{ياايها المدثّر قم فأنذر و ربّك فكبر و ثيابك فطهّر و الرّجز فاهجر و لا تمنن تستكثر و لربك فاصبر .
الوحي يتنزل على النبي صلى الله عليه و سلم ملقيا إليه بأول كلمات الحياة الطيبة {إقرأ }، لكي تعرف و لكي تفهم الرسالة، و تتدبر ما حولك من بصائر و معطيات تسمى الحياة، و تدرك انها من صنع رب واحد قادر عظيم، معبود بحق دون سواه، و أنت تقرا بإسمه، و تعلّم بإسمه، و قد علّمك ما لم تكن تعلم، و تبلّغ بإسمه ما إئتمنك عليه من حمل ثقيل ثمين رائع و عظيم، رسالة الله العظيم إلى خلقه المكدودين الضالّين لتأخذ بايديهم إلى النور و لأنك تحمل أمرا طاهرا، و كنزا طاهرا، و منهجا طاهرا، فالطهارة الحسيّة و البدنية مطلوبة لتمام الأداء، و التكبير و الصلاة لازمتان للاستعانة على وعورة الطريق ، و شدائد المسيرة و شراسة المعركة، و الوحدانية و الصدع بها حقّ لله عندك، فبلغ الناس انّ ربّهم الله، لارب لهم سواه، و أن مادونه من المعبودات هباء زائف، و اصبر على ما ستواجهه من العنت و النفور، و الرفض و الصدود، و ربك الذي حمّلك الامانة معك، قريب منك، مراع لأمرك مشفق عليك من مستحقات المواجهة، و {اصبر فإنك بأعيننا} و ما ودعك فنسيك و لا قلاك فجفاك، فاهجر الرجز، و أطلق كلمة التوحيد في الارض، و اصبر لحكم ربك و اعبده حق عبادته {و اسجد و اقترب.}.
و يبدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم رحلته مع تغيير وجه البشرية المعذبة، و محو قوانين الجاهلية الخرقاء، و بث روح الوحدانية الخالصة في النفوس التي طالما اتخذت من دون ربها آلهة، صنعتها بأيديها، و أقامتها اربابا، دون أن تتوقف لحظة واحدة أمام الحقائق الجلية، التي ينطق بها كل نبض في الكون، و كل مسار و مدار و مشهد، و لكنها قلوب عليها أقفالها الصدئة، و جلوها لن يكون سهلا ميسورا، فاصبر يا رسول الله لحكم ربك، و أقم نفسك للدين حنيفا، و أجمع حولك القلوب النقية التي أراد لها ربها الهداية، و انطلق بسكون و سكينة، و تلمس خطاك المشفقة، في ظلمات ليل مكة الطويل، و حيثما وجدت قلبا نقيّا، فأسمعه كلام الله، و حيثما استشعرت عقلا نيرا فابدأه برسالة السماء، التي لا تفتح لها إلاّ القلوب الصافية الورد، الرقيقة الجانب، هلمّي ايتها القلوب السليمة التي طالما رغبت, عن أدران الجاهلية.
هلمي و اسمعي كلمات الله هلمي ايتها الإنسانة التي تشكّك بآدميتها قوانين الجهل الموروث، فتحكم عليها بالموت قبل أن تعانق الحياة، و أصغي للنداء الحاني الذي يقر لك بالكرامة، و يهبك من العطايا مالم تألفيه، أو تظني أنك بالغته ذات يوم، أقبلي بكل الأمل و الثقة، ايتها الأرواح التي عذبها طول الإستعباد، و احتضني بين جوانحك الكلمات الحانية، و أرسليها ندى في أوردتك العطشى، التوّاقة إلى العدل و الحرية و الإنعتاق، هلمّي و اتبعي رسول الله صلى الله عليه و سلم و استجيبي له و هو يدعوك لما يحييك حق الحياة. و تتهاوى الأقفال واحدا تلو الآخر، هنا امرأة كانت أول من أسلم، {خديجة بنت خويلد} و هنا غلام صغير، لم يسجد بعد لصنم و لا وثن و هو {عليّ بن أبي طالب}.
يصلّي معه في شعاب مكة مستخفيا عن الانظار، و زيد بن حارثة، الذي سرق من حضن أبويه طفلا، في ظل شريعة البقاء للأقوى، و ما تطاله يدك فهو لك، حتى و لو كانت نفسا إنسانية حرّة، لها أبوين يبكيان مصيرها، و بيع في مكة لتشتريه خديجة و تهبه لزوجها، الذي أعتقه و تبناه، بدافع من شعوره، الذي يرفض استرقاق الأرواح و استعباد الأبدان، و كيف لا يكون كذلك ؟و هو الذي فطره ربّه على الرحمة ؟و أودع في قلبه الرأفة و الإشفاق ليكون أهلا لحمل رسالة الحريّة و الكرامة إلى الإنسانية بكل أطيافها ؟
و هنا أطهر و أفضل و أعظم قافلة حملت على عاتقها إبلاغ الرسالة الشريفة، و احتمال تبعاتها، أبو بكر الصدّيق، يدعو كل من يعرف فيه الحكمة، و يظن به الخير، و هنا سعد بن ابي وقّاص، أول من أراق دما في سبيل الله، و أمين الأمة أبو عبيدة، و عثمان بن عفان، الكريم الحيي، ذو النورين، و ها هي الوجوه الطاهرة تقبل على الدين الجديد، نفوس كريمة، و قلوب سليمة من كل موبقات الخلق الكريم، و أرواح حرة، تحلق في أعالي مواقع الحرية، رغم قيود العبودية المرهقة {بلال و سمية و زنيرة، و آل ياسر، مستضعفون و مسترقون و محرومون، ضحايا حقبة مظلمة ظالمة، أبلغ ما يقال فيها أنها {الجاهلية}.
فيا جبال مكة و رمالها و أوديتها، أصغي إلى روعة الآيات تتلى في بيت {الأرقم بن أبي الأرقم }، و ارقبي تسلل القلوب التوّاقة لكلمات الله، و هي تدلف كل ليلة إلى هذه الدار، و قد استشعرت رحمة الله و بين هذا الجمع الطيب يجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم يتلو كتاب الله و يعلمهم آياته و يزكيهم، و يستفيض بالتوضيح و الشرح، و يحلّق بهم في روابي الجنان، و يعدهم بالتمكين من ربهم، و هو صادق و هم مصدّقون،و هو راج آمل واثق بربه، و هم منه يستمدون ذات الشعور، وخافه يصطفون للصلاة، تلك الشعيرة التي تمدّ أهلها و المصطبرين عليها بالقوة و القدرة و الحماس، و تفتح لهم باب رحمة و طمأنينة، و تصل أرواحهم بخالقها، فلا ترى بينها و بينه حاجزا و لا حجابا، و تقبل على الدعوة إليه لتنشر النور الذي تحيا به، و تبث السكينة التي تستشعرها بين جميع النّاس، على أمل أن تغيّر الرسالة الربانية وجه الحياة الكالح، و تستبدله بنور العدل و الحق و الصلاح لكل نفس على وجه البسيطة، و كلّها أمل ألا يظل فيهم شقيّا و لا محروما.