قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

لأنه ببساطة ترك الله عز و جل لنا حرية التقنين لأنفسنا فيما سكت عنه، و ملأ القرآن الكريم بأوامر صارمة في إعمال العقل و الفكر للتعامل مع أمور الحياة، ثم نحن نعاني من غلبة الجنس الأبيض و الأصفر حضاريا! فكيف بنا ننتحر لمجرد أن القانون الدولي وضعي؟؟

ليس الرئيس بوتين بالرجل المثالي، فهو لا يحلم و لا ينظر، بل يعيش الواقع بمرارته السوداء، لهذا فهو يرى أن النظام العالمي سيسقط لا محالة إن لم يتضمن قدر من التوازن و العدل، شرطان غائبان تماما مع إدارة أمريكية أحادية للعالم، و ها أننا رأينا ماذا فعلت الإدارة الأمريكية بالقضية الفلسطينية منذ 1993، أفرغتها من محتواها بحيث أصبح أطفالنا يضحكون لدرجة البكاء من القصة الهزلية المسماة فلسطين!!!

من الطبيعي أن يفكر الرئيس بوتين في رفعة روسيا، و مصالحها، و مجال نفوذها، كل هذه الاعتبارات طبيعية لأي قوة عظمى، إلا أن الرؤية التي يدافع عنها بشراسة بوتين، ألخصها فيما يلي:

Enough is enough.

وهذا أيضا انطباعنا العميق، نعم نريد دخول نظام عالمي جديد و لكن ليس من صنع أمريكا، فما نحبذه كمسلمين أن يترك لنا حق تقرير المصير، و نحن أذكياء بما فيه الكفاية لنضمن حد أدنى من رعاية مصالح القوى العظمى في مجالنا الحيوي، لكن كفانا وصاية متغطرسة على رؤوسنا، أرواحنا، عقولنا و وجودنا.

و دائما في مجال حديثه عن القانون الدولي، قال الرئيس بوتين: "القانون يبقي قانون، و لا بد لنا من إتباعه أعجبنا ذلك أم لا".

و هنا إشارة مباشرة منه للمزاج الأمريكي المتقلب فيما يخص تعامله مع القانون الدولي، فنحن رأينا كيف أن إدارة بوش فبركت الأدلة ضد نظام صدام حسين رحمه الله، و شنّت حربا على العراق بدون الضوء الأخضر لمجلس الأمن، فبالله عليكم كيف لدولة عظمى مثل أمريكا أن تتصرف مثل الخارجين عن القانون، و نسكت، و نذل أنفسنا لها، ثم نقيم الدنيا و لا نقعدها على موقف موسكو من النظام المستبد في سوريا؟؟؟

قال الرئيس بوتين، في مقالته دائما: "بالنظر إلى القوانين الحالية، القوة لا تستعمل إلا دفاعا عن النفس، أو كقرار رخص به مجلس الأمن. أي شيء آخر غير مقبول تحت ميثاق الأمم المتحدة ينظر له على أنه عدوان".

فلادمير بوتين في هذه الفقرة واضح وضوح تام، كفانا من استعمال القوة العسكرية خارج المقررات و القوانين الدولية!

قال أيضا الرئيس بوتين: "لا أنكر وقوع استعمال الغاز السام في سوريا، لكن هناك أكثر من داعي يقول بأن هذا الغاز لم يستعمله الجيش السوري، بل قوات المعارضة، لتتسبب في تدخل رؤساءها الأجانب الأقوياء، و الذين يختفون خلف الأصوليين".

لنقف هنا، أولا الرئيس بوتين يقر باستعمال السلاح الكيميائي، و قد سماه بالغاز السام، ثانيا ذكر نقطة هامة جدا و التي غيبتها وسائل الإعلام الدولية و العربية طبعا،  و المحللون السياسيون، و تتمثل فيما يلي:

هل من مصلحة النظام الإجرامي للأسد أن يستعمل السلاح الكيميائي في هذا الظرف بالذات، و هو الذي كسب الجولات الأخيرة ضد المعارضة المسلحة؟

و الرئيس بوتين مقتنع تماما أن مستعمل السلاح هذا هم الأصوليون، الذين يمثلون الذراع الطولي لواشنطن في المنطقة، لا أدري إن كان الجهاديين في سوريا من عملاء واشنطن، و هذا أستبعده، لكنهم يتلقون السلاح و الدعم من دول الخليج العميلة الوفية لواشنطن!

