من المفارقات العجيبة التي لا تحدث إلا في الجزائر، و التي تثير الكثير من الحيرة عند البعض، و الكثير الكثير من الأسى و الحزن عند البعض الآخر، ممن لهم وشائج قوية تربطهم بهذا الوطن، الذي تنشقوا شذاه، و افترشوا أرضه، و استظلوا بسماه، و باتوا لذلك يفرحون لفرحه، و يتألمون لترحه، فعيونهم به معلقة لا تنظر إلا إليه، و أرواحهم إليه مشدودة، لا تسعد إلا به و لا تحن إلا إليه، يرجون له الخير، و يخافون عليه الغير، يذكرون خيره و يشكرونه، و يغضون عن ظلمه و جوره، فهم كما قال الشاعر العربي:
بلادي و إن جارت عليَّ عزيزة
و قَومِي و إن ظنُّـوا عليَّ كرام
و هؤلاء لا يتصورون الحياة إلا في أكنافه و بين أحضانه، لا يطيقون فراقه، تضيق بهم الدنيا على رحابتها إذا ما فارقوه و ابتعدوا عنه، و تراهم يطول بكاؤهم عليه، و يشتد حنينهم إليه، يسعدهم جدا ما يحوزه من انتصارات و يحققه من انجازات، و يسوؤهم كثيرا ما يقع له من عثرات، و هذا الصنف بالذات يتساءل ساخطا محتارا، و مضطرا لا مختارا:
لماذا لا يزال رسميّونا السياسيون منهم و الإداريون يعتمدون اللغة الفرنسية للتعبير و التسيير بلا خجل و لا حيا ء، مع علمهم أنها لغة المحتل الفرنسي الذي غزا البلاد و أذل العباد، أيعقل أن تبق إدارتنا و جميع هياكل دولتنا رهينة هذه اللغة حتى اليوم و قد مضى عن استقلالنا اثنتان و خمسون سنة ؟ أين الوطنية التي تزايدون بها يا مسؤولينا أليس من مقتضياتها أن تحترموا لغة الوطن و تجعلوا منها أداة لكل علم و فن؟ لقد كان لكم العذر في مطلع الاستقلال لقلة الإمكانيات ونقص الإطارات في اللجوء إلى الفرنسية لتسيير شؤون البلاد و مصالح العباد ، و لكن هذا العذر قد سقط اليوم و لم يعد إصراركم على استخدام الفرنسية مبررا و لا مقبولا، و ما عاد يحمل منكم إلا على محمل احتقاركم للعباد و استهتاركم بسيادة هذه البلاد، فما علمنا أن ساسة أو إداريين في البلاد الأخرى يخاطبون شعوبهم بغير لغتهم الرسمية التي أقرها الدستور، و ارتضاها أداة للتواصل مع الجمهور، إن هذا حقا لمما لا يحدث إلا في الجزائر...
كما يتساءل محتارا، مضطرا لا مختارا: لم إذا ما أصاب مسؤولينا داءٌ عُضال، شدوا إلى الخارج الرحال طلبا للتداوي و العلاج؟ فإن كان هذا التصرف منهم ينبي عن عدم ثقتهم في قدرة مشافينا على حسن التكفل بهم، و بذل العلاج المناسب لهم، فإنه ينبي كذلك عن تقصيرهم في النهوض بمهامهم، و سكوتهم عن هذا الأمر، و يطعن في أهليتهم لقيادة البلاد و السهر على شؤون العباد، أو ليس اثنتان و خمسون سنة من الاستقلال بكافية لتطوير المشافي في البلاد، و تجهيزها بالعتاد المناسب، و إمدادها بالإطار الكفء الذي يحسن أداء الواجب؟ إن هذا حقا لمما لا يحدث إلا في الجزائر...
و هذا الصنف من الناس يتساءل محتارا مضطرا لا مختارا: لم يعاقب المواطن البطال، إذا شد إلى الخارج الرحال، طلبا للرزق المفقود، و سعيا إلى حل منشود، و لا يعاقب المسؤول الذي أساء التدبير، و لم يحسن التسيير، و لم يستطع أن يوفر له فرص العمل، و اضطره إلى أن يهجر البلاد و يرتحل؟ إن هذا حقا لمما لا يحدث إلا في الجزائر...
إن ما يحدث في الجزائر لهو حقا من المفارقات العجيبة، التي يحتار لها أهل النهى، و إن أطالوا التفكير فيها في الصبح و المساء، لأنها كالطلاسم المزعومة، تبقى دوما غامضة غير مفهومة...
This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.