البيد جذلى و كأن الغيث كساها حلل البهاء،و رمال الصحراء تتلألأ و قد شرّفتها خطى الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلّم، و هو يطويها مهاجرا إلى الله قاصدا تلك الكوكبة الطيّبة التي سبقته، و تلك التي آوته و تعاهدت معه على نصرة الله و رسوله، و الذود عنه، و منعه من كل عدوّ، و يثرب اليوم على موعد مع بدرها الجميل، و نبيها الجليل، و المسلمون يترقّبون قدومه على أحرّ من الجمر، تتنازعهم الأشواق و الحنين إليه، و المخاوف عليه من الطلب الذي بذلت فيه قريش النفائس، و يطلع الصبح على القوم و هم على أبواب يثرب، و تبزغ الشمس و يشتد حرّها و هم يرقبون، و تغيب الشمس و هم يأملون.
فالقادم المنتظر حبيب، و من الأرواح و المهج قريب، ينتظرونه، بلا ملل، و يطوون الليالي و هم يغالبون مخاوفهم و أشواقهم، و هو يدرك ذلك منهم، و يعلم أنّهم إليه في شوق، و عليه في قلق، و لكنه لايملك إلّا أن يسير و يسير، في طرق غير مألوفة إمعانا في تظليل المشركين، و يشتدّ أوار الشمس و لظاها، و يدخل النّاس بيوتهم يطلبون الظلّ، و ما دروا أنها اللحظة المرجوّة، و إذا البشارة تلامس أسماعهم، أن قد جاء رسول الله، و يهرع المسلمون صغيرهم و كبيرهم، رجالا و نساء، كلّهم يرجو أن يكون أول من يراه، و يحط رحله الشريف في قباء، في حرّ الظهيرة، و الصدّيق يظله برداءه، و الأهازيج تتغنّى بقمر الدنيا وشمسها و هاديها{طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع} فهو لهم نور، و عليهم رحمة ،و بينهم مطاعا وسيّدا.
و يؤسس الرسول صلى الله عليه وسلّم مسجد قباء، ليكون مسجد تقوى، و منارة هدى، في إشارة إلى أهمية المسجد و دوره الباقي على مرّ الزمان، و لتظلّ الأمة المحمدية تتخذ من مساجدها منابر نصر و علم و جهاد، و دعوة خالصة لوجه الله، و ينزّل الله في مسجد قباء قرآنا يتلى أبد الأيام{لمسجد أسّس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا و الله يحب المتطهّرين}، و يرتحل الرّسول صلى الله عليه و سلم إلى داخل المدينة، و تحين صلاة الجمعة، و هي اول جمعة تصلّى بالمدينة المنورة، و يفيض الرسول الكريم على اسماع المسلمين و قلوبهم، من درر الكلام ولألاء الحكم وبليغ القول، مما فتح الله به عليه من القول الجميل الذي هو {وحي يوحى}، لا لغو فيه و لا هوى و لا ضلال{إنّ أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زيّنه الله في قلبه، و أدخله في الإسلام بعد الكفر، و اختاره على ما سواه من أحاديث النّاس، إنّه أحسن الحديث و أبلغه، أحبّوا الله من كلّ قلوبكم، و لا تملّوا كلام الله، و لا تقس عنه قلوبكم، فإنّه من يختار الله و يصطفي فقد سمّاه خيرته من الاعمال، و خيرته من العباد، و الصالح من الحديث، و من كل ما اوتي النّاس من الحلال و الحرام، فاعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا، و اتقوه حقّ تقاته و اصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، و تحابّوا بروح الله بينكم، إنّ الله يغضب أن ينكث عهده}