إلا أن موقف الرئيس بوتين مبني على هذا العامل المهم و هو: لدى المسؤولين الروس بصفة عامة قناعة تقول أن واشنطن مستعدة للتحالف مع الشيطان لتخدم مصالحها، و هي قادرة على فعل أي شيء لتصل إلى هدفها كان نبيلا أو قذرا.

المشكلة هنا تكمن في هذه المعضلة: ليس من مصلحة واشنطن و تل أبيب إزاحة الأسد، الحارس الأمين للحدود مع الجولان المحتل!

وقد استغل بوتين الفرصة ليرمي شوكة ناحية الحليف الإستراتيجي لواشنطن، تل أبيب، بقوله: "إنكم تشجعون الجهاديين الذي يخططون لضرب إسرائيل" (الرئيس بوتين، أحرص السياسيين الغربيين على أمن إسرائيل، لأنه يعلم علم اليقين بأن أمن إسرائيل يجنب العالم حرب نووية لا تذر و لا تبقي على شيء بحسبه).

أليس كل هذا مثير للشكوك و الريبة؟ فما جاء في هذا المقطع من مقالة بوتين يرمي بظلال حالكة على واقع الحال في سوريا و غيرها، فالرئيس الروسي بشكل غير مباشر أثار قضية: من يحرص على أمن إسرائيل عليه أن لا ينجر خلف كل ما من شأنه أن يزعزع الوضع القائم حاليا في المنطقة، و هنا فعلا مربط الفرس.

لماذا؟ لأن الخبراء الروس ينظرون هذا التنظير الجدير بالدراسة: الوضع القائم حاليا في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا يخدم بالدرجة الأولى مصالح إسرائيل العليا، فكيف نفسر التوجه العام من تل أبيب، واشنطن، باريس، و لندن، وبدرجة أقل برلين، في خلط الأوراق بحيث يصبح أمن إسرائيل معرض لهزات عنيفة؟

ما الذي يُطبخ في الخفاء؟ هذا ما يود معرفته الرئيس بوتين.

قال الرئيس بوتين في نهاية مقالته: "يرد العالم بالتساؤل: إن لم نعتمد على القانون الدولي، عليك بالبحث عن سبل أخرى لضمان الأمن، وهذا العدد المتنامي للدول التي تبحث للحصول على أسلحة دمار شامل. و المنطق يقول: إن مالك القنبلة لا أحد سيعتدي عليه، في الوقت نفسه الذي نتحدث فيه عن لزومية عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، مثل هذا المفهوم يتآكل".

إذن وصلنا إلى العقدة السياسية في كل ما يجري في قلبنا النابض الشام، إلى متى السباق للتسلح، التسلح بسلاح الدمار الشامل؟ لفائدة من، و ضد من سيستعمل؟ و أول دولة جديرة بالمسائلة في هذا الميدان هي دولة العدو الغاصب في الأرض المحتلة.

ثم كيف يعقل أن تملك الدولة السورية سلاح دمار شامل متمثل في السلاح الكيميائي، و من غيرها في المنطقة يمتلك مثل هذا السلاح الفتاك؟

إلى أين نحن سائرون، و نحن نعاني من داء الاستبداد السياسي، الذي جعل مبدأ التسلح بالسلاح المحرم أمرا جائزا، و تقهقر همّ تحرير فلسطين إلى الخلف، و هل الدول العربية و المسلمة لها مصلحة في استقلال فلسطين و دحر العدو الصهيوني؟

ثم هذا القانون الدولي، لماذا يطبق بطريقة تميزية جائرة؟ و إلى متى تبقى واشنطن تنظر إلى العالم كأنه اسطبل من إسطبلاتها، تقرر متى تشاء استعمال القوة العسكرية الضاربة؟ و كيف لجيش الأطلسي أن يحمي الشعب السوري من الجيش السوري المتهم باستعمال السلاح الكيميائي ضد أبرياء، و لم تطلع في الجو طلعة أمريكية واحدة عسكرية تضرب الأهداف الإسرائيلية التي كانت تقنبل غزة بالسلاح المحرم دوليا؟

إلى متى الكيل بمكيالين؟ إلى متى؟ بالنسبة لي يعتبر موقف الرئيس بوتين أحد أكثر المواقف اتزانا أمام إدارة أمريكية خائنة لكل المبادئ، و هذا طبعا لا يبرئ ساحة موسكو من الكثير من الأخطاء الإستراتيجية التي وقعت فيها، و من أهمها بحث الرئيس بوتين على تعاون إستراتيجي مع منافس أمريكي، و ليس شريك موضوع في قائمة الجيش الروسي على أنه العدو الأول لروسيا!!!

