقول الشيخ محمد الغزالي)، و إنما ينتصر الدين و تزكو الحياة بوجود “الإنسان السوي” صاحب التفكير الصحيح و المشاعر الفياضة و السلوك القويم.
بقي أن نشير إلى فرق كبير يباعد بين الرؤية الإسلامية و الفلسفة الغربية لقضية الجانب الإنساني، فالفكر الغربي يعظّم الإنسان كنهاية لا تحتاج إلى عنصر من خارجها، يركّز على قيمة الإنسان و عمله و قدرته اللامتناهية على الإبداع و الاختراع، لهذا هو يؤلهه و يستبعد الدين و يعدّه عائقا يقزّم الإنسان، و هذا أدى بدوره إلى تقديس القوة و أفضى إلى “شوفينية إنسانية” مقيتة سمحت للغربيين باستغلال الشعوب و سحقها، أما الفكر الإسلامي ففيه الإنسان العبْد لله، له دوره و إمكاناته في العلوم و الفنون و الحياة الأخلاقية… و هذه هي الإنسانية الجميلة المعتدلة البناءة.