أيتها المدينة المنوّرة أبشري بالأمن و الأمان، ففي ظلالك يتفيا خير البشر، و بين ربوعك حلّ سيد الانبياء و فيك تآلفت القلوب و تآخت الأرواح، و الرسول صلى الله عليه و سلم يؤاخي بينهم مهاجرين و أنصارقائلا :{تآخوا في الله أخوين اخوين} لتبدأ مسيرة الدعوة و الجهاد، و المسلمون إخوة بعهد الله ،تقوّي شوكتهم الأخوة الإسلامية، و توجّه مسيرتهم التوجيهات النبوية، و تلتقي أرواحهم و تتحلّق حول نبيهم الذي ارتضوه نبيا و رسولا، يقيمون معه مسجده، الذي سيغدو المكان الارحب الذي تنطلق منه جيوش الفتح، و رسائل الهدى، و منه تدار الدولة الناشئة، و حوله حجرات من الطين و الجريد هي مسكنه صلى الله عليه و سلم، ألا فلتخجلي يا قصور كسرى و قيصر و يا منازل المترفين، فما على العدل قمت و لا بالحق بنيت، بل على عواتق العبيد و من دماء المحرومين إرتويت، و في الغي تمادى أربابك، و في الظلم رتع سكّانك، و على أشلاء الفقراء و الحزانى أقيمت اعمدتك الشامخات، و هي تشق عنان الفضاء، و لا تدري أن ساعة الحق قادمة، و أن هذا المهاجر الذي أخرجه قومه أن يقول ربّي الله لا شريك له، سيقيم الملّة العوجاء و يرفع الظلم عن كاهل المكدودين، و يرفع ذكر الله في مشارق الارض و مغاربها، هذا النبي الذي يسكن حجرات من طين و جريد، لو طلب من ربّه جبالا من لؤلؤ لآتاه أو أنهارا من ذهب لاجراها بين يديه، و لكنّه يبغي شيئا واحدا أن يمكّن الله له دينه الذي ارتضى له، وأن يهدي البشرية على يديه، فيكون مسجده الذي هزم روّاده جحافلكم، مجرّد لبنات من طين، و يكون فراشه مجرّد حصير، أثرت في جنبه الشريف، و لكن هيهات لكم ما ناله عند ربه من المكرمات له و لأمته {مابين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة، و منبري على حوضي}
و يلتئم شمل المسلمين في المدينة المنوّرة، و يصطفون خلف رسولهم صلى الله عليه و سلم كل يوم خمس مرّات ، يؤذّن فيهم بلال الحبشي، ذاك الذي بقيت ترنيمته الثابتة، نشيدا لكل مضطهد صابر على دينه {أحد أحد }، ينطلق صوته الندي مؤذنا {الله اكبر}، و من أحق منك يابلال بإعلائها اليوم و أنت حرّ الرّوح و الجسد، و قد أعليتها و كنت عبدا تعذّب و تساوم عليها في هجير مكة، هنا في أفياء نخيل المدينة المنوّرة و في مسجدها الطهور و من حجرات الرسول الكريم، انطلقت بشائر الدولة العادلة، و تناقلت الدنيا شرائعها المتسامحة، و أفاضت على الكون بغيث الحضارة القائمة على تكريم الإنسان كإنسان، و اعتبار الناس كلّهم أهلا لدعوة الله و خيرها العميم، و ستعرف البشرية و إلى أن تقوم الساعة، أن ما جاء به محمد رسول الله، هو المخرج الوحيد للبشرية من مآزقها و مظالمها، و تبدأ الفتوحات الربّانية على مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم و أهلها و من حولها، في حركة سريعة تجتاح امامها كل قيم الجاهلية الحمقاء و تحقّ الحقّ و تبطل الباطل و لو كره الكافرون.
Comments
Is this a paid subject matter or did you modify it yourself?
Either way keep up the nice quality writing, it's uncommon to peer a great weblog like
this one today..
on Askjeeve for something еlse, Nonetheless I am here now and would ʝust liƙe
to say many thanks for a tremеndous post and a all roսnd enjoyable blog (I аlso love the theme/design), I ɗon't have time to look over it all at tҺe moment but
I have book-marked it and also added your RՏS feeds,
so when I havе time I will be bacҡ to read a lot more,
Pleasе do keep up the fantastic job.
wrote the e-book in it or something. I think that you just could do with a few p.c.
to force the message home a little bit, but
instead of that, this is wonderful blog. An excellent read.
I'll certainly be back.
RSS feed for comments to this post