ثم هل نحن واعون فعلا بمدى خطورة الموقف و الوضع برمته في أرض المسجد الأقصى؟؟ نحن مهددون بالفناء الشامل من جراء ترسانة نووية صهيونية، و الرئيس بوتين على علم تام بأن قادة العدو لن يترددوا لحظة واحدة في استعمال السلاح النووي، إن رأوا وجودهم مهددا في أرض فلسطين، و الحدود المفتوحة مع العدو على كل الاحتمالات من جهة مصر ،سوريا، و لبنان، ستزيد من نسبة الأخطار المحدقة بشعوب المنطقة، فهل وضعنا في حساباتنا مثل هذه الاعتبارات الدقيقة و الخطيرة جدا؟

أختم هذه الورقة بإيراد باللغة الإنجليزية آخر ما كتبه في مقالته القيمة الرئيس بوتين:

My working and personal relationship with President Obama is marked by growing trust. I appreciate this. I carefully studied his address to the nation on Tuesday. And I would rather disagree with a case he made on American exceptionalism, stating that the United States’ policy is “what makes America different. It’s what makes us exceptional.” It is extremely dangerous to encourage people to see themselves as exceptional, whatever the motivation. There are big countries and small countries, rich and poor, those with long democratic traditions and those still finding their way to democracy. Their policies differ, too. We are all different, but when we ask for the Lord’s blessings, we must not forget that God created us equal.

Published in سياسة

أكتب هذه السطور لأبين نقاط مفصلية في خطاب و فكر الرئيس بوتين، و التي استنتجتها من مقالته المنشورة في جريدة "نيويورك تايمز"، حيث يخاطب من خلالها الشعب و النخبة الأمريكيين في قضية سوريا الملتهبة. و قد اخترت بعض الفقرات التي أهمتني شخصيا، و لعلى أهملت نقاط أخرى وردت في مقالته.

أوضح أمر للقراء الكرام، لا أكتب عن الرئيس بوتين للدعاية له فهو ليس في حاجة لقلمي، و لا أكتب عنه انحيازا للخط السياسي الذي يمثله في أوروبا و آسيا، و إنما أخصص له هذه المقالة لأنه سياسي أوربي روسي بارع، رجل محنك، مسؤول سابق في جهاز المخابرات الروسية، أثبت بما لا يدعو للشك أنه صاحب رؤية مغايرة لرؤية واشنطن و بكين. حيث أشار الرئيس بوتين إلى ذلك في اجتماعاته المغلقة مع هيئة أركان حكمه:

"نحن نقرر مصيرنا باعتبار أن الإسلام و المسلمين جزء طبيعي و رئيسي في جسم روسيا الفيدرالية".

هنا ندرك أن المواقف التي يظهرها الرئيس بوتين، ناحية قضايا مثل الشيشان و سوريا، تبدو لبعضنا مواقف متصلبة و متشددة ضد الإسلام! لهذا يتوجب علينا تسليط الضوء عليها، ليس من زاوية التنديد السهل، و لكن من أجل قراءة فاحصة للموقف الروسي، لأنه إن كان غدنا آسيويا مع انحسار دور أمريكا، فسيكون روسيا أيضا باعتبار أن الرئيس بوتين يحضر لدور روسي أكبر بكثير مما هو عليه الآن في إدارة شؤون العالم، و على المسلم أن يكون فطن لِما يحاك ضده أو له.

فقد تعلمت من تجربتي المهنية في مجال متابعة الأوضاع الجيوسياسية عبر العالم، و على مستوى خط موسكو واشنطن، أن الرئيس بوتين هو أكثر رجال الدولة في العالم الذي يعني ما يقول، فهو حينما يصرح نفهم على الفور أن ما جاء في تصريحه لا يتضمن مراوغة، لا لف و لا دوران، و لا كلام مبطن أو تلميحات.

لهذا؛ أدعو قارئ المقالة المنشورة باللغة الإنجليزية على صفحات جريدة نيويورك تايمز[1]، أن يقرأها فقرة بفقرة، ليستوعب ما جاء فيها.

