خطاب و إبلاغ من الله جل و علا إلى ملائكته الكرام، أنه سيجعل الأرض مستقرا لخليفة يقوم على إعمارها، و استخراج كنوزها و ملئها حياة و عبادة، و لأنه سبحانه أعلم بخلقه و قدراتهم و ضعفهم، و قلة إحاطتهم بالكون و أموره و أسراره، إقتضت حكمته أن يعلم آدم عليه السلام أسرار الأشياء و أسماءها، و أن لا يتركه لإجتهاده القاصر عن معرفة كنه الأشياء، [و علم آدم الأسماء كلها] لكي لا يترك لنا حجة أن نقول لا ندري، و لا نستطيع، و لا نريد، إنها الأمانة الثقيلة و الحمل الملزم و العمارة الواجبة، و لا خيار آخر للإنسان الذي كلف بالإستخلاف، و أؤتمن على المنهج الإعماري و رسمت له سبل القيام بالمسؤولية الجسيمة، و سميت له أدواتها، و خريطةالسلامة من أخطارها، و مواطن الإبداع و الإعمار فيها، و سخرت له كل مناحي الإنتاج و الإستخدام و الاستفادة من كنوز الأرض، و فضاءات العطاء، و مكنونات الأرزاق المبثوثة في البر و البحر و الفضاء.
فالإنسان إذن خليفة الله في أرضه، و هذه الخلافة العبادية هي الهدف من خلقه و إيجاده من العدم، و هي الرسالة الإنسانية المتوارثة جيلا بعد جيل، أن تكون العبادة لله وحده، و أن تسير مسارات الحياة و الإعمار وفق إرشاده و هديه سبحانه، دون خروج عن حقائق هذا الوجود، و دون إخلال بمباديء وحدانية الخالق و تفرده بالقدرة و العبادة.
و لأن الخليفة مؤتمن على ما أستخلف عليه، فإنه بلا شك سيسأل عن كل ما أنجزه و أبدعه و أداه أو قصر في أداءه و إذا ما أخل بشروط الخلافة التي أوكلت إليه، و لكي لا يظن هذا المستخلف أنه مخير في أداء مهامه الإستخلافية، ظلت الرسالات السماوية تكلفه و تذكره بما أنيط به، و ما حمله من أمانة الإعمار العادل و الإستخراج الرشيد لماهو مسخر له وفق شرائع الله.
و إمتد زمن الإستخلاف قرونا تتلوها قرون، منها من رشد سبيله و صح مساره و ازدهر عمرانه و صلح معتقده و عمله، و منها من طغى و بغى و ضل و أضل و ظلم و أفسد، و في كلا الحالين كانت سنة الله في الخلق و الكون تجري على المصلح و المفسد معا، بحسب العمل و الأداء...
و لقد من الله علينا برسول هو خاتم النبيين و سيد المصلحين صلى الله عليه و سلم، فأجلى و أوضح و بين و علم و هدى و شرَع لأمته، ما جعلها أكثرالأمم إستقامة على امر الله، و أحرصها على أداء مهام الإستخلاف الرباني، حتى و إن تعثرت مسيرتها حينا بعد حين، تبقى هي الأمة الشاهدة على أداء غيرها من الأمم، و الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، القائمة على نصرة التوحيد و الدعوة إليه، إلى إن يرث الله الأرض و من عليها.
لقد أراد الله تعالى بحكمته التي لاندركها كلها، أن تكون الأرض مستقر و مستودع و متاع للبشر، و موطن البحث عن الرزق، و مجال التعامل و المخالطة بين الناس، و آفاق التأثر و التأثير الإنساني، ضمن منظومة قوانين و توجيهات ربانية، وضعت لمساعدة البشرية على القيام بمهام الخلافة، في صورة صحيحة عادلة مبدعة و راشدة، و عليه فإن إالإنسان مكلف بأداء المهمة، دون خيار، و لا مجال للرفض و النكوص عن غمار معركة البناء و التقويم، و الصلاح و الإصلاح، و ذلك واضح كل و الوضوح من خلال كتاب الله و سنة نبيه، و هو أكيد الوضوح أيضا في الشرائع و الرسالات السابقة لنا، إلا أن ما بقي من عمر هذه الخلافة العمرانية كلفت به أمة محمد صلى الله عليه و سلم أن تقوم على امر الله، و أن تتولى أمر نشر الدين الذي ختم الله به الرسالات، و أن ترفع به الإصر و الأغلال التي قيدت أعناق الإنسانية، و أرهقت كاهلها، و أشقت البشرية، ضمن منظومة نفعية إلحادية رافضة لقيم الاستخلاف الرحيمة.
فما دمت مستخلفا أيها المسلم و الخطاب لك لأنك تؤمن بكتاب ربك و تتخذ من آياته مؤشرا و دليلا في مسيرتك الحياتية، فإنه لمن أول واجباتك تجاه من استخلفك جل شأنه، أن تسير في أرضه و ملكه وخ لقه و نعمه، حسب أمره و نهيه دون تذمر أو حرج في صدرك، لكونك وفق قانون الاستخلاف الذي تؤمن به، قد أقامك ربك سبحانه، حارسا و قيّما و مقيما لقيم الحق و العدالة، و الرحمة و الإكرام للإنسان، كإنسان مكرم على سائر المخلوقات، بغض النظر عن توافقك و إختلافك معه في العقيدة و الجنس و اللون، و لأن ربك سبحانه قد كرمك و رفعك على سائر مخلوقاته، فعليك أن توقره و ترجوه أن يجعلك هاديا مهديا، و أن تتخذ منه سبحانه مرشدا و وليا و رقيبا، و أن يكون حسبك و وكيلك في مسيرتك و عملك، عسى أن لا تكون بدعاء ربك شقيا،..
إن موضوع الخلافة الربانية للإنسان ثابت في عقيدتنا، و لا مجال لدينا و لا مفر من القيام به، على أكمل وجه و أتم صور، بحسب قدراتنا البشرية الضعيفة، و بحسب مقدرتنا على إلزام نفوسنا الأمارة بالسوء، لزوم أمر ربها و اتباع هديه، و إنه لمن المحسوم أننا لم نخلق إلا لعبادة الله جل وعلا، و أنه سبحانه غني عنا و نحن الفقراء إليه، و أننا بعبادته ننجو و بكفرانه نهلك، و إنه لمن الحماقة أن نبحث عن سبيل للنجاة سوى الطاعة المطلقة له سبحانه، و القيام بأمر خلافته الشريف المشرّف على أكمل وجه و أجمل صورة، و أعدل مسلك و منهج، و لنذكر بكل إمتنان و شكر و إجلال أن ربنا جل شأنه قد كرمنا على سائر خلقه و أعتبرنا أهلا لخلافته في أرضه، و أعلم ملائكته بذلك {و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } فهل أحسنا الأداء و حملنا الأمانة بحقها و وعينا قانونها و متطلباتها و منهجها، و حرصنا على أن نكون أهلا للكرامة التي وهبت لنا، و للإستخلاف الذي أنيط بنا،كي لا نستبدل بمن هم خير منا، فيحل بنا عذاب المستبدلين، من عاد و إرم و تبّع و قوم فرعون و غيرهم ، من خانوا العهد و أضاعوا الأمانة، و تنكبوا جادة، الصواب، فظلموا و فسقوا و عصوا و تألهوا ، فجرت عليهم سنة الله في الظالمين، {و جعلنا خلائف من بعدهم لينظر كيف نعمل، {ثم جعلناكم خلائف من بعدهم لننظر كيف تعملون}.
اللهم استعملنا و لا تستبدلنا و أهدنا سواء السبيل.