ففي الفقرة الثانية من مقدمة مقالته، يقول بوتين: "كان لمؤسسي الأمم المتحدة تصور يقضي بأن قرار الحرب و السلم يأخذ بالتوافق بين الأعضاء". و يضيف: "مع موافقة أمريكية، وقع تضمين ميثاق الأمم المتحدة حق الفيتو لصالح أعضاء مجلس الأمن".

في هذه النقطة بالذات وضع بوتين الأصبع على الجرح، فهو ذكَّر القارئ الأمريكي بالفعلة الغير الأخلاقية لإدارة بوش، بشن حرب على العراق متجاوزا الأمم المتحدة، و طبعا مجلس الأمن، أسلوب الرئيس بوتين معروف بأنه يستعمل لغة تُذكر الجميع بمبادئ بديهية في العلاقات الدولية، و لكن نتيجة غطرسة الإدارة الأمريكية و تعاليها فكثيرة هي القضايا التي عانت الأمرَّين من جراء سياسة واشنطن التمييزية.

نحن نعيش على وقع الذكرى 20 لاتفاقيات "أوسلو-واشنطن"، و نلاحظ تعامل الإدارة الأمريكية مع ملف فلسطين، و ما يسمى بقيام دولتين؛ واحدة إسرائيلية على ¾ الأرض التاريخية من فلسطين، و الثانية فلسطينية على أقل من ربع واحد من الأرض، و كيف أن عدم تحقق شيء من ذلك لم يحرج على الإطلاق إدارة أوباما، أو سابقه بوش، بل كل همِّ هؤلاء أن يجدوا تبريرات لموقفهم الهزيل في ملف سوريا!!

هذا الملف أسقط الأقنعة عن الوجوه، و من ساهم في إسقاطها بقدر كبير هو الرئيس بوتين، الذي قرر في هذه المرة أن ينزل بكل ثقل روسيا في قضية تعد جوهرية، ليثبت للعالم أن الوضع الدولي على ما هو عليه غير قابل للاستمرار.

و في الفقرة الموالية، ينبِّه الرئيس بوتين إلى ما يلي:

"لا أحد يريد أن تشكو الأمم المتحدة مما عانته عصبة الأمم عندما افتقدت لثقل حقيقي، و هذا يصبح ممكنا عندما تتجاوز بعض الدول المؤثرة الأمم المتحدة وترخيص مجلس الأمن الدولي".

و هنا مرة أخرى، يُظهر الرئيس بوتين إحدى نقاط ضعف مؤسسة دولية مثل الأمم المتحدة، و بالنسبة لنا كمسلمين إن صدَّقنا كذبة هيكل دولي مثل منظمة الأمم المتحدة فعلى هذه المؤسسة أن تخضع لرزمة قوانينها الداخلية، و التي تأخذ الطابع الدولي و تنصاع لها كل الدول الأعضاء فيها. فلاحَظ و بحق الرئيس بوتين، أن عصبة الأمم اختفت كتنظيم سياسي دولي، بفعل تجاوزات قامت بها بعض الدول الكبرى، مهملة دور المنظمة المؤسسة لتجمع كل الدول، و تسوي النزاعات فيما بينهم، و هذا في حدود عِلمنا لم تحققه الأمم المتحدة، لكن مجال نفوذ و عمل مجلس الأمن الذي وقع تضخيمه أصبح غير معترف به من طرف دولة عظمى، و هي الإدارة الأمريكية، و التي تتصرف بحرية فيها قدر كبير من التمرد الغير شرعي، و قدر أكبر من الاحتقار لبقية دول العالم.

في الفقرة التالية، يُقدِم الرئيس بوتين على التعبير عن موقف يستحق منا وقفة:

"إمكانية ضربة أمريكية لسوريا، رغم معارضة كثير من الدول و أهم الزعماء السياسيين و الدينيين لها، بما فيهم البابا، سيتمخض عنها مزيد من الضحايا و التصعيد".

لأصدُق مع قرائي الكرام، قرأت بعض تعليقات الصحافيين الغربيين ممن قرءوا مقالة الرئيس بوتين، و قد تجرؤوا على التنديد لاستشهاده بموقف البابا من ضربات عسكرية أمريكية ضد مواقع الجيش السوري، فكأن الرئيس بوتين ارتكب مُحرَّما من أكبر المحرمات بتعرضه لموقف البابا كبير رجال الكنيسة الكاثوليكية!! و هنا علينا بالتساؤل، طيب؛ ما الضرر من ذكر موقف البابا؟ أم أن ذِكر موقفه جعل الرئيس بوتين يخلط بين الدين و السياسة؟ هل هذا ما أثار غضب و سخط الإعلاميين الغربيين و المحللين السياسيين؟

و لأوضح نقطة أخرى، كثيرون عبر العالم العربي أوّلوا الموقف الروسي مما يجري في سوريا على أنه انحياز فاضح إلى جانب الطاغية الأسد، و هذا تأويل فيه الكثير من التبسيط الساذج، لأن الرئيس بوتين أكثر الرؤساء دهاءا، فهو على خلاف لندن و باريس و واشنطن يكره اللون الرمادي، إما أسود أو أبيض، ماذا أعني بهذا التوصيف؟

أعني أن الرئيس بوتين إعترف صراحة بأن الأسد ارتكب أخطاء فادحة، و أن عجلة الإصلاحات الفعلية و ليست الصورية، التي تؤدي إلى انتخابات رئاسية و تشريعية فعلية تأخرت جدا في سوريا. و قال أيضا: أن من يتحمل وزر ما سماه بالحرب الأهلية الجارية في سوريا هو الرئيس الأسد و المعارضة على حد سواء، و أنه إن تأكد فعليا بأن المجرم الطاغية يكون قد استعمل أسلحة كيميائية ضد شعبه فلن تتأخر روسيا في توجيه ضربة عسكرية له. مثل هذه التصريحات لم تأتي على لسان فلادمير بوتين لمجرد الاستهلاك الإعلامي و الشعبي، بل كل ما قاله كان يقصده، و قد صرَّح بأمور في الكواليس لم تتناقلها وسائل الإعلام العالمية، لأن مهمتها أصبحت ببساطة صرف أنظار الرأي العام العالمي عن جوهر الصراع الدائر في العالم.

القضية لم تكن أبدا حرية الشعب السوري، و حقه الشرعي في الحصول على نظام سياسي ديمقراطي نزيه، بل كل همّ واشنطن و بقية العواصم المؤثرة، كان منذ البداية كيف يُؤمَّن أمن الكيان المدلل في فلسطين المحتلة!!

هذا؛ و سياسة بوتين في المنطقة لم تراعي الحفاظ على نظام الأسد، بقدر ما كانت تبحث عن سبل تأمين حدود روسيا من جهة إيران، هذه الدولة الإقليمية التي تُسبب صداع الرأس لموسكو منذ زمن طويل، و التي أرسلت عدة رسائل مباشرة لبوتين بخصوص ملف سوريا، و آخر رسالة كان مضمونها ما يلي:

"سيدي الرئيس بوتين؛ عليك أن تدرك بأنه في حالة ما وُجِّهت فعليا ضربات عسكرية ضد نظام الأسد، فلن نبقى مكتوفي الأيدي في إيران، و سنتدخل أكيد". و هذا الكلام للرئيس الإيراني الجديد السيد روحاني.

إذن لنتصور موقف الرئيس بوتين، هو الذي كان يرى دائما أن سياسة أمريكا هي السبب الرئيس في التوترات الإقليمية التي تعرفها المنطقة، ودولة روسيا الفيدرالية هي الأقرب جغرافيا و بشريا من منطقة قلب العالم العربي الإسلامي "الشام".

لنَعُد إلى المقالة، يمضي في فقرته الرئيس بوتين قائلا:" قد تؤدي الضربات العسكرية ضد سوريا إلى توسيع دائرة النزاع خارج حدود سوريا، و بإمكانها أيضا تدمير مختلف الجهود لحل مشكل الملف النووي الإيراني، و النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، و قَدَما سيهتز استقرار الشرق الأوسط و شمال إفريقيا، و كذا إمكانية انهيار مجموع النظام الدولي القانوني و الإخلال بالتوازن القائم".

هذه الفقرة أوردت معناها، و ليست ترجمة كاملة لكلام الرئيس بوتين، في الجملة الطويلة الواردة على لسانه في مقدمة مقالته.

طيب الرجل الروسي الأول متخوف مما سيلي الضربات العسكرية الأمريكية لنظام الأسد، و عيناه منصبتان على الملف النووي الإيراني، و على ما سماه بالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بينما واقع الحال في هذا الملف الأخير يشير بخلاف كلمة النزاع، بل ما هو قائم حاليا بين فلسطينيين و إسرائيليين حالة توافق على حتمية السلام المذل للطرف الفلسطيني، و شيطنة مبدأ المقاومة المسلحة، لهذا اختلفُ مع توصيف الرئيس الروسي لمصطلح النزاع.

النظرة الروسية معروفة بربطها لمختلف القضايا المطروحة على ساحة العالم العربي الإسلامي، فبحسب الكرملين كل شيء مترابط، و ملف إيران له انعكاساته على كل دول الجوار و الإقليم، و إلى أبعد من ذلك، و نفس الشيء مع قضية فلسطين، و سوريا، و ليبيا، و مصر، و الخ...

في الجهة الأخرى من الأطلسي، في واشنطن، هم يحرصون على تجزئة و بعثرة كل القضايا، باعتبار أن خطة عملهم قائمة على نفي أي علاقة بين كل قضية و قضية أخرى، ففلسطين تعني فقط الفلسطينيين لوحدهم، و لا أحد من المسلمين أو العرب له الحق في التدخل في هذا الملف، و نفس الشيء في علاجهم لملف العراق، فإقامة نظام موال لأمريكا في العراق شأن عراقي بحت، و لا بأس من استئذان واشنطن لتكون العلاقة مميزة بين بغداد و طهران، و هكذا دواليك.

هنا نرى حجم الخلاف بين واشطن و موسكو؛ أوباما يفرق و يشتت، و بوتين يجمع و يربط، الأول يخاطب شعبه الأمريكي على أنه مخلوق من طينة خاصة، و الثاني يذكر شعبه و بقية شعوب العالم أن البشر كلهم خلقهم الرب و هم سواسية جميعهم!

ينظر الرئيس بوتين للتوازن الحالي في منطقتنا الحيوية من زاوية خاصة، لا أدري إن كنا كدول عربية و مسلمة نتمتع باستقرار! فاستقرارنا هش لا يعتمد على تفوق حضاري عسكري واضح، فنحن نستهلك أدوات الحضارة المبتكرة في طوكيو، بكين، سيول، لندن و واشنطن، و نشتري سلاح لا نحسن إصلاحه عند تعطله. ما هو هذا الاستقرار الذي يحرص الرئيس بوتين للحفاظ عليه؟

إنه استقرار الأمر الواقع، و الرئيس بوتين ليس حريص عليه كما نتصور، فالوضع القائم الآن في بلادنا لا يريح الجانب الروسي، لأن دفة الأمور عندنا تقودها واشنطن بمزاجية كبيرة، و إنما ما يخشاه الرئيس بوتين أن الوضع الهش جدا كما هو، بإمكانه أن يسوء و ينهار دفعة واحدة، و هنا الكارثة!

فما حرص على تفاديه الرئيس كنيدي، من المفارقة أن يكون الرئيس بوتين أحرص منه في تجنبه، و هو انفجار الترسانة النووية الإسرائيلية في قلب الأرض المقدسة للمسيحيين، الكاثوليك و الأرثودوكس!!!

فمن غير الحكمة أن ننظر إلى الملف السوري بمنأى عن الوضع القائم في منطقة الشام برمتها، فالوضع في العراق قابل للانفجار الرهيب في أي لحظة. و في فلسطين، استشعار الخطر بإمكانه أن يدفع الصهاينة إلى الحل الراديكالي، أما سوريا فلم يعد للأسد ما يخسره، و لبنان حزب الله سيقبل بأي شيء إلا أن تقطع عنه طريق المدد من إيران عبر سوريا، فلنتصور حجم الخطر المضاعف لضربات عسكرية أمريكية!!!

وأما الإشارة المفصلة للرئيس بوتين للأطراف المتنازعة في أرض سوريا، سأكتفي بإبداء ملاحظة واضحة:

لماذا هؤلاء العرب و المسلمين من السوريين و الغير السورين لا يتحدون في جبهة واحدة، ليكتفوا بالدفاع عن الأهالي السوريين الأبرياء المعرضين للاضطهاد من النظام الأسدي البعثي؟

لماذا لا يدافعون عوض أن يهاجموا في جماعات متفرقة، هذه جهادية و أخرى مقاتلة، هذا فصيل علماني و الآخر ذو طابع ديني، و من الجهة الأخرى جيش سوري مدعوم مذهبيا، من طرف كل الرجال الذين جُندوا في مختلف بقاع كوكب الأرض؟

أي جنون هذا؟ أي مصاب جلل هذا؟

نفعل بأنفسنا ما لم يفعله العدو بنا!!!

ثم أعرج إلى الملاحظة الحادة التي عبر عنها الرئيس الروسي لنظيره البريطاني في اجتماع الثمانية ببريطانيا، و هي خارج سياق المقالة إلا أنه يتعين عليّ التنويه بها:

"هل يعقل سيد كاميرون أن تناصروا جهادي سوري يأكل أحشاء بطن ضحيته من جنود الجيش السوري؟ هل يعقل أن يصل بكم العمى السياسي لهذه الدرجة، بحيث تتجاهلون أن بين هؤلاء ما تسمونهم بالثوار وحوش؟"

أذكر أنني أبديت نفس الملاحظة لرئيس تحرير مجلة العصر السيد خالد حسن[2]، فرد عليّ بأن تلك الحادثة المؤسفة، معزولة.

لأقولها بكل صدق للقراء الكرام: كيف يعقل أن نصف مثل هذا السلوك الوحشي بحادثة معزولة؟؟

أصلا لماذا وقع هذا السلوك البربري الهمجي باسم عقيدة موحدة حفظت للشجر و الحيوان كرامتهم. فكيف بالبشر و خاصة أسرى الحرب؟؟

ليست مثل هذه السلوكات حوادث معزولة، و لا نستطيع أن نسمح لأنفسنا بالتغاضي عنها، لأنها تكررت في مواقع عدة عبر الخمسون سنة الأخيرة، و هل نسينا ما جرى في الجزائر. فبحسب شهادة أحد الحراس الأمنيين لأحد الوزراء الجزائريين ممن قابلتهم شخصيا، و قد أدلى لي بهذه الشهادة المذهلة، أنه رأى بأم عينيه في مسرح مذبحة على أبواب العاصمة الجزائرية:

"جثة طفل ألقي به على الأرض حيا و بطنه على التراب، فإذا بقاتله أخذ فأسا حادة و هوى بها على ظهر الطفل ليرديه قتيلا بأبشع صورة، فقد فصل عموده الفقري إلى اثنين؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ هل مثل هذا التقاتل من صميم عقيدتنا الإسلامية؟ و لا يهمني من قام بهذه الجريمة، هل هي الدولة الجزائرية أم المعارضة الجزائرية المسلحة؟ فما يهمني أن القتلة مسلمون يشهدون بلا إله إلا الله محمد رسول الله!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

كيف سيناريو التقاتل ولج إلى أرض سورية؟ من سمح بالتدفق البشري من الجهتين؟ باسم ماذا يا رب؟ كيف نتقاتل و على ماذا؟

يسقط الاستبداد بوسائل سلمية غير التقاتل، ألم يطرد الشعب الصربي من السلطة المجرم سلوبودان ميلوسفيتش، و ذلك بالاكتفاء بالاعتصام المدني السلمي في كل شوارع بلغراد و المدن الكبرى الصربية؟ لماذا نحن المسلمين نلجأ إلى أبغض وسيلة عند الله، ألا وهي سفك الدماء، لنقتص لأنفسنا؟

هل فكر حاملو السلاح في سوريا أن القتال الذي انجرّت عنه معارضتهم للنظام المستبد، ستجلب لمائة سنة الآتية على شعب سوريا ويلات الجراح النفسية و الجسدية التي لن تندمل؟

هل فكروا في براءة أطفال ولدوا ليحرقوا أحياءا بصورايخ الأسد أو بمادة سارين؟ ألم يكن يجدر بالمعارضة السورية في الخارج أن تفكر جديا في تجنيب الشعب السوري مزيد من الويلات، على يد حاملي السلاح، ثم إن الرد على انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها النظام السوري ليست بهذه الصورة البشعة، التي تجعل شعب بأكمله بين المطرقة و السندان!!!

وفي فقرة موالية يقول الرئيس بوتين ما يلي: "نحن لا نحمي الحكومة السورية بل القانون الدولي"، و هنا لا بد لنا من وقفة أخرى، لماذا لا نصدق الرجل عندما يقول بأن همه ليس إدامة نظام الأسد المجرم، بل الدفاع عن قانون دولي أصبح في مهب الرياح بفعل سياسات أمريكية متغطرسة.

لاحظت أخت لي أحترمها، وهي من التيار الإسلامي بشيء من الحدة: يا عفاف لماذا تعطين كل هذه الأهمية للقانون الوضعي؟

Published in سياسة